أول الكلام :
تراسلت مع الأستاذ س وقد كانت رسائله تعبر عن فكر متنور جاد، وبأسلوب علمي متحضر، وقد طاب لي أن أنشر آخر رسالة موجهة له، لأنني توسمت في نشرها (مع تغيير طفيف) ما قد ينفع الأصدقاء ..
***
أخي الأستاذ س
أحييك، فرحت بطرحك، ويسعدني الإختلاف ما لم يتحول إلى خلاف، لأنه (الإختلاف) يشيع الديناميكية في التفكير، مما يؤدي إلى نتائج طيبة..
سبق أن تناقشت مع أحد الإخوة في الفيسبوك وبدا لي رغم معلوماته الجيدة لايمتلك منهجا، بسبب الإيمان المتشدد بل التعصب وعدم الثبوت على قرار ويقفز من موضوع لآخر.. وراح يتطاول على حزب من أعرق الأحزب ويبحث في دروب الماضي ولا يرى في الوضع الحالي عواراً..!!
ما أراه جوهريا هو غياب ستراتيجية فكرية تتماشى مع روح العصر لدى العرب والمسلمين فهم حبيسو الفكر الديني والإنغلاق بما فيها لدى الشيوعيين والماركسيين.. كان المشروع الوحيد المعوَّل عليه هو التحديث الذي قام به محمد علي باشا الكبير (1769- 1849)، الذي نجح في إصلاحات جدُّ هامة في مجال التحديث الصناعي الذي مثّل نهضة هامة والخروج من سطوة الدين (الأزهر) وعلمن الدولة وساوى بين المسلمين والأقباط، وأسس الجيش المصري وجعل منه قوة ضربت الدولة العثمانية في عقر دارها واحتل الجزيرة العربية وقضى على الوهابية في عقر دارها أيضا (وهذا يفسر دعم الإنكليز للتحالف الوهابي السعودي) واحتل اليونان بعد اضطرابات دموية وضم السودان وأرسل البعثات وأسس مطابع...الخ وقبل هذا وجه ضربة لنفوذ المماليك بالمجزرة المشهورة في القلعة، وقضى على بقاياهم بزعامة الألفي المدعومة من قبل بريطانيا، وكان هؤلاء المماليك يشيعون الفساد ويعبثون بمصالح الدولة ويرهبون الناس تماما كما هو الحال حاليا في العراق.. وبانتقاله إلى اليونان شكل خطرا على أوربا التي اتحدت ضده وأسقطت مشروعه المهدد لمصالحها..
في اليابان الممزقة التي تحكمها العوائل والإقطاعيات وأدواتها من مقاتلي الساموراي والتي تشيع فيها الخرافة والتناحر القبلي؛ تهيأ لها شخصية عظيمة هو ميجي (1852- 1912) الذي درس تجربة محمد علي وأرسل وفدا انبهر لمرأى القطار وكانت كامرتهم تصور بتعجب وذهول.. وتتبعوا الإصلاحات الإقتصادية والصناعية في مصر وترجموا المؤلفات خاصة في شؤون الإدارة والإقتصاد والتخطيط والتي تعد من أساس نهضة اليابان (يمكن الرجوع لمقالاتي "في بلاد الهايكو"، ولي مقالات عن كوريا، ومقالات عن " شعوب تتقدم ونحن نتقهقر" أيضا نشرت في المثقف والنور وعربتايمز ومعكم وغيرها..) .
في كلتا التجربتين كان إقصاء الدين والتوجه العلمي وتحجيم دور رجال الدين وخلق دستور جديد وتأسيس لحكم علماني هو الأساس الذي أنجح التجربيتين ولانقلل من أهمية إرسال البعثات الدراسية والترجمة وبوجود حكم قوي ..
السؤال : هل هناك فرق بين الدين ورجل الدين بمعيار الفكر العلمي ؟
نعم هناك فرق محدود هو الفرق ذاته بين القرآن والإجتهاد في تفسيره وتناقضاته (الناس والمنسوخ) وكذلك في الحديث الوارد في القرآن الثاني (البخاري) من خرافات وروايات ( لا تختلف من حيث الجوهر عن مرويات الشيعة وخاصة في خرافات بحار الأنوار)، التي جعلت هناك ثورة عليها لدن مفكري مصر والشام وبعض مفكري المغرب العربي، وترى أن هذه البلدان إسلامها متجانس سني !! قد أبعدها عن الصراع الطائفي..
حالنا في العراق سأبدأ بالدين الذي فقد بريقه بسبب التدين بشقيه والفساد الشيعي أولا والظلامية العنيفة السنية.. كلها أفضت إلى سقوط أوراق التوت وهي نفسها تتكر تاريخيا بسطوة عثمان على بيت المال ونهبه هو وأقاربه، وسطوة ابن عباس على مال المسلمين في البصرة إبان خلافة علي !! واغتناء شيخ المضيرة ( أبوهريرة) الجائع من جماعة أهل الصفة ليتحول إلى صاحب عقارات وأموال حين عينه عمر واليا على البحرين!! ونواة المسألة تكمن في اجتماع السقيفة (الذي وصفه عمر بفلته وقانا الله شرها!! فلتة= فتنة) حيث القى أبوبكر خطابه ذا البعد الطبقي الحاد (خطاب التتويج) مخاطبا الأنصار: منّا (قريش) منّا الأمراء ومنكم (المهاجرون) الوزراء!!!
كل هذا يدفعني للقول إن الثقوب السود في تاريخ الإسلام هي التي تخلق الفساد والنظام الطبقي بين السادة والعبيد وما الفتوحات الا فرية لأنها بدافع الطمع والثراء "المشروع" لنهب البلدان الأخرى وسبي النساء والأطفال وبيعهم كعبيد!!
الحديث يطول ما يجعلني أدعو إلى العلمانية لا المدنية لأن هذه الأخيرة تتيح تكوين أحزاب سياسية دينية !!
نعم العلمانية شرط النهضة والفكر العلمي ودستور علماني واسقاط الدين من المدرسة والدولة ومنع رجال الدين من الإشتغال في السياسة هو الشرط لنهوض العراق .
مع محبتي واعتزازي
خالد
14 تموز 2020