عبدالرحمن عفيف/الشاعرُ ناثراً

2021-05-11

في سيارةابن صراف

الكمان من أرقى الآلات الوترية ذات القوس, جسمُه من خشب القيقب والقوسُ من عود الخيزران، مشدودٌ عليه خيوط من شَعر الخيل وصوتُه من أحنّ الأصوات . ذاك تعريف للكمان الذي كنتُ أتدرّبُ عليه قبلَ أكثر من أربعة عقود، واقتنيتُ واحداً منه لأعيد بذاكرتي لتلك السنوات التي انطفأت من حياتي،غيرَ أنّي تذكرتُ ابنتي دارين التي طلبت مني ذات يوم تلك الآلةَ ... فأهديتُها إياها .

سمعتُ والدي يقرأُ شعراً يتوهّج بالخيال، ثم مُستدرِكاً لأخي عبدالرحمن عفيف.. ثم مرشداً له :"النثرُ يُقرأ أكثرَ من الشعر، فالشعرُ متكلّفٌ مهما كان ناثرُه أو ناظمُه خبيراً بعوالم النثر والنظم، أمّا القصةُ أو الحكايةُ فيفهمها الكلُّ .... حتى البسطاء  دون إعمال واجهاد الفكر .

هذا ما دار بين والدي وعبدالرحمن المستمع إليه، وأنا المتلصّص عليهما . سرقتُ نصيحة والدي مُذّاك، أي قبلَ أكثرَ من ثلاثة عقود، وبقي عبد الرحمن أميناً لفضاء الشعر الخصب المتوهّج" وادي الديازيبام ونجوم مؤلمة تحت رأسي" ويبدو أنّ الزمن آنذاك كان زمنَ شعر فقط، فاستحوذ الزمن على أزمنة وأمكنة عبدالرحمن في مغتربه منذ ربع قرن، وبعد ربع قرن خطف عبدالرحمن ذاكرتَه القصصية للخلف ليكتب مناخَ القصَّ الكردي..... أو السوري في العموم، غيرَ أن الخصوبةَ تجلّت في منبته"عاموداً وما حولَها"حيث المكانُ الأليف الذي يُعيد القاريء لألفته المفتقَدة ولأعشاش الطفولة والشباب الأوّل، هذا إن حوّرنا اسم البيت واستبدلناه بالعُش بحسب باشلار، فقرّاءُ في سيارة ابن صراف يفهم تفاصيل الكتاب ودقّة المكان  وشخوص الحوادث، هذا إن كان القرّاء من جيل عبدالرحمن وما بعدَه وما قبلَه، فهؤلاء القرّاء هم المشاركون معَه في الحدث أو هم الذين أَمْلوا عليه، وإن شطح بيَ الخيالُ لقلتُ هم الذين كتبوا أجزاءَ وخلعوا وركّبوا قِطعاً لسيارة ابن صراف، أتذكر دوستويفسكي  حين أنهى إحدى رواياته جمع أصدقاءَه وقال لهم "أنتم كتبتم هذه الرواية ....لا أنا" .  عبدالرحمن جرّب ذاكرتَه التي عادت به إلى عامودا الثمانينيّات.للصدق ما كان لعبدالرحمن ليكتبَ تفاصيل الحياة اليوميّة إلّا لأنه بعيدٌ عن المكان، فالأمكنةُ تُستعَاد أدقَّ إن ابتعدَ عنها مدوّنُها .

لو قرأ جيلُ الألفين هذا الكتاب فلن يستوعبَه ... فالمعالمُ كلُّها تغيّرت أو اضمحلّت أو اختفت من المدينة نهائيّاً.... إنها المدينةُ...  الأطلالُ، سأتخيّلُ عبدالرحمن زائراً مدينتَه عامودا الآن فلن يعرفَ أحداً فيها أو لن يعرفَه أحدٌ فيها... أتخيّلُه واقفاً على الأطلال، حيث لا صديقَ يُستوقَفُ ليشكو له عبدالرحمن شهقاتِه و زفراتِه .

تلك المدينةُ التي كانت موّارةً بالشعر والسياسة والأدب باتت الآنَ قبضَ ريح .

عظمةُ أبي تمّام تكمن أنّه الناطق باسمنا:"فكأنّني ـ مذ غبتَ عنّي ـ غائبُ" .

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved