الطعام والكلام !

2020-07-22

أول الكلام :

أظن أن عنواناً كهذا يثير استغراب الأصدقاء، وقد يذهب البعض إلى أني اخترت هكذا عنوان للتجانس اللفظي، ربما ! ولكن في الأمر موضوعاً يتعدى اللفظ إلى المعنى.. فكلتا المفردتين لهما دلالة هامة، قد لا نفكر في معناهما لما تنطوي عليه كل منهما من فعل روتيني.. فنحن نأكل ونتذوق الطعام.. ونحن نتكلم ولا نفكر بما بخرج من كلام.. والوسيط بين عمل الطعام والكلام هو الفم، الطعام يدخل من الفم والكلام يخرج من الفم..أي بينهما رابط بايولوجي وليس هذا ما يعنينا وأنما تأثير كل منهما..

***

الطعام يوفر لنا الطاقة إضافة للمتعة.. والطاقة ضرورية لكي ينجز الجسم الأعمال الحيوية أو الأيض (Metabolism ) داخل الجسم، وهي عملية معقدة للغاية،  والطاقة هي التي تجعل الجسم يتحرك ويفكر وينجز مهامه الروتينية والإبداعية..فتصور أن الطالب مثلاً الجاد الذي ينشغل بالنشاط الذهني يصرف 15% من مجمل الطاقة المستهلكة، وهنا تطرح أهمية الغذاء الكافي والمتنوع من كاربوهيدرات وبروتينات ودهون وفيتامينات ومعادن وماء وقد لا يعرف أحدنا أن العناصر الثلاثة الأخيرة على أهميتها  تصنف مع الغذاء لكنها لاتعُد منه لأنها لاتحرر الطاقة لكنها ضررورية جداً لإنجاز الأيض !  

نحن نكتسب عادة تناول الطعام منذ الولادة، والأم هي التي تمد الطفل بالغذاء في مراحله الجنينية، ثم بعد الولادة تمده بالحليب، ثم تطبخ له الطعام.. وهذا الأمر هو الذي يجعل الإنسان متعلقاً بأمه من حيث يدري أو لايدري.. وتبدو المسألة أكثر أهمية للإنسان حين يغترب، فلطالما يشتاق لطعام الأم وخبزها.. وحنانها وهنا مكمن الأمر لأن طبق الأم لا يحتوي طعامها وحسب وإنما حنانها !!

في الغربة التي أدمنتها منذ أن تعديت العشرين بعامين، وجدت أن أصدق من وصفها ناظم حكمت حين قال : الغربة أخطر مهنة؛ كنت أشتاق للغاية للطعام العراقي، حتى توفرت على مسكن ومطبخ ورحت أطبخ أكل الأم حيث كنت أرقبها وكانت تعلمني حتى تمكنت من أسرار طبخها، وكانت تمزح حين سألتها لماذا تعلمينني بحرص، فتجيب : أخشى أن تتغرب وتشتاق للأكل العراقي فبوسعك أن تطبخ.. ثم تستأنف بمرحها وأخشى أن تتزوج من حلوة لا تحسن الطبخ !!

سبق أن كتبت في "زمان يا زمان !" عن طفولتي، حين كنت أغري العصافير بجلب سنابل القمح من البيدر القريب وأنثرها في بلاط المطبخ وأجعل الشباك مفتوحاً فتدخل أسراب العصافير.. ثم أغلق  الشباك، وأبدأ بعملية قاسية تنتهي بشق بطونها وتنظيفها ومن ثم شيها على السفود فتصبح مُزة للشاربين وغير الشاربين والكل يأكل ويتلذذ وأنال كلمات إطراء ! عداي فلم أذق منها قط.. ومرة حيث شققت بطن أحد العصافير فوجدت قلبه بنبض، فسألت جدتي مذعوراً، فقالت هذا يحب الحياة ! فمن يومها تركت هذه " المهنة" القاسية غير مأسوف عليها ! وأصبحت لا أذوق أي لحم ! عدا مرحلة المراهقة اكلت اللحم تحت الحاح الأهل لأنه ضروري للنمو !

في الجزائر كان لي صديق طبيب بيطري أصبح مشكورا يشتري له ولي خروفا بين الحين والآخر.. فتوليت أبشع "مهنة" الذبح والسلخ.. وكان الأطفال يتأثرون للغاية ومرة صاحوا : الخروف يبول، قبل الذبح من الخوف.. فتوقفت عن هذه "المهنة" الأبشع فكنت حتى في حفلات رأس السنة لا أصيب من الخروف المحشي المشوي إلا قليلا ثم ينتهي الخروف على المائدة عظاماً بارزة وضلوع لقفص صدري عارية من اللحم تماماً كالطرائد التي أكلت لحمها الكواسر والضواري وأبقتها هياكل عظمية شامخة في أدغال السافانا !

ما أقسى الإنسان ! في أوربا تزداد بشكل كبير شعبية النباتيين بدوافع إنسانية بين الشبيبة، وهؤلاء في معظمهم من بني وبنات اليسار أو من الإنسانيين والفوضويين (ناكري الدولة) ! وأخوكم نصف نباتي يعني أتناول الخضروات واللحوم البيضاء فقط من السمك والطير!

ولئن كان الطعام فعل ذاتي محض، فإن الكلام فعل يشترط الآخر واحداً أو أكثر.. يعني إن أفرطت بالطعام تؤذي نفسك، بينا إن أفرطت بالكلام بصوت عال ستزعج الآخر ولاشك، وربما تسبب له الصداع أو ترفع ضغطه !! وقد يتكلم الإنسان إذا كان وحيداً أو معتقلا منفرداً مع نفسه للترويح ولكن ينصح الخبراء برياضة سهلة مفيدة وهي اليوغا وضمنها التأمل (  Meditation )، أي التركيز على موضوع أو استرجاع ذكرى أو حدث وتخيل حدوثه بشكل حي مع كلام ومناقشة صامتة.. وهو يذكي الحالة الإبداعية وينشط المخيال الفردي والذاكرة وينشط عملية التذكر في الدماغ...

قالت العرب (وغير العرب) : إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وقال شاعر: إن بعضاً من السكوت كلامُ !! وللشاعر المتصوف عبد الغني النابلسي قصيدة في فضيلة الصمت :

تعلّم حفظَّ آفات اللسانِ – لتحظى بالأمان وبالأماني

في المتوسطة سألنا مدرس الإجتماعيات: عندما تمشي وحدك ماذا تفكر؟ وسأل طالبا من الريف يقطع 6 كم مشياً من المنزل للمدرسة، ماذا تفكر عندما تمشي وتقطع هذه المسافة الطويلة ؟ فأجاب الطالب : أفكر بماذا تعلمنا وماذا حدث في المدرسة ! هذا الأستاذ جعلني حتى اللحظة أن أمشي كل يوم حذاء القناة في شارع الورود وأن أختار ما أفكر به، وكثير مما أفكر به أدونه في مدونتي.. شكراً لذلك المدرس اللبيب !

وهذا الموضوع ومتشعباته جعلني أفكر قبل أن أتكلم وأحياناً حينما لا أجد موضوعاً أتكلم به أصمت ! وقد أنجح في أكثر المرات وأخفق في بعضها وتلك هي الطبيعة الإنسانية ! وإذا كان الأمر يتعلق بكلام شفاهي أو ارتجالي فإنه يذهب مع الريح، فتصور كيف يكون الأمر حين يتعلق بالكتابة التي لا تذهب مع الريح ؟!!

الثاني والعشرون من تموز/يوليو 2020

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved