الإنسان والفكر والأخلاق

2020-08-29

1

الأفكار الاجتماعية لا تستمد شرعية وجودها من خارجها، ولا تتحقَّق خارج ذاتها، وإنما تستمد شرعية وجودها من تركيبها الداخلي وشخصيتها الإعتبارية، وتتحقَّق واقعًا ملموسًا على الأرض، اعتمادًا على أحلام الناس وإفرازات البيئة المحلية. وهذا يعني عدم جدوى استيراد الحُلول الخارجية، ونسخِ تجارب الآخرين وتقليدهم، فكل مجتمع يُمثِّل منظومةً مُتفرِّدة لها خصائص مُميزة، وصفات ذاتية . لذلك، لا فائدة من ارتداء الأقنعة، وتقمُّص الشخصيات الغريبة عن السياق الداخلي للمجتمع، والمُتعارضة مع حركته الخارجية. وهذه الحقيقة تفرض على الأفراد والجماعات أن يتعاونوا من أجل إيجاد منظومة فكرية تُناسبهم، وتتوافق مع  طبيعتهم، وتتلاءم مع خصائص بيئتهم . وكُل مجتمع نهضته كامنة في أعماقه، وصلاحه متجذر في عناصره الداخلية . ومِن العبث أن يبحث الفرد عن حقيقته في مرايا الآخرين، لأن الفرد شخصية اعتبارية قائمة بذاتها، وهو أَصْلٌ، فلماذا يُريد أن يكون نُسخةً مُقلَّدة ومُزوَّرة ؟ . ومِن العبث أن يبحث المجتمع عن شرعيته في الأمم والشعوب الأُخرى، لأن المجتمع كيان شرعي متماسك، وهو جَذر، فلماذا يُريد أن يكون ورقةً في مهب الريح ؟ .

 2

 لا يُمكن للمجتمع أن يجد هُويته وماهيته إلّا إذا بنى تفاصيله الوجودية على قاعدة الالتزام القِيَمي، أي : الإلتزام بالقِيَم الإنسانية، والمبادئ الفكرية، والسُّلوكيات الأخلاقية . وهذا الترتيب ضروري للغاية، وهو يُشكِّل سياقًا منطقيًّا تراتبيًّا . فالإنسانية قبل الفِكْر والأخلاق، لأن الإنسانية ( النَّوَاة الأوَّلية ) هي وجود الشرعية، وشرعية الوجود . وإذا تجذَّرت الإنسانيةُ كمنظومة اجتماعية صُلبة، استطاعت احتضان الفِكر الإبداعي، والمُساهمة في انطلاقته، ونشره في التراكيب الإجتماعية الفردية والجماعية، فالإنسانيةُ هي الحاضنة الأساسية للفِكْر، ووجودها سابق عليه . لذلك، يُوجد إنسان بدون فِكْر، ولكنْ لا يُوجد فِكْر بدون إنسان . وإذا اندمجت الإنسانيةُ معَ الفِكْر ضِمن سياق الوَعْي السليم، انتشرت الأخلاقُ في المجتمع، لأن الأخلاق نتيجة حتمية للفِكْر الصحيح، والفِكْرُ هو أساس الأخلاق رُوحيًّا وماديًّا، ووُجوده سابق عليها . لذلك، يُوجد فِكْر بدون أخلاق، ولكنْ لا يُوجد أخلاق بدون فِكْر . وجميع البُنى الأخلاقية هي بالضرورة أفكار اجتماعية، تَرْمي إلى صناعة إنسان حقيقي، قادر على بناء ذاته ومجتمعه معًا، لأن الجُزء لا ينفصل عَن الكُل، والعلاقة بينهما تكاملية وتجاذبية، أي إنَّهما يُوجدان معًا، ويختفيان معًا . وإذا انهارَ الفردُ انهارَ المجتمعُ، وإذا تَمَزَّقَ المجتمعُ تَمَزَّقَ الفردُ، والصراعُ بين الفرد والمجتمع في غاية الخطورة، لأنَّهما جِسْم واحد في سفينة واحدة . والجِسْمُ السليم لا يُمكن أن تتقاتل أعضاؤه، ولا يُعقَل أن تتصادم حَوَاسُّه . والصِّرَاعُ بين الرُّبَّان والبَحَّارة سَيُؤَدِّي إلى غرق السفينة حتمًا .

3

إذا تَكَرَّسَ الالتزامُ القِيَمي _ جُملةً وتفصيلًا _ في تفاصيل المجتمع، صارَ التواصل بين الفرد والمجتمع سهلًا، وازدادت النقاطُ المشتركة بينهما، وتقلَّصت الإختلافات، وهذا يَدفع باتجاه تكوين منظومة فكرية قائمة على الرأي والرأي الآخَر ، ضِمن سياق المصلحة المشتركة، والمنفعة العامَّة . ووَحدةُ الهدف لا تستلزم توحيد المسارات، وإنما تستلزم توحيد الجهود للوصول إلى الهدف . ولا تُوجد مُشكلة في تعدُّد روافد النهر، ولكن المشكلة هي تلوُّث منبع النهر .

إبراهيم أبو عواد

كاتب من الأردن

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved