عرفتُ القاص والروائي غانم الدباغ في منتصف سبعينات القرن الماضي من خلال أربعة أعمال : ثلاث مجموعات قصصية (الماء العذب) و(سوناتا في ضوء القمر) (حكايات المدينة القديمة) و(ضجة في الزقاق) روايته الوحيدة وهي من قسمين كل قسم في كتاب .
(*)
فازت قصته القصيرة (الماء العذب) بالجائزة الثالثة في مسابقة نظمتها مجلة (الآداب) اللبنانية في 1954 : هذه السطور من ذاكرة طالب المتوسطة التي كنته ُ في منتصف سبعينات القرن الماضي، حين عاودتُ قراءة أعمال الدباغ قبل الآن استوقفني (ضجة في الزقاق) ومجموعته (سوناتا في ضوء القمر) اللغة القصصية الجديدة ً مقارنة بمجموعته (الماء العذب) التي أشعرتني أنها مختارات من جهده ِ القصصية المنشورة في الصحف الموصلية والعراقية في نهايات ثلاثينات القرن، أما مجموعته الثالثة فكانت أسلوبياً تقترب من التناول الصحفي الحاذق : كأن هذه المجموعة تريد مخاطبة الجيل الجديد من القراء بلغته .
(*)
رواية (ضجة في الزقاق) صدرت طبعتها الأولى بعد أن (ساعدت نقابة المعلمين على طبعه) وما بين القوسين مثبّت في الصفحة الثانية من الرواية. الإصدار في 1/ 4/ 1972 وقد صدرت عن (مطبعة الأديب البغدادية) وعدد النسخ( 500) نثبّت هذه الوثيقة لأن أحد الأدباء العراقيين نشر في صحيفة المدى بتاريخ 5/5/ 2019 الكلام التالي (ضجة في الزقاق : الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد سنة 2001 بطبعتها الأولى) .
(*)
تبدأ الرواية بصورة قلمية وجيزة ذات نكهة محفوظية نسبة لنجيب محفوظ في الثلاثية : (حين ينتهي من عمله في الدائرة لا يشغله بعدها ما يشغل الآخرين ) وما بين القوسين يجعلنا نعي أن هذا الشخص منشغل ٌ بذاته، وحين تبرأه المحكمة من تهمة المشاركة بالتظاهرة المناصرة للشعب المصري ضد العدوان الثلاثي، وهي تبرئة بشفاعة عمه العقيد المتقاعد، يخبرنا السارد العليم (ارتسمت ابتسامة عريضة على شفتيه وارتعش فمه، وتراقص رأسه، وشعر بأنه لا يستقر على رقبته، وخشي أن تصرخ البهجة من فمه أو يهرع إلى صديق عمه، فيقبل يده أو أي جزء في جسمه) نلاحظ أن السارد العليم أسهب متعمداً في وحداته السردية الصغرى ارتسمت/ ارتعش/ تراقص/ شعر/ تصرخ/ يهرع/ يقبل /: وهكذا وضحَ السارد للقارئ أن هذا الشخص هو الموظف في الأوراق المالية خليل حسين القولجي : غير معني ٍ بسواه .
لذا عليّ كقارئ أن أرفض الجملة الأخيرة من الرواية (إلّا أن شعوره باندحار الإنسان فيه كان أشد..) فهي جملة مقحمة على شخصية خليل، حين تتمعن قراءتنا في علاقاته مع الكل . الغريب في الأمر أن كل هذه المتغيرات المجتمعية منذ منتصف القرن الآفل حتى هذه اللحظة والمثقف خليل حسين القولجي لم يلهك، بل صارت له قبائل في مجتمعنا العراقي وبذات السلوك العائلي المقبوح، خليل : لا يحسن التعامل المهذّب مع أفراد عائلته ولم يستطع التأثير الاجتماعي في بيئته الشعبية، أو الدائرة التي يعمل فيها لا يهمه سوى تعاطي الخمرة والجنس وشراء الكتب والتنزه فيها . يتخلى خليل عن بعض ملبوساته لشقيقه حسام الذي يذرع الأزقة مع عصابة الكف الأسود، وخليل يذرع شوارع المدينة صحبة جماعة يثرثرون ويتفكرون فيما يجب أن يكون وما يجب أن لا يكون، وهم جلوس في المقاهي.. يشتمون المارة متذمرين دائما من كل شيء ومن جانب ثان فأن خليل يعي تفاهة حياته، ويتصدى لها بحياة أخرى في داخله، (وهكذا يشعر ببعض الرضى لكونه يخلق عالماً تصنعه قراءآته وتطلعاته الثقافية إلى ما يخالف واقعه /90) وبسبب هذا الوعي الثقافي المنغلق يصاب خليل بالوعي الشقي الذي يؤدي إلى (عذاب ورفض في علاقاته مع الناس، وعلاقة فيها ترفع على أسرته الصغيرة وشعوره بالغربة بينها) عيب خليل الطبقي يتكور في عدم قدرته لمطالبة عمه بحق أبيه من الإرث فيرى نفسه (أبن الطبقة التي زالت عنها النعماء وطوحت أرضها الخضراء) حين يكون مع الكتب تكتسب مشاعره عمقاً مع كل حرف جديد يطالعه وكل معرفة تزيد من خبرته النظرية للحياة فيرتفع ويسمو على نفسه . وبسبب هذا التعالي الثقافي لدى خليل يعاني خليل انفصاماً مع بيئته الشعبية، ويزداد شعوره حدة بالضعة التي يغرقون بها .
(*)
خليل قصد دكان الحاج يونس للتبضع المنزلي، فغمرته أمواج التظاهرة الموصلية المتضامنة مع مصر العروبة ضد العدوان الثلاثي . خليل متعاطف مع اليسار في مدينته، وكان على شفا حفرته من الإنتماء من خلال المحامي سعد الله الذي كاد يورطه، قبل أن يختفي من الرواية بتوقيت التظاهرة !!
وخليل يعيدني إلى الصفحة الأولى من رواية (القلعة الخامسة) رائعة الشاعر والروائي فاضل الربيعي، بطل الرواية يجلس في المقهى منتظراً بضاعة ً جنسية ً فيلقى القبض عليه، وهناك في السجن يتنوّر وعيه ويغدو يسارياً وشتان بين خليل وبينه .
(*)
في (ضجة في الزقاق) للقاص والروائي غانم الدباغ – طيّب الله ثراه -
المبنى الروائي يتكون من مستويين :
المستوى الأفقي : يحتوي الحياة اليومية لما يجري في منتصف الخمسينات وانتهاءً بالعدوان الثلاثي على مصر، والشخوص هنا يتأفقون بهذا المستوى، ولا يحيدون عنه .
المستوى الجواني : يتأفق بالشخصية المحورية : أعني حياة وأحلام الموظف خليل حسين القولجي وتنشطر شخصية خليل بين الكتب والجنس، والهندسة الروائية : تتوزع بمهارة بين النسق الرباعي التالي :
- السارد العليم
- الحوار الجواني بين خليل وذاته
- التداعي الصوري
- المحاورات بين الشخوص
(*(
تغييب فاعلية المرأة، بكل تنويعاتها : المرأة الأم، والأخت، وبنت العم.. وغياب المرأة الحبيبة، بشهادة خليل وهو يخاطب المحامي سعدالله قائلا :
(مجتمعنا شبه انفصالي ومغلق، فالمرأة فيه غائبة لا تجدها معك.. لا في المدرسة ولا في الشارع، ولا في المقهى ولا في مكان العمل.. والتي تجدها في الدار، إما أمك أو أختك أو حتى جدتك، إذا كانت على قيد الحياة.. وقد تكون لك زوجة بعد صبر طويل... فمن البداهة أن تشغل المرأة جزءا ً من تفكيرنا.. وأتصور جزءاً كبيراً.. لا نعثر عليها إلّا في دور البغاء، حيث لا نجد المرأة المثال.. فينوس.. أو مدام بوفاري.. أو جورج ساند.. بل مسخا مشوها /97) وحتى بعد الزواج لا تحصل الزوجة من زوجها سوى حيز من وقته (الذهبي) المهدور في الحانة والمقهى والعمل، فالزوجة (لا ترى من الرجل إلاّ جانب المتعة الجسدية، وفي الشطر الأخير من الليل/98) هذه المرة المتسبب في تغييب المرأة هو الرجل نفسه، الذي أختزل كينونة المرأة اختزالاً تعسفياً، وجعلها بسعة لحظة توهجه وهموده..
(*)
السارد الحيادي يصف الحياة كما يراها آنذاك (يكتئب المساء في المدينة، وتتملك الناس روح من الحزن ترتسم على وجوههم فتبدو على سحنهم الوداعة والسكينة.. العائدون من الأسواق العثمانية المعتمة، تزق أحذيتهم الجلدية الحمراء على الطرق المرصوفة بالحجارة يخبون بعباءاتهم الفضفاضة/ 19) ما بين القوسين لوحة زيتية ترصد بشراً وحالة اجتماعية وتثبت زمنا آفلاً مازالت ظلالها راسخة هندسيا (الأسواق العثمانية المعتمة)
وهكذا نكون ضمن النسق التالي : مساء كئيب --- روح الحزن ---- وداعة سكينة .
بالنسبة للجيل الجديد : خليل/ صبري/ سعدالله : ليس لهم في المساء سوى : الخمرة والمبغى والسينما والملهى .
(*)
صبيحة : مبأرة بفعل جنسي تعويضي : انتبذت بسطح الدار لتكون عرضة لتبئير تلصصي من قبل عين خليل (حدق بعين الشقة وأغمض الأخرى.. بدت مساحة من فخذ عارية .. مع اصطفاق فخذيها بدت أنفاسه اللاهثة تلاحق احتقان الدم في خدها.. يدها تمسك كتابا تفتحه من صفحة مؤشرة بقصاصة ورق/ 12) .
ساجدة زوجة الشرطي الرابض على الحدود..
(*)
البطولة في الرواية هي لأم خليل، الحاذقة في الاقتصاد المنزلي، المهدورة الكرامة من ولديها وشقيق زوجها المتوفي، هذه المرأة تمتلك ممحاة المغفرة مع الكل من أجل ولدها خليل، ولكنها لا تسمع من ولدها المثقف غير الشتائم !!
أما أخته الصغيرة الوحيدة فلا يسميها إلاّ (الخنفساء سعاد) وشقيقه (حسام الشقي) !! يا له من خليل لم تهذبه أطنان الكتب التي بحوزته..
ولولا أم خليل لتعفن خليل في السجن، فقد ذهبت مجددا ً وتوسلت عم خليل وهو عقيد متقاعد ليسلمها رسالة للحاكم العسكري .
(*)
والرواية تسرد أحدى التظاهرات في الفترة الملكية، لا حظت قراءتي تقاطعاً في الرؤية بيّن (ضجة في الزقاق) و(صيادون في شارع ضيّق) رواية جبرا إبراهيم جبرا . وعن هذا التفارق لنا وقفة خاصة .