عندما كُلفتُ بتدريس مواد تاريخ العمارة للجضارات القديمة، واجهتني أسئلة محيرة .. فوجدت نفسي أبحث في بطونِ تاريخ البشريَّة وإستغرقتني عدَّةُ تساؤلات، بل تعرَّضُت لألغازٍ مُعقَّدة وظواهرَ عجيبة، وقفت إزاءَها، في الغالب، حائرًا، مُتردِّدًا، وأحيانًا، يائسًا، حتَّى لو استنجدَت بأُمَّهاتِ المَراجِع التي كتبَها مَن يُسمَّون بعُلماء فلسفةِ التاريخ، لأنَّه لم أستطع أن أجد ، غالبًا، تفسيرًا مُقنِعًا لمسيرةِ التاريخ وأبرزِ ظواهره، مثلِ ظاهرة نشوء أو انتقال الحضارات في الزمان والمكان .
فكيف ظهرت الحضارة؟ ولماذا اضطلع بها بعضُ الشعوب دون شعوبٍ أُخرى ؟ وما هي أسبابُ نُموِّها وازدهارها ثمَّ ذبولِها وتدهورِها وتلاشيها لدى تلك الشعوب، ومِن بعدُ، أسبابُ ظهورها لدى شعوبٍ أُخرى، لتعودَ إلى النموِّ والإزدهار ثمَّ الإضمحلال فالموت ؟
فلماذا انبثقَت، مثلاً، أوَّلُ حضارةٍ على هذا الكوكب في أرض الرافدَين، قبل ما يُقارب ستَّة آلاف سنة ؟ ولِمََ نمت وتطوَّرت، ثمَّ ذبُلَت وتدهوَرت وبادت، بعد أَن نشرَت في العالَم أَهمَّ المُؤسَّسات الحضاريَّة الأُولى، مثلِ أوَّل مدرسة، وأوَّل برلمان يتألَّف من مَجلسين، وأوَّل نثر وشِعرٍ فـنِّيّ، وأوَّل مكتبة تحتوي على قوائمَ مُصنَّفة، وأَوَّل التشريعات، وأُولى القِيَم الأخلاقيَّة، وأُولى التجارب الزراعيَّة، وأُولى الحِكَم والمواعظ، وأُولى أناشيد الحبِّ والغَزل، وغير ذلك من سبعة وعشرين “أوَّل”، ذكَرها العَالِم الآثاريِّ “صموئيل نوح كريمر” في مؤلَّفه القَيِّم “التاريخ يَبدَأ في سومَر” 1.
ولماذا ظهرت بعد ذلك حضاراتٌ أُخرى عظيمة في نفس المنطقة، منها حضارةُ الفراعنة في مِصر، وحضاراتُ الأَكَّدييِّن والآشورييِّن والبابلييِّن في العراق، والفينيقييِّن في بلادِ الشام التي كانت تضمُّ سوريا ولبنان وفلسطين والأُردنّ، ولاقت نفس المصير المحتوم الذي تعرَّضت له الحضاراتُ السابقة !؟2 ثمَّ لماذا انتـقـلت الحضارةُ إلى أرض اليونان منذ القرن التاسع والثامن قبل الميلاد، وحقـَّقت أَعظم إنجازٍ فلسفيٍّ وفكريٍّ في العصور القديمة، ثمَّ بلغت أَوجَها في عصر أَرسطو فالإسكندر، لتبدأ بالانحطاط والتدهور بعد ذلك؟ ..أشهد أني قمت بالإطلاع على فلسفات وثقافات وآداب تلك الحضارات العظيمة و إستفدت كثيرا في توسيع مداركي و مداراتي الثقافية و الأدبية .. ولكني لم أستطع أن أجد جوابا قاطعا على سؤالي :
عن لغز نشوء الحضارة وسقوطها ! .