نحن لا نعرف الفصول البينية، رغم أننا نبتهج بها ونتغنى بها شعراً وغناء، فالربيع ما أن يعلن عن نفسه برائحة القدّاح لأيام معدودات حتى يبدأ بالتلاشي، ويعلن عن نفسه بلطافة جوه ونسماته الباردة المنعشة، وفواكهه القليلة التي ما أن تلوح في السوق حتى تتلاشى، فالمشمش الفكاهة الذهبية العبقة يحل في الأسواق في نهاية الربيع لمدة أقصاها عشرة أيام أو أسبوعين لو طوّل؛ لهذا يُطلق العراقيون على الموصل ب "أم الربيعين" نتيجة اخضرار غاباتها واعتدال جوها لمدة تطول على باقي العراق وتقصر عن أوربا حيث الإخضرار ينجلي بعد ذوبان الثلوج وتورق الأشجار وتعبق رائحة الغابات ! وما أحسب الإنسان وحده يفهم الطبيعة وتقلباتها التي تظهر على مزاجه واختياره لملابسه، وأنما الحيوانات لاسيما الكلاب والطيور .. فتتناسل وتتكاثر بعد سبات ممل..
وأكثر ما يُسبت من المملكة الحيوانية هو الزواحف والسبب أن دمها بارد أو قل يتأثر بدرجات الحرارة الى درجة تقترب من الانجماد وقد تتعداها.. لهذا تنمو الزواحف في المناطق الحارة دون أن تسبت وإن أسبتت فلمدة قصيرة، ولهذا أيضاً تبلغ أحجاماً كبيرة فالكوبرا قد تصل إلى خمسة أمتار أو تزيد في الهند و أندونيسيا حتى تايلندا ! أما عن الأصَلات ك "البوا" في أمريكا اللاتينية والبييثون البورمي فحدث ولا حرج فذات مرّة قطعت الشارع بعرض تسع أمتار في بعض حقول الأرز التايلندية وانتظرنا في سيارتنا احتراما لها حتى تمر !
أفقتت صباح اليوم على صوت الشحرور الفاحم " كول تراست"، حيث يترنم بالألحان وهو من القلائل التي تترنم في الميلودي، وأعني لا يكرر نفس النغم بل يصعد وينزل في الدرجة الصوتية ويمدّ ويقصر في النغمة، يعشقه السويديون ويعتبرونه طائرهم الوطني، ومن يسمعه أول مرّة يتصوره مبهجاً في ألوانه، أنما الأمر خلاف ذلك التصور، فهو أسود اللون ذو منقار أصفر هذا هو الشائع منه، وقد يكون رماديا.. وفي حجمه هو أكبر من العُصفور ودون الحمامة ! يقول عنه السويديون بأنه طائر الغابة الخجول، لأنه طالما يُسمَع وقلّما يُرى !
مهلاً، فهذا الشأن يصح حتى منتصف القرن التاسع عشر، ومع توسع بناء المدن وزحفها على الغابات أصبح هذا الطائر يقترب من الأبنيه وقد يحلّ ضيفا في الشرفة (البالكون) إن أراد أن يغيّر نمط وجبته من الديدان والحشرات فلا بأس أن يتناول الأرز الأصفر وإذا خالطه شيء من اللوز والزبيب الأشقر سيكون شاكراً وقد يعبر عن شكره بمزيد من الترنيمات في الصباح الباكر! لأجل هذا سيختلف الى الشرفة وتسمعه أو ينتظر صامتاً مهذّباً ينتظر أن يرّق قلبك وتعطف عليه؛ تناولت أفطاري وصوّرت الغابة التي بدأت تتكلم عن الخريف، حيث بدأت البتولا بالإصفرار، والزان بالإحمرار في ذؤاباته والشهر القادم ستشتعل الغابة بالألوان من الأصفر فالبرتقالي فالأحمر الهادىْ فالأحمر الناري فالأحمر البني حيث تتساقط الأوراق وقد تتطاير! أنهيت قهوتي على ترانيمه وهو يرقب من أقرب شجرة صنوبر في الغابة ! سيهاجر الشحرور الفاحم في الشتاء إلى المناطق الدافئه في جنوب أوربا وشرق المتوسط ويصل إلى شرق العراق في بدرة وجصان والكوت وحتى العمارة، أظن أن العرب أطلقوا عليه زرياب بل لأجل هذا سُميّ المُغنّي أبو الحسن بن نافع الموصلي (173 – 243 ه) الداكن البشرة ب"زرياب"، يعتقد السويديون أن مشاهدة الشحرور الفاحم في الشتاء تعني أن تبدلاً سريعا سيحدث في الطقس !
لا يحلّ الخريف عندنا في العراق وإن حل فسيبرح سريعاً، هكذا شاهدت أشجار القوق (نوع من البتولا) المحيطة بالبساتين تصفر وتحمر ثم تسقط بفعل "جويريد" الذي يغزو الأشجار الورقية مثل التين والعنب فيجردها من أوراقها ولا يمهلها رويداً بينما لا يقوى على الأشجار الإبرية وأشجار الحمضيات ! ومن هنا اشتق اسمه ! لا أحسب أن الخريف محبوب لدى العرب، فلهذا يقولون لمن يتقدم في العمر بأنه في خريف العمر وأقسى من ذالك " أرذل العمر"، وأحسب أن يقال على الشخص صفة "خرِف" أو فعل " خرّفَ يخرّف" من الخريف أي تقدم بالعمر وفارق العقل والحكمة !
أترقب الخريف سأبتهج في الصباح لألوانه وأنا في صومعتي، وسأخرج إلى الغابة وسأوافيكم ببعض الصور..
21 سبتمبر/أيلول 2021