الثورة الرقمية هل تؤدي إلى ثورة في الأدب ؟

2021-05-27

الثورة الرقمية هي ثورة عصرنا الراهن . فهل نحن على دراية  بذلك ؟

مما لاشك فيه أن سقراط قد طرح العديد من الإنتقادات ليس على اختراع الكتابة بل بما يتعلق ببعض ممارساتها المتهورة : الكتابة هي في الأصل تقنية يدوية وذهنية يجب أن يتقنها الإنسان . في الواقع يكمن الخطر في أن الإنسان ، باعتماده على أداة الكتابة لحفظ المعرفة، قد ينسى ما تعلمه "من الداخل" ويضطر دائماً إلى اللجوء إلى "العلامات الخارجية" الموجودة خارج نطاقه .

منذ ما يقرب من ألفين وأربعمائة عام، أصبح هذا الإنعكاس واضحاً وحاداً في وضعنا الراهن : إنه أمر يلامس ويؤذي موضع الجرح الأكثر ألماً . ولنحاول اليوم استبدال كلمة "كتابة" بكلمة "إنترنت" في المقطع السالف الذكر أو لكي تكون أكثر واقعية باستخدام "ويكيبيديا " أو "خرائط مابس " وغوغل . لقد تَكوَّن  لدينا وهم بأننا صرنا حكماء، لكن بدون ويكيبيديا وخرائط جوجل ربما اليوم الكثير منا سيواجه صعوبة حتى في التنقل في أنحاء مدينته .

من الحكمة إذن أن ندبر للمتعلمين المظهر وليس الحقيقة : عن طريق أن يصبح بفضلنا هناك مستمعون لأشياء كثيرة دون تعليم، سوف يؤمنون بأنهم يعرفون أشياء كثيرة، بينما هم لن يعرفونها؛ وسيكون الحديث معهم صعبًا جداً، لأنهم أصبحوا خبراء في الآراء بدلًا من الحكمة  .

ومن الجدير بالذكر ربط هذا المشهد بعالمنا الذي يبدو أنه بات كله مكتوبا اليوم : العلاقة بين المظهر والحقيقة، والفرقعات وعرض المعلومات والتعليقات والآراء التي نشهدها كل يوم وعدم القدرة على التواصل و التعرف على وجهة نظر الآخرين ( انظر كتاب توم نيكولز، المعرفة وأعداؤها : عصر عدم الكفاءة ومخاطر الديمقراطية ) : هذه هي مشاكل عصرنا التي نحن مدعوون بإلحاح لحلها، ولدينا جميعًا العديد من الطرق للقيام بذلك .

ما هي الطرق العملية على الأقل لتحديد حل المشكلة ؟ بالتأكيد المشكلة ليست في هذه الآلات التي تحاصرنا، بل أنها في مستوى انتباهنا ووعينا . ومن وجهات النظر البارزة في هذا الصدد وجهة نظر أولئك الذين يتساءلون من منظور العلوم الإنسانية . إن إدارة التقدم التكنولوجي، ولا سيما الرقمي، لها علاقة كبيرة بالأدب وبعض التخصصات التي تتفرع عنه بطرق مختلفة .

لقد أدت الثورة الرقمية إلى تغيير طريقة معرفتنا وإدراكنا للعالم من خلال اللغة، ووفقًا لعالم اللغة والفيلسوف رافاييل سيمون الذي يقول بأن الموقف العقلي الذي نشأ عن اختراع الطباعة أصبح يختفي تدريجياً، أي ظهور عقلية افتراضية، تقوم على التعبير عن الأفكار بالكلمات والعبارات (الافتراضية)؛ تقسيم المواقف والمشكلات المعقدة إلى مكونات أبسط (التحليل)؛ هيكلة الكلام بطريقة هرمية؛ إعطاء أسماء للأشياء، بحيث يمكن استرجاعها بسهولة (المرجعية) .

إن الموقف العقلي الذي تفرضه الشبكة العنكبوتية، بفضل النص الأكثر مرونة والكم الهائل للصور، هو عكس ذلك تمامًا : إنه عام ، لأنه لا يقسم الخطاب إلى عناصر مميزة وليس بنيوية بطريقة هرمية؛ إنه غامض لأنه لا يعطي أسماء للأشياء ولكنه يلمح فقط من خلال المفاهيم العامة .

إن العقلية المقترحة مناسبة للموقف العلمي؛ العقلية غير الإفتراضية هي نموذجية للموقف الصوفي، الذي يهدف إلى دمج الذات مع الموضوع : يعتبرها سيمون خروجًا حاسمًا عن الواقع، وبالتالي تفقيراً جذرياً لقدرتنا على التفكير .

من وجهة نظر أخرى مختلفة، وجهة نظر العلوم المعرفية، تطرح ماريان وولف السؤال من حيث مهارات القراءة . ما نقرأه رقميًا هو نسيج متحرك باستمرار من الكلمات والأصوات والصور ومقاطع الفيديو وهو يفعل كل شيء لجذب انتباه القارئ بشكل عام . لذلك سيجد القارئ نفسه شديد الإثارة ومندفعًا للتحرك بسرعة كبيرة نحو مصادر جديدة إرضاء لانتباهه . إن هذا الموقف يمكن أن يجعل قراءة رواية أقل إرضاءً بكثير، نظراً لطول الفترات الزمنية التي تستغرقها ومشاركة القارئ التي تتطلبها . إن الخطر الذي يخشاه وولف يكمن في أن تصبح طريقتنا في القراءة أسرع وأكثر سطحية : وهذا يعني أن الأدب سيحتل في المستقبل مكانة متضائلة في عالمنا .

سيكون لهامش الأدب آثار مدمرة على ذكائنا العاطفي، حيث توجد "علاقة قوية بين قراءة الروايات ومشاركة العمليات المعرفية والتفاعل معها " . في الواقع، يلعب التعاطف هنا دوراً مهماً في بنية  الفكر:

عندما نقرأ بعض الروايات، فالدماغ يحاكي بدينامية وعي شخص آخر . يتيح لنا ذلك للحظات قليلة، تجربة حقيقة ما يعنيه أن تكون شخصًاً آخر . التعاطف يتضمن المعرفة والعواطف. يوضح هذا الخط الناشئ من البحث حول التعاطف في دماغ القراءة مدى أهمية الإرتباط بين العاطفة والفكر في دائرة قراءة الدماغ لكل فرد . تعتمد جودة تفكيرنا على المعرفة والعواطف الأساسية التي يضعها كل منا في لعبة القراءة .

بالإضافة إلى ذلك فإن القدرة على القراءة، مثلها مثل الكتابة، ليست فطرية ولكنها مكتسبة : وهذا يعني أنه يمكن تعلمها ولكن يمكن نسيانها أيضاً . فوفقاً لوولف، يمكن إعادة ضبط دوائر الدماغ التي يتم تنشيطها عند ممارسة القراءة العميقة على وظائف أخرى إذا لم يتم استخدامها مع استمرارية معينة : هذا يعني أن دماغنا، يتم حثه باستمرار على القراءة السريعة ومعالجة الإشارات البصرية المنبهة غير اللفظية، وقد يصبح غير قادر (ما لم يكن تدريباً جديداً محدداً) على العمل بشكل هادف على نص مكتوب .

لذلك يبدو أن الأدب هو أكثر ما نحتاجه اليوم ولكنه أيضًا في المقابل إنه أكثر ما يواجه خطر التقهقر والتراجع في مشهد تلقينا اليومي، إن لم يكن الإنقراض . في مواجهة قصص أنستغرام من أجل مواصلة التفكير بعمق، نحتاج إلى قصص حقًا، قصص الروايات : إنها تبقينا بشراً . يمكن للأدب أن يلعب دور الترياق المضاد لتواصلنا المسموم في العالم الإفتراضي : يمكن أن يساعدنا في التعرف على الإستخدامات المتلاعبة للغة، وقبل كل شيء، يمكنه أن يعلمنا احتراماً وتعاطفاً مع وجهة نظر الآخرين .

لذلك يقدم الأدب رؤية عميقة للواقع . ولكن ماذا يعني إغناء الثورة الرقمية بهذه الحساسية ؟ إذا وصلت أيها القارئ إلى هذا الحد، فهذا يعني أنك الشخص المناسب لطرح هذا السؤال .

ترجمة عن مقال للكاتب أدريانو سيكوني

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved