ليندا محمود عبد السيد حجازي
لقد رسمت المرأة صورة بهية لفن الغناء العربي منذ العصر الجاهلي، وساهمت في تقديم رؤية واضحة المعالم للمشهد الموسيقي بمفرداته السمعية الموسيقية، وحركة الحياة الموسيقية، فكان للمغنية دور لا يستهان به في الحياة الأدبية والموسيقية، تكاد تساوي الرجال في إسهاماتها ضمن موسيقى أعياد العشيرة أو القبيلة وبقيت هذه العادات حتى الإسلام (فارمر، 1975، ص48) ومن الشواهد الشعرية الموسيقية، ما حدثنا به بشر بن عمر عن مغنية تدعى (داجنة) أنها كانت تجيد صناعة الغناء والضرب على العود (حافظ، 1971، ص6). كما ظهر في هذا العصر، جاريتا بني عاد (الجرادتان) (ابن عبد ربه، 1984، ص29) المشهورتان بــ (بعاد ويماد) (حريتاني، 1977، ص16). وهند بنت عتبة التي عرفت بأغانيُ الحرب والنياحة (فارمر، ص48) ولان الشعر العربي معيار الألحان فقد فسح الشعر للمغنيين والمغنيات الطريق لإبراز مهاراتهم في أداء الأغاني والأناشيد (المعيني، 2019، ص114). والتي انبثقت من ثلاثة أنواع: الحداء والتغبير والنياحة وهي الأجناس الثلاثة التي استعملها العرب في أولى خطواتهم في هذا المجال، حيث برزت النساء في النوع الأخير من أنواع الإنشاد ألا وهو النياحة، (قطاط، 1992، ص18) إلا أنه لم يقتصر على النساء، كان ابن سريج[1]، (634- 726م) لا يغني سوى المرتجل وقد ارتبط النواح بالغناء المرتجل (فارمر، ص140) وهكذا مع ظهور بعض تلامذة ابن سريج في النياحة وتفوقهم عليه في بعض الأحيان، ما دفعه لتركها واحتراف أنواع أخرى من الغناء، وبدأ يأخذ مسلكه الجديد عن سعيد بن مسحج وتلقيه بعض الدروس عن طويس في المدينة، وتسنى له مشاهدة مجالس عزة الميلاء[2]، فاكتسب بذلك خبرة فائقة ومعرفة فذة بفن الغناء والطرب حتى بدأ يغني الغناء المتقن. وكان أرقى ما توصل إليه الفن الموسيقي في ذلك العصر، ومع تطور النواح ليصبح فيما بعد ما يعرف بالتحزين، وهو التظاهر بالحزن في الأداء الغنائي فدخل تقنيات الغناء العربي بكافة أنواعه، ولم يقتصر هذا النوع من الأداء على النساء، فأصبح كأحد أنواع التلوين الأدائي لكلا الجنسين (العقيلي، 1969، ص133-135) وامتد أثر مشاركة المرأة في الحياة الموسيقية في ما بعد، إلى التطوير والتجويد، بإعادة صياغة أنواع الغناء السائدة في العصر الأموي إلى جانب الإنجازات التي عمل عليها أهم موسيقيي ومغنيي العصر، حيث كان للغناء مصادره التوثيقية المهمة التي أصلها الرواة والنقاد العرب على مدى تاريخ الموسيقى العربية ومن أهمها كتاب أبي فرج الأصفهاني الذي ذكر فيه إفادة العرب من أدوات الغناء وآلاته من الأنواع والإعداد والتنظيم ضمن اختلاطهم بالأمم الأُخرى من الفرس والروم والهند وغيرها (بوذينة، 1991، ص9) (المعيني، ص114). فقد كان لهذه الأمم ثقافتها الغنائية والموسيقية المتطورة، ولان الغناء يعتمد على جمال الصوت ورخامته فكان من الطبيعي أن تصدح حناجر المغنيات لتأخذ مكانة مرموقة في ساحة الغناء العربي، وقيل عن بلاط، (جبله بن الأيهم)، الملك الغساني (623- 838م)، انه كان فيه عشر مغنيات من الروميات ومن الحيرة وفارس، يؤدينَ الغناء التجاوبي كما تجدهن عند العرب البدو، حيث كانت الموسيقى والغناء أيام الجاهلية على الأغلب حكراً على الجواري من الحجاز وشبه الجزيرة العربية بصورة عامة (ابن عبد ربه، ص 7) وقد استمر الحال كذلك خلال العشر سنوات الأولى من الخلافة الإسلامية، ليظهر ما يسمى بـ (المغني المحترف)، وهذا كان جديداً على العرب بينما كان شائعاً في الحيرة وفارس وسورية وبيزنطة، فكان أول ظهور لطويس (فارمر، ص50).
برع الشعراء العرب في إعطاء القصيدة[3] من خفيف البحور والأوزان الإيقاعية واختيارهم للكلمات الرنانة ذات الموسيقى الداخلية والخارجية، فأثبت النص الشعري أن فن الغناء ومهنته كانت موزعة بين الجنسين لكنه عند المغنيات أرحب، وكانت القينة مغنية وعازفة ماهرة (المعيني، ص114). ومع تطور الغناء العربي، ظهر سائب خاثر ليصبح أول من غنى الميزان الثقيل (العقيلي، ص77) بينما تجلى دور تطور الغناء عند النساء في الإسلام من النياحة إلى الغناء الموقع على يد عزة الميلاء المنسوب لها شرف ابتداع "الموسيقى الجديدة"، فقد قيل: إنها أقدم من غنى الغناء الموقع من نساء الحجاز فألهمت عزة الميلاء المغنيين لاستحداث ما يعرف بالغناء المتقن[4].(فارمر، ص103).
وخلاصة القول، إن الأوزان الجاهلية قد استعملت بكاملها في العصر الإسلامي مع ما أضيف إليها من إيقاعات وموازين، فتجلت في سياق القصيدة العمودية، أيقونة الشعر العربي (المعيني، ص114).
فكان للمغنيات الدور البارز في غناء القصيدة العمودية. وذكر في كتاب الأغاني، للأصفهاني أن عزة الميلاء غنت ليلة في مجلس عمر بن أبي ربيعة لحناً من أشعاره ومن ألحانها. وظهر في الجاهلية جميلة[5] المغنية كأحد مغنيات عصرها؛ (العقيلي، ص95) وبدورها اقتبست الألحان عن سائب خاثر وطورتها، فجاءت أجود من غناء سائب خاثر نفسه، برعت مغنيات العصور العربية منذ الجاهلية (فارمر، ص108) وكان من خصائص الأداء (المغنية، القينة، الكونية)، فسمِعْنَ شعر العرب ولَحَّنَّهُ وأجدْنَه في حفظه واقتباسه وإضافة الزوائد اللحنية (رزق، 1993، ص36). والأخبار تروي أن كثيراً من مغنيات العصرين الأموي والعباسي كان لهن الأثر في صناعة الحياة الموسيقية فتعاملن مع الموسيقى بآلاتها وأدواتها حيث كانت القيان كما هو الحال في أيام الأمويين يتلقين دروسهن عن المحترفين في معاهدهم الموسيقية، فكانت مغنية العصر الأموي هي من وضعت للغناء الفارسي الكلام العربي، وغنت الغناء المتقن، وضربت على العود في الغناء العربي، فنهلت من ينابيع الموسيقى الفارسية والرومية. (الاختيار، 1953، ص23). وكان لإسحاق الموصلي الشهير بإمام موسيقيي زمانه، أيام العصر العباسي مدرسته لتدريب القيان. فلم يقف أمر التطور الذي طرأ على الغناء العربي في العصر العباسي عند حد مناهضة العمل الفني المرتجل، والمستمد من عناصر الخاطرة العفوية، بل تعداه إلى نقد الأسلوب الغنائي القديم الذي لا يتماشى مع واقع العصر الحي (فارمر، ص (168 فحرّفت علوية المغنية، الغناء القديم وصيرت فيه أنغاما فارسية، فإذا أتاها الحجازي خففت الغناء الأول المثقل بالنغم الكثير. (ابن عبد ربه، ص40)، (الاختيار، ص62-61) أما دنانير المغنية (المتوفاة، 825م) جارية البرامكة، فكانت أول من غنى الموالية (الموال[6] الرباعي)، وعرف البغداديون الموال بعدها مع مراعاتهم اللغة العربية من إعراب آخر الكلام، ووجب اللحن وجاز فيه استعمال الألفاظ الجارية من تخاطب العوام من الناس لفظاً وكتابة (سعد،1986، ص283) (المهدي، ص2) (الجندي، 1988، ص234). واشتهرت عنان الناطفي، بسرعة الخاطر والفطنة، في نظم الشعر وغنائه ارتجالاً دون مشقة وعناء، وهنا تتضح قدرتها الشعرية والغنائية وإعجازها والإمكانية النادرة في صياغة الأبيات وعرضها (شهاب، 2012، ص58). وممن اشتهرن في التلحين من المغنيات:
- متيم الهاشمية، التي نبغت في الغناء وقرض الشعر وابتكار روائع الألحان، وهي شاعرة عارفة بالأدب أحسنت صناعة الغناء (علاف، 1963، ص112) (الفريح، 2000، ص76)
- عُليه بنت المهدي، (160-210ه) التي كانت ذات أدب وتقول الشعر الجيد وتصيغ الألحان الحسنة (الجبوري، 1971 ص (46، (شهاب، ص81).
دور المرأة في تعليم الغناء العربي
كانت جميلة المغنية أول من انشأ مدرسة للغناء في المدينة حيث كان عمادها مجموعة من القيان (جارجي، 1989، ص21) (كحالة، 2009، ص277-278) فاقتدى إبراهيم الموصلي في بغداد بخطى جميلة، ما مكنه من إنشاء مدرسة للغناء لتعليم القيان، ومن تلاميذه بالإضافة لابنه إسحاق، زلزل (صاحب العود)، ومخارق وعلوية، وأبو صدقة، وسليم بن سلام وغيرهم. ومن أشهر مغنيات العصر العباسي(عريب) صاحبة الفضل ومن معها من موسيقيي عصرها في افتتاح أولى المدارس الفنية لتعليم الموسيقى والغناء في بغداد التي اتخذت أهمية بارزة في الموسيقى العربية، (عاشور، 1989، ص 419-236)، (حسن،1981، ص223) إلا أن البعض المغنيات مثل (بذل أو بدل) امتازت بالتقليد المحكم فكانت راوية ثقة للألحان والشعر الغنائي، وبسبب إتقانها هذا الفن كانت تقوم بتعليم الغناء لبعض الجواري مثل، دنانير ومتيم الهاشمية، دون أن تتلقى أي تعليم عن أحد (العمروسي، 1945، ص 165). وذكر الاصفهاني في كتابه الأغاني، مؤكداً، ان الغناء انما بالسمع والحفظ الاني (شبير، 2014، ص (252 وقد الفت كتاباً في الأغاني زعموا انه يشمل عشرة آلاف صوت. وبرزت من النساء الصانعات للآلات الموسيقية، عبيدة الطنبورية التي أجادت في صنعتها للطنبورة والعزف عليها ويقال إن إسحاق الموصلي اعترف لها بالأستاذية، (الغول، 2005، ص187). أما في العصر الأموي وانتقال عاصمة الخلافة إلى دمشق، فكان لهذا الانتقال أكبر الأثر في تطور الفنون الموسيقية إلى جانب غيرها من الفنون والعلوم والآداب. فقد أحب العرب عامة وعلى مر العصور الموسيقى والتغني بالشعر عزفاً وغناءً، وشغفوا به وشجعوه فازدهرت في عهودهم واحتلت المرأة المكانة اللائقة. ويعد العصر العباسي العصر الذهبي للموسيقى العربية، إذ ظلت الموسيقى العربية تتدرج في مدارج الرقي من حسن إلى أحسن حتى اكتملت في العصر العباسي التي اتسعت فيه الدولة الإسلامية وامتدت حدودها الجغرافية من المغرب إلى أوروبا، فاختلط العرب بالشعوب المجاورة والخاضعة لها. وكان لهذا الاختلاط تأثير عظيم على الإنتاج الفكري والموسيقي والعلمي. وأصبح بعد ذلك للأدب العربي نكهته الخاصة وطابعه الجديد، وأسلوبه الذي يختلف عما سبقه، إلا أن انتقال الغناء من النساء إلى الرجال في عصر الإسلام، الأثر الكبير في تراجع دور المرأة تدريجياً حتى نهاية العصر العباسي، حيث أبعدت المرأة عن الحياة الموسيقية والفعل الإبداعي لزمن طويل حتى أواسط القرن التاسع عشر مع ظهور المغنيات في مصر وبعض المناطق العربية. وان كانت العودة بواسطة الغناء الديني السائد حينها، فكان للمرأة دورها الأبرز في ساحة الفن والإبداع. ونذكر أبرزهن المغنية المظ التي عرفت بقدرتها على الارتجال في الأدوار الغنائية التي اشتهرت بها.
وختاماً، لنا أن نقول: إن للغناء رواده من النساء ومنهن في العزف والتعليم من كان لهن الدور الكبير الذي أسهم في تعزيز الغناء، وتطوير الذائقة السمعية لدى الجمهور العربي على مر العصور والأزمنة، وبأنواع الغناء العديدة على مساحة المنطقة العربية الممتدة.