اللغةَ اللغةَ في كتاباتِنا معشرَ الكتاب

2021-11-24

عَلّي أبْتدِئُ فأقولُ : إنَّه لَمِنَ الغرابةِ أنْ نجدَ اللحْنَ في اللغة أو الخروجَ على ضوابِطِها ظاهرةً لا يَعْبَأُ بها بعضُ الكُتّابِ في عالم اليوم، كما قد يُلاحَظُ  في كتاباتٍ تزخرُ بها بعضُ صفحاتِ المجلاتِ والمدونات الألكترونية .  وإنّي لأُلقي التبعاتِ على الكُتّابِ انفسهم اولاً فالْأجدرُ بهم أنْ يُقدِّموا نِتاجاً يخلو من الخطأِ والخطلِ ما اسْتطاعوا، وأنْ يُحافظوا على سُمعتِهم وسُمعةِ المنابرِ التي اتاحت لهم النشرَ ، وألاّ يفرحوا بأنْ يجدوا مادَّتَهم قد نُشرت وهي ملغومةٌ بالْأخطاء .

 

 إنَّ النتاجَ كثوبٍ أبيضَ سرعان ما تَبرُزُ عليه البقعُ السوداءُ مهما صغُرت فتشوه مظهَره .  علينا أنْ نفهمَ أنَّ ظهورَ المادةِ منشورةً ليس دليلاً على سلامتها لُغويّاً، ولربما تحولت إلى طلقةٍ تصيبُنا من حيث لا ندري، فتهوي بنا في موقعٍ لا نرتضيه، لدى القراءِ بل لدى اقرانِنا من الكُتّابِ الذين تبوَّءوا مقاعدَ مرموقةً في نفوسِ القراء .

 

 مجملُ القولِ علينا ألاّ نُخدعَ  في أنْ نرى نتاجنا منشوراً إلاّ اذا كان سليمًا معافى يتمتع بالقبولِ لدى القارئ الحصيف .  ولا تحسبنَّ - ابنَ عَمّي - أني ادعو الى غريبِ المفرداتِ او غامضِها، بل أدعو إلى اسْتعمالِ المفردةِ السليمةِ المفهومةِ التي تؤدي غرضَها في جملةٍ متكاملةٍ خاليةٍ من الأخطاء لغةً ونحواً، يليغة بعيدة عن العُجمة والركاكة اسلوباً واسْتعمالاً، وبعد ذلك فليكْتبِ الكاتب ما يكتب، وللجمهورِ الخَيارُ ان يقرأَ  له أو لا يقر أ.

 

 وإذا كنت أعطي العذرَ لمحرري بعضِ المجلاتِ الألكترونية اليومية، لا سيما تلك التي يحرّرُها كادرٌ قليلٌ عدداً ، متطوعٌ عملاً ، يعملُ ليلَ نهارَ عن رغبةٍ صادقةٍ لخدمة الكلمةِ دون مردودٍ مادِّيٍّ، كما هو الحال في المجلات الألكترونية التي تخلو من الاعلانات التجارية، اذ ليس من العدلِ ان نُحَمِّلَ هؤلاء مسؤوليةَ أنْ يتأكدوا من صحةِ كلِّ كلمةٍ، فهذا  جهدٌ جبارُ يفوق طاقاتِهم بل يحتاج إلى فريق عملٍ مهنِيٍّ متخصِّصٍ مُوَظَّفٍ لهذا الغرض .  أقولُ فإنَّ المسؤوليةَ هي مسؤوليةُ الكُتّابِ أولاً وآخراً ، وإنها الأمانةُ تقع على عاتقهم، احتراماً للكلمة التي ينشرون، واللغةِ التي بها يكتبون، والمنبرِ الذي من خلاله يظهرون، وتفادياً لما ستكون عليه نظرةُ  القراءِ، اذا ما تكررت الأخطاء .

 

 أنا لا اقصد مجلةً معينةً أو كُتّاباً محدَّدين، ولكني اقولُها صراحةً اني أجد احيانأً في بعض ما يُنشرُ، ما لا يُريح، لا بل أن بعضَ المجلاتِ لا تتورَّعُ عن جهلٍ أو دونَهُ أن تتحيَّزَ لأسماء معينة أو لجنسٍ معينٍ دون مراعاة الجودة، وربما اسْتبعدت الجيدَ ونشرت المعلول . 

 

وإني لأقول أننا معشرَ الكُتّابِ ينبغي ألاّ نغْتَرَّ بمجرد أنْ نرى اسماءَنا تتكرَّرُ على صفحات المجلات . علينا أنْ نعرفَ أنَّ هناك من يقرأ بوعيٍ رصينٍ، ويميز بين الغثِّ والسَمين ، فاذا ما تكرَّرتِ الأخطاءُ أياًّ كان نوعُها لغويّاً او نحويّاً او إملائيّاً او عَروضيّاً أو غير ذلك من العِلَلِ، فان ذلك سيُسْقطُ الكاتبَ مهما كثُر نشره، جالباً السمعةَ السيئةَ له وللمنبرِ الذي ينشرإ فيه .

 

 انا اعرف أنَّ كثيرًا من الكُتّابِ متميزون في كتاباتهم المتنوعة، لهم مكانتُهم وجمهورُهم واني لأرفع قبَّعتي لهم احْتراماً، لانهم مستمرون في العطاء، يكتبون الكثير الراقي تطوعاً لا يبغون إلاّ زكاةَ ما يحملون ويملكون، إلّا أني أرى احياناً نماذجَ لا تميز بين أبسط  قواعد النحو ، أو ترصف كلماتٍ لا تعرف ما المقصود وراءَها، أو تكتب شيئاً على أنه شعرٌ وما هو بشعر . 

 

 إني لا أدعو إلى التضييق واقْتصار الكتابة على النُّخبةِ، بل أدعو إلى فتح المنابر للكُتّاب الجدد في شتى الميادين، والأخذ بأيديهم، على ان يَسْعَوْا إلى عرض نتاجهم على من يثقون بهم قبل النشر .  وأنا إذ أكتب هذا فلا ادَّعي الكمالَ، ولست مختصّاً بالّلغة لكني أعشقُها وإنْ كنت مهتمّاً بشؤون العلوم والهندسة، ولا أظنني الّا متعلِّمًا .  أنا اؤمن بأنَّ مسالةَ العلمِ ينبغي ألاّ تتوقفَ ، ومتى يظن الفرد أنَّها قد انتهت عنده، فإنَّه يحكم على نفسه بالموت .  علينا أن نتذكر أنَّ الحياةَ مدرسةُ، يمكن للإنسان أنْ  يتعلمَ منها ما لا يتعلَّمُه من الكتاب .

أنا اذ أوجِّه الآن دعوتي عامة، منطلقًا من هدف الحفاظِ على سلامةِ لغتِنا الجميلة، فإنني لستُ بأول الداعين ولن اكون آخرَهم، فلقد سبقني كثيرٌ من الغيارى دعوةً وتطبيقًا، ولست بالأحرص منهم .

 

 أذكر أن إحدى الصحف الرئيسيةِ في العراق، كانت  قد نشرت لي مقالة قبل أكثر من أربعين سنة،  تحت عنوان "اللغة اللغة في كتاباتنا العلمية".  كانت المقالة تدعو من يكتب في العلوم باللغة العربية إلى الحفاظ على سلامتها، وقلت ما نصه "إنك لا تنتقصُ من أهمية موضوعِك الذي تقدمه إذا ما التزمت بقواعد اللغة (التي لا تحفل بها) بل أنك لتزيد الموضوع جمالاً وحيويةً حينما يخلو من كلمةٍ غريبةٍ أو خطأ معاب، فمتى كان للغة موقفُ الضدِّ من العلم ومتى كان للعلم موقفُ الضدِّ من اللغة ؟  إنهما - لا ريب - يشكلان نسقاً متناغماً تستجيب له العقول وتهفو إليه النفوس" .

 

 والطريف اني كنت في تلك المقالة  قد تناولت بالتعليق على مُؤَلَّفٍ طبعته جهة رسمية، وكان الكاتب هو أحد الأساتذة ممن درَّسني في إحدى سِنِيِّ دراستي الجامعية الأولية،  لا بل صادف أن أُختير رئيساً في مناقشة رسالتي لنيل أول درجة من درجتي الماجستير التي أحمل !  لقد كنت جريئاً بل متحمِّساً في تبيانِ 44 كلمةً مخطوءةً في مُؤَلَّفٍ صغيرٍ يتناولُ مفهومَ النظرية النسبية . لم أكتفِ بذلك  بل ألقيتُ اللومَ على المؤسسة الناشرة وقلتُ  كان عليها ألاّ تنتهي إلى طباعة الكتاب ما لم تتأكدْ من صحة ما ورد فيه لغويّاً، وأن كان الكتابُ يتحدث عن موضوع علمي صرف .  وحين تناهى إلى سماع المؤلِّفِ الفاضلِ ما كتبتُ عن مُؤَلَّفِه، تقبل ما ذهبت اليه بصدرٍ رحب .

 

 ومن المواقف الأُخرى في ذلك الوقت الذي كان للكلمةِ حُرمتُها - مسموعةً او مكتوبة - واتمنى لو اسْتمرَّت هكذا، ان أُنيطتْ بي مسؤولية تحرير احدى المجلات العلمية المهمة . وأذكر اني تسلَّمْتُ بحثاً علميّاً من إحدى الدول العربية .  وحين اطلعت عليه رفضت أن أُوافق على نشرِه في المجلة، وأعَدتُه الى مؤلفه معتذراً عن عدم  موافقتي على نشر البحث في شكلِه المُرسَل ما لم يتم تصحيح ما انْطوى عليه من أخطاءٍ لغويةٍ شوهته وربما أوهَمَت القارئ . 

 

أنا اليوم أدعو كُتّابَ الثقافةِ العامة وليس العلوم حسب، إلى الحرص قدر المستطاع، والمراجعة الجادة لما يكتبون من مواد قبل أن تصار إلى النشر، فكم أرى سقطاتً لغويةً ونحويةً واملائية، وكم أرى خروجاً على العروض في ما ينشرعلى أنَّه  شعر وما هو كذلك ، فأقول، والوصية لنا جميعاً، ولا أستثني منّا أحداً : اللغةَ اللغةَ في كتاباتنا معشرَ الكُتّابِ، فالمسؤوليةُ مسؤوليتُنا، وأعرف أنها ليست يسيرة .  نحن نسعى إلى الكمال ما اسْتطعنا، وكلنا يقع في الخطأ، وخيرُنا من يحاول أن يقلِّلَ من الأخطاء، إن لم نقل يتفاداها ما استطاع، وألاّ يستمرَّ في الخطأ لِكَيْلا يُصبِحَ مأْلوفاً، سلام .

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved