أول الكلام :
لم يعرف البدو العرب في صحاراهم المهنة، فحياتهم بسيطة، يصنعون حاجاتهم بأنفسهم، وجُلُّها لا يحتاج إلى مهارة، فهم يحذقون نسج خيامهم، والخيمة لدى العرب هي بيت، وقد قال الشاعر الصعلوك النبيل عروة بن الورد :
وإن جارتي ألوَتْ رياحٌ ببيتها – تغافلتُ حتى يسترَ البيتَ جانبُهْ
وفي المعنى نفسه قال عنترة بن شداد :
وأغضُ طرفي إن بدت لي جارتي - حتى تُواري جارتي مأواها
ويعمل البدوي الحبال والأوتاد التي يدقها بالصخر، إن عزّت المطرقة، ويجمع الحطب ليشعل النار، التي هي شبه مقدسة، ومن لا يشعل النار عند الغروب يُذم ويصبح معارة، وقد قال الشاعر الأخطل هاجياً :
قومٌ إذا استنبح الأضيافُ كلبَهمُ – قالوا لأمِهُمُ بولي على النارِ
فتمسك البول بخلاً أن تجودَ به – وما تبولُ لهم إلّا بمقدارِ
لهذا اعتبر العرب بيع العمل مهنة، لاترفعُ قدر صاحبها بل تحطّ منه، وحتى السيوف وملحقاتها تستورد فالسيف يكون الأحسن إذا جاء من الهند حيث يسمى المُهنّد، ويكون مدعاة للتفاخر، وحين زرت متحف الأسلحة البيضاء في جيبور عاصمة راجستان الهندية ذهلت من تنوع السيوف والسكاكين والقيود والأغلال ورأيت سيوفا عمرها يزيد على الألف عام وخمّنت أن يكون المهنّد منها، وهو سيف جميل للغاية، ولأجل هذا وغيره فُتِن العرب بالهند بكل ما يأتي من الهند من عطور وأبخرة وسيوف وتوابل ومرايا، وحرير وأمشطة عاجية وأصباغ ومواد تجميل.. وتجد بعضها في معلقة امرىء القيس الذي شبّه البعر ب" حبات فُلفُلِ" والمرآة ب"السجنجلِ"؛ ومن علائم افتنان العرب بالهند أن أطلق العرب "مهند" على الصبي، وهند على البنت !
***
وبالجملة ازدهرت التجارة لدى العرب وقلّت المهن بل واحتقرت.. وهناك حديث عن أبي موسى الأشعري جاء في رياض الصالحين 4/363 : " إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ : كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً متفقٌ عَلَيهِ .! والكير هو منفاخ الحداد الذي يذكي الجمر ناراً لتليين الحديد حتى يطاوع الطرق !
وقد اشتقت المهنة من الإمتهان والإحتقار والجذر ثلاثي، مهن، وجاء في المعاجم :
- مهُنَ يَمهُن، مَهانةً، فهو مَهِين
- مهُنَ الشَّخصُ : حقُر وضعُف كانت مصيبته كبيرة فمهُن أمامها،
مهًن يمهُن مهناً ومهنةً : مهَن الشخصُ أي عمل في صنعته اتخذ حرفةً، مهَنَ الرجلَ ضربه، خدمه..
ومع انتقال الإنسان إلى الزراعة بدأ عصر المِهَن، أي الحِرَف وهي عدة مهن لصناعة أدواتها، من منجل ومحراث، ومذراة.. الخ وأصبحت هذه المهن مقبولة في المجتمع الزراعي..
وانطوى عصر الزراعة في العراق على مظاهر هي من عقابيل البداوة، إذ يُمجّد من يزرع الحبوب ويمتهن من يزرع الخضروات لدرجة يُطلق عليهم بالحساوية، مفردها حساوي ويقصد به الحمار الضخم المتين الذي لا يكل من التعب ! على أن زراعة الطماطة هي الأكثر امتهانا لأنها حديثة العهد في العراق ولا تؤكل إلّا في المدن وإليكم هذه الحكاية التي سمعتها من بعض شيوخ الكوفة : حيث حصل شجار بين بعض من أهل الكوفة وبعض أبناء العشيرة المجاورة لها، فانهزم أبناء العشيرة أمام أبناء المدينة الكثر وذهبوا إلى ديارهم منهزمين وعندما وصل الخبر لنسائهم قالت إحداهن "مهوال" (مهوال تقال للرجل وللمرأة) :
هاكم شيلتي .. انطوني جداريكم
شوف اهل الطماطة .. شعملوا بيكم !
والحدرية هي القلنسوة التي يعتمرها الرجل وتسمى في المدن "عراقجين" فرجع الرجال المنهزمين وهجموا على خصمائهم ليردوا اعتبارهم !!
الدكتور علي الوردي في كتابه "طبيعة المجتمع العراقي" يروي أن الحائك في المجتمع العراقي لا يتناسب أي يتزاوج إلّا من أصحاب مهنته لأن العراقيين يرونها مهنة لا تليق بالرجال!! عشت في الجزائر ووجدت أن باعة الحلويات من الزلابية وما شاكلها يختص بصناعتها وبيعها أبناء دولة مجاورة، وحين سألت عن السبب جاء الجواب أنها صنعة لا تليق بالرجال ! وكذلك مسح الأحذية حيث منعت هذه المهنة في الجزائر، وفي العراق الإسكافي وماسح الأحذية لا تجد فيهم العربي !! وفي العراق أيضاً لا تُقبل شهادة "المطيرجي" في المحاكم لكثرة ما يحلفون كذباً ويُتهَمون بشهادة الزور ! وهم عادة من العاطلين المتفرغين لمهنة تربية الطيور ولا يرحب بهم كجيران لكثرة صفيرهم والعبور على سطوح الجيران لمسك طيورغيرهم التي يستدرجونها بطيورهم بعملية الوحي !!
وفي العراق وغير العراق يطلق على الإنسان سيء الأخلاق أو الذي يتلفظ بألفاظ نابية بكلمة سوقي، من ساق يسوق سوْقاً، وتجمع "سَوَقة"؛ ومن يمارس العَفَطان وهي أخراج الصوت من الفم بشكل مستهجن يطلق عليه "عُفطي"! وأصدقكم القول أنني تعبت في اكتساب مهارتين فشلت في تعلمهما : الصفير والعَفْط !!
وهناك مهنة مقيتة هي مهنة المكاراة والذي يمتهنها هو المكاري وتجمع عُرفاً المكارية وفي اللهجة العراقية " مجارية" الجيم معجمة بثلاث نقاط، وهم من يتولون نقل الطابوق ومواد البناء الأخرى على ظهور الدواب لاسيّما الحمير، وهم طالما يتسمون بالفظاظة ويقسون على الدواب ويضربونها ضرباً مبرّحا.. ويتلفظون بكلمات نابية، ولطالما تحتك مؤخرة الدابة بسير من الجلد يشج البردعة على الظهر فيدميها مما يؤلم الحيوان ..
هناك مِهَن أحسبها انقرضت وهي مستهجنة عند العرب وأظنها مثل الحِجامة ونزاحة الكنيف.. والشرطة أو رجال الحسبة.. وهم الذين يحفظون النظام وطالما يلصق بهم تعاطي الرشاوى، روي عن المتصوف العارف أبي يزيد البسطامي أنه كان في مسجد وقد أوشك أو كاد وقت الصلاة وكان هناك شرطي نائم أراد أحدهم أن يوقظه ليصلي فصاح به البسطامي : دعه نائما فإن نومة خير من صلاته، فإن أيقظته سيؤذي العباد !!
أكتفي بهذا القدر..
22 آب 2020