لَعَنَ الله الغزاة الذين دمّروا العراق وخرّبوا حياة العراقيين.
مقدّمة
العنقاء، الرخ، طائر الفِينِيْق، " سي مرخ "، " كركي "، Phoenix... الحاضر(ة) بأسماء مختلفة في ثقافات الأقدمين وتراث الخيال الجمعي الانساني؛ ومنه للاشارة الى صعود وأفول القوى والثقافات التي لايدوم عزّها: " وتلك الأيام نداولها بين الناس ": العراقيون، والمصريون، والفينيقيون، والعرب، والفرس، والأتراك، واليونانيون، والصينيون، واليابانيون، والهنود... لكن بدلالة واحدة: الرمز للبعث والتجدُّد والخلود.
توصف العنقاء بأنها طائر خيالي / خرافي عملاق بحجم نسر ضخم، تمتاز بالقوّة والجمال، لونها ذهبي / قرمزي وريشها لمّاع وطويل، وصوتها عذب وشجي، وصياحها مُدَوّياً.
وفي بعض الثقافات تُشير الأسطورة الى أن العنقاء تعمِّر خمسة قرون، وعندما تحسّ بالبرود والعجز وقرب النهاية، تبني لها عشاً من أغصان عطرية، ثم تصفِّق بجناحَيْها الضخمين تصفيقاً قوياً ومدوياً وحاداً وحاراً لتضرم فيه النار لتدفأ وتحترق. فتنبعث من الحطام والرماد عنقاء شابّة ناهضة وجميلة تنتقل من الرماد والموات الى الحياة والإحياء.
وجاء في النص القرآني الكريم مايشير الى إحياء الحياة: " ... انه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط..."
وقد استخدم الفنان المسلم أشكال الحيوانات الخرافية، ومنها العنقاء، كوسيلة لِتَخَطِّي سيادة مفاهيم منع وكراهية تصوير الكائنات الحيّة.
وجاء ذكر العنقاء في حكايات ألف ليلة وليلة الساحرة، وفي غيرها من التراث الأدبي العربي.
كما ورد إسم العنقاء في بيت الشعر الذي ذَهَبَ مثلاً في الإستحالة:
أيْقنتُ أنّ المُسْتَحِيْلَ ثَلَاثةٌ الغُولُ والعنقاءُ والخِلُّ الوَفِي
ويظهر من استقراء التاريخ تجدُّد عنقاء العراق ذاتياً وانبعاث حياة أخرى معاصرة لزمانها كوّنت حلقات تاريخه المجيد الذي أمدَّ الحضارة الانسانية بسلسلة من الابتكارات والابداعات والمعارف والصور الفنية المُبْهِرَة. فالى جانب الكوارث التي شهدها العراق والمذكورة في كتب التاريخ: أوبئة وفيضانات وموجات جراد وقحط ومجاعات وحروب وغزوات ... كانت عنقاء العراق تنهض دورياً من الأكدية والسومرية والبابلية والآشورية والكلدانية والسلوقية والفرثية والساسانية والمسيحية والعباسية والمغولية والصفوية والعثمانية والانجليزية... والأمريكية.
ومن هذا التراكم التاريخي الثري تتكون ثقافة العراق المخزونة في جينات شعبه، تَسْبُتُ في زمن التخلّف، وتظهر وتنبعث من خلال التجديد المعاصر لكل زمان: من تكامل إرث ثقافاتها مع تجارب وتراث ومنجزات الشعوب في مختلف البلدان والميادين.
ومنذ عام 2003 يتعرّض العراق، وعلى أعين العالم أجمع، لغزو خرافي وكارثة جهنّميّة هائلة ومروّعة وظلم فظيع بعد أن أَضْرَمت النخب الاستعمارية النار فيه على الطريقة الكلاسيكية المرعبة التي استُخْدِمَت في أستراليا وأمريكا الشمالية: غزو - محق - إبادة - نهب. ولا يزال العراق يُذبح ويلتهب جهراً وقهراً وقتلاً ومحقاً وقصْماً وسحقاً وحرقاً: " حرية "... " ديموقراطية "... " رفاه " ... " فوضى خلاقة "... فرّق تسد، إرهاب... خراب... فقر... جوع ... عطش ... جفاف... ظُلمة وظلام... نفط... دولار ... دم ... حتى يُحَوِّلوا العراق الى رماد لتنهض منه عنقاء العراق المعاصر مُتَحَدِّية الفوضى والدمار والاستهتار بدماء العراقيين وإنسانية الانسان، ومُعْلِنة بصرخة مدويّة في أربعة أركان المعمور بداية زمن العراق الجديد وصناعة ثقافته المعاصرة بالنمو والتقدم والتطور والابداع والتجديد والابتكار: شباب واعي ومفعم بالقوة والجسارة والطاقة والنشاط والحيوية والعنفوان والتوهُج والاخلاص والتضامن والتشارك والتكافل والشهامة والايمان بالوطنية العراقية وبالانتساب الانساني الشامل.
وها هي عنقاء العراق تحيا فجر حياتها الجديدة بمبادرة المقاومة العراقية النبيلة والمُضَحِّيَة والباسلة التي أنهكت ودحرت الغزاة وألحقت بهم هزيمة مُذِلَّة، وفكّكت " تحالف الراغبين " العبيد الانتهازيين المنافقين التابعين، وقضت على مؤامرة " مشروع الشرق الأوسط الكبير " وأجهضت أحلام ومهازل وأوهام " القرن الأمريكي " ليس في العراق والشرق الأوسط فحسب، بل في العالم أجمع؛ وكَشَفَت وفَضَحَت وحشية وظلم النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يتربّح من الأكاذيب والحروب والقرصنة، وراكَمَت ديوناً جديدة فوق هرم الديون الأمريكية، وفضحت مزيدا من جوانب الدولار الهوائي المزوّر الذي وضع النظام النقدي العالمي في أزمة متفاقمة وكأنّ لامخرج من الإنهيار إلا بالحرب العالمية الثالثة؛ مما نجم عنه تعميق أزمة الغرب المالية ولجوئه الى سياسة التقشُّف وانحسار المنجزات الديموقراطية واستقطاب الفوارق الاقتصادية والاجتماعية وتراجع الطبقة الوسطى وتقلص إنفاق الدولة على الخدمات الاجتماعية والمرافق العامة... كما وسّع النصر العراقي دائرة كراهية وازدراء واحتقار وبَغْض شعوب وأمم العالم للسياسة الخارجية العدوانية والارهابية للولايات المتحدة، وساهم في تراجُع قوة الاستعماريين مقابل صعود الروح الوطنية - الثورية في العالم؛ ووسّع الحركة الشعبية العالمية ضد الحروب، وأفقد ثقة مجتمعات الغرب بنخبهم السياسية والاعلامية حتى أضحى البعض يطالب بمحاكمة رموز الكذب والارهاب والاجرام مثل جورج بوش الثاني وتوني بلير. كما عجَّل في نهضة شباب العرب للتغيير، التي فازت لحد الآن بتحرُّر تونس ومصر من مخالب وأنياب حكومة العالم الخفيّة؛ بينما يتواصل الحراك الشعبي العربي العام ضدّ الطغيان والتخلّف والتبعية والاستغلال.
وسيحيا العراقيون عنقاؤهم المتجددة ليُشيِّدوا ويُبدعوا حلقة أخرى من سلسلة الثقافة العراقية بوفرة قوى وكنوز الرافدين والنفط والغاز والنبوغ العراقي والجذور الحية التي خلَّفت أشجار ثقافاته المجيدة؛ يستقون منها ومن غيرها من طاقات الكفاءة والصدق والخير والنماء والبناء: وكلها أدوات استراتيجية ومصيرية في نهضة العراق، وذلك بشعار المواطنة العراقية الشاملة، وتحت لافتة الحديث النبوي الشريف: " مَنْ غَشَّنا ليسَ مِنَّا "... من أجل حياة عادلة وسعيدة وجميلة.
وستجرف عنقاء العراق الجديد كل الغثاء القائم سواء ب " تسونامي " أم على موجات متلاحقة تكنس وتكسح الزَّبد ليذهب جُفاء وتُبقي ماينفع العراقيين ماكثاً على أرض الرافدين. وذلك بعيداً عن بَزار الاستراتيجيات الدولية؛ وعن عصابات مثقفي الخيانة العراقيين من ثعالب السياسة وذئاب المخابرات وتماسيح الأجندات الخارجية وضباع العملية السياسية؛ وبعد أن يُراجِع هؤلاء المثقفون والمتعلمون العراقيون وغيرهم أنفسهم فينبذون خدمة مصالح سبيكة الشر: النخب الغربية واسرائيل وحكام المستعمرات، ويعملون على خدمة شعبهم ووطنهم وثقافتهم.
فالمثقفين الوطنيين الأحرار هم شعلة وعماد التنوير والتغيير والتطوير، فهم الذين يُقَدِّمون الأفكار التحليلية للواقع الحالي، والرؤى المستقبلية التي توجِّه بوصلة الحراك الشعبي والمطالب الجماهيرية والمقاومة الوطنية. لذلك يتعرَّض هؤلاء المثقفون دائما الى شتّى صنوف الظلم بين الترغيب والترهيب التي تصل حدود الحرمان والسجن والتصفية، كما يحصل في العراق.
عندها سيجد العالم، عاجلا أم آجلا، بأنّ العراق هو موطن المستحيلات الثلاثة:
•
- غول تواصُل المقاومة الذي سَيَدْحَر ويطرد الغزاة ويحاكم عملاءَهم وأذنابَهم الحرامية الجشعين المتحاصصين من خونة العراق؛
•
- والعنقاء المنبعثة عصرياً من رماد النار التي يَحْرِق لهيبها الغزاة؛
•
- والخلّ الوفيّ النادر، والصديق المخلص الثمين، والصاحب المعين... يحملون سعف النخيل وأغصان الزيتون رموزا لمطلق المواطنة والمحبّة والسلام.
كما سيضيف الشعب العراقي إلى هذه المستحيلات الثلاثة، رابعاً: انتزاع الاستقلال الحقيقي الذي على أساسه، وبواسطته، يتم تصفية آثار الغزاة وعملائهم العراقيين، والقضاء على منظومة التخلّف من خلال التخطيط الوطني - الاقليمي الوظيفي والشامل على أساس توزيع الموارد والمعطيات الصناعية والزراعية والسياحية ومراكز التجارة والادارة على جميع مساحة العراق ( وليس كما يقترح كثيرون: تخطيط مدينة هنا... وإنشاء مبنى ومجمع سكني هناك... وسنأتي على هذا الموضوع الرئيس بتفصيل ان شاء الله )، والذي سيفرز هرم شبكة الاستيطان والتوزيع السكاني للحاضر والمستقبل، ويحدِّد العلاقات الانتاجية والاجتماعية الجديدة، التي لامكان فيها للطوائف والتقسيم. مما يجعل العراق من أكثر بلدان العالم ازدهاراً والعراقيين من أسعد شعوب الأرض.
فبالتخطيط الوطني العلمي المتكامل، وبالتشارك الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفني، وبالاصلاح التعليمي الشامل يتم القضاء على التخلف والتفرقة. لأن عوائد الثمار ستتوزع بالعدل الوظيفي على كافة المواطنين من أي دين وطائفة وفئة، فيشدّ الجميع لوطنهم الموحَّد وثقافته، ويواصل العطاء بالتجديد والتراكم الابداعي المعاصر والمستقبلي، وينشر روح المواطنة والتسامح وحرية الفكر كثقافة وطنية جامعة للعراقيين؛ بما تؤكد عليه النصوص القرآنية الكريمة: " لا إكراه في الدين " ، " ...قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ، " لكم دينكم ولي دين " ، " لو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا، أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "، " وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم إله واحد ونحن له مسلمون "، " ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شئ شهيد "، " ...الله يحكم بينكم يوم القيامة بما كنتم فيه تختلفون ".
ولمحي الدين بن عربي ( 1164 - 1240 )، أحد أشهر المتصوفين إيجاز متطور في التفكير والمعرفة والحكمة في التعايش والتساكن العالمي ضمن وحدة الحب والايمان والأخوة الانسانية:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنـّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
لمحة تاريخيّة
تَذْكُرُ المصادر التاريخية عامّة بأن موطن الاستقرار البشري الأول وفجر هذه الدورة من الحضارة الانسانية على الكوكب بزغ في وادي الرافدين، الذي أصبح رائدها ومن مهاد ثقافاتها. وتُغْنِي هذه الحقيقة أعمال
Zecharia Sitchin :مثل Sumerians and the Anunnaki.
وكذلك:
Robert M. Schoch,PhD, Evidence of Early Civilisation in Anatolia, Nexus, February - March 2013, P. 39 - 44 + P. 72
إضافة الى ثلاثة مقالات أخرى في نفس العدد؛ وغيرها من بحوث ودراسات في أعداد سابقة.
لقد أهدى العراق الى العالم مبتكرات عظيمة: فالرافدين مهد الكتابة والمدرسة والمكتبة والأدب والشعر والقصة والأسطورة والملحمة... والتاريخ، والتنظيم الاجتماعي والاداري، والزراعة والمحراث...والنخلة، والري المُنَظَّم والسدود والقنوات، وتدجين الحيوان... والعجلة، وتخطيط المدن والعمارة والطابوق والموزائيك، والرسم والنحت والسيراميك والموسيقى، والتعدين والبطارية... والصياغة، والاختام، والتجارة، والطب، والكيمياء، والرياضيات... والفلك والتقويم... والقوانين المتقدمة وأول شريعة متطوّرة للعدل في العالم؛ ومهد الدولة... والعراق مُحَرِّك ومُسَرِّع الوعي الحضاري...
وهذا فخر للعراقيين الأصلاء من الشجرة الوطنية البانية للثقافة العراقية / شجرة الزيتون؛ وعارعلى العراقيين العملاء من شجرة العبيد المخزية لثقافة العراقيين / شجرة الزقّوم.
وفي القرن السابع للميلاد لبّى العرب نداء الدعوة الاسلامية ونهض المسلمون بثقافة عالمية جديدة أصبح العراق مركزها في العهد العبّاسي: فتطوّرت الزراعة والصناعة والتجارة، وازدهرت الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعرفية، وشُيّدت المدن، مثل الكوفة والبصرة وواسط وبغداد وسامرّاء... وتقدّمت العلوم والتقنيات والفنون والاداب والمعارف عامة: إبتكاراً وإبداعاً وترجمة. وأصبحت بغداد في عزّ مجدها حاضرة العالم؛ وخلّف العبّاسيون أحد أرقى المدن وأجمل العمائر والفنون الزخرفية والصور الفنيّة.
بعدها توالت على العراق الكوارث الطبيعية والحروب والغزوات التي أبادت وخرّبت وتركت تخلفاً وتراجعاً كبيراً لسبعة قرون كاملة ( 1258 - 1958 ).
وفي العصر الحديث كابد العراقيون، ولا يزالون، مؤامرتين إرهابيتين استعماريتين: الأولى، معاهدة " سايكس- بيكو" البريطانية - الفرنسية، بحراسة عضويّة متكاملة بين النخب الغربية وعملائهم من الفئات الحاكمة في بلاد العرب. والثانية، الغزو الامريكي - البريطاني بواجهة: " تحرير العراق"، وذلك ضمن " مشروع الشرق الاوسط الكبير"، نواة " النظام العالمي الجديد " الذي تقوده الامبراطورية الأمريكية الصهيونية العسكرية البوليسية، لما يتمتع به العراق من تأمين للبترودولار الداعم للقوة الأطلسية؛ بالاضافة الى الموقع الاستراتيجي العسكري السياسي المتقدم جغرافياً. كما انه من أخطر المشاريع السياسية - الثقافية الرامية الى تفكيك أهداف الاتحاد / الوحدة العربية، والتعاون الاسلامي وتعطيل تاثيرها النهضوي، وإلغاء التحامها الجغرافي والثقافي واللغوي لِتَتَشَتَّت وتذوب في كلمات متفرقة: الاقطار العربية منفصلة ومتناحرة، واليهودي والصابئي والمسيحي والمسلم والعربي والكردي والسني والشيعي... وصولاً الى مفردات سوبر فرِّق تسُد، مثل: " الفن الشيعي"!
ومهما كانت عوامل الجَوْر شديدة وسافرة، والاستبداد فتّاكاً وماحقاً، والحاكم ظالماً وغدّاراً وسفيهاً ومسرفاً في غيّه... لم تستطع أي قوة اقتلاع العراقي من جذوره وانتزاع حقّه في الحياة؛ ولم تنكسر أو تتخاذل الروح العراقية: فبعد كل غزوة وما يتبعها من كوارث كان العراقي ينهض كالعنقاء أقوى كياناً وأقدر على الانتاج والتواصل وتوليد الثقافة. هكذا تشافى العراق و العراقيون من شتى الكوارث الطبيعية والاوبئة ومن كل المحن التي خلّفها الغزاة.
وأبرز مثال على ذلك من العصر الحديث هي ثورة 14 تمّوز 1958 المجيدة التي شهدت في أقل من خمس سنوات تطوراً نوعياً ومتسارعاً: إذ أسَّست للوطنية العراقية المعاصرة وفجّرت طاقات كل فئات العراقيين وحملت أهدافاً انسانية من خلال العمل للنهوض بالاوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب بتحريره من التخلف ومكوناته من بطالة وفقر وجهل ومرض ... . كما سعت لتحقيق أهداف ديموقراطيّة كان في مقدّمتها العمل على انجاز الاستقلال الوطني والقضاء على التبعيّة الاستعماريّة وفك أسار العراق من التبعيّة بالغاء القواعد الاستعماريّة ورفض الأحلاف العسكريّة، مثل حلف بغداد، وتحرير الاقتصاد العراقي بفك ارتباطه بدائرة نفوذ الجنيه الاسترليني المتحكمة بسعر الصرف؛ والنهوض بالصناعة والزراعة والتعليم والصحّة والبناء، ونشر التعليم بتشييد مئات المدارس والجامعات... كما صدرت قوانين أساسية في تاريخ العراق، مثل القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي استعاد العراق بموجبه 99.5 % من الاراضي الداخلة ضمن امتياز شركات النفط الاحتكارية؛ وأصدرت قانون شركة النفط الوطنية لاستغلال النفط عراقيا؛ كما ساعد العراق على انشاء منظمة الاوبك لفك سيطرة الغرب على نفط العرب. إضافة الى قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1959 الذي حرّر الفلاحين الذين كانوا يمثلون أكثر من 60% من الشعب العراقي من سطوة الاقطاعيين. الى جانب إلغاء قانون العشائر مساوياً بين سكان الأرياف والمدن، أي خضوع جميع العراقيين لقانون مدني موحد؛ كما دعم حقوق الأكراد بنص الدستور المؤقت على ان العرب والاكراد شركاء في وطنهم العراق، كجزء من إلغاء التمييز الطائفي وضمان حقوق المواطنة لجميع العراقيين. وإعلان قانون الضمان الاجتماعي والاحوال الشخصيّة رقم 188 لسنة 1959 الذي أنصف المرأة وساواها بالرجل في الميراث. وقانون تكوين النقابات والاتحادات المهنيّة الذي ساهم في رفع الوعي السياسي للشعب. وإطلاق سراح المعتقلين والسجناء العراقيين. ودعْم الطبقة الوسطى والسعي لتقويتها وتطويرها وتوسيعها. وتوزيع عشرات الالاف من المساكن وتوفير التسهيلات لتوزيع الاراضي على ذوي المهن من منتسبي النقابات والجيش وموظفي الدولة... وغير ذلك من الاصلاحات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة الهادفة لبناء حياة أفضل للعيش الانساني الكريم مما أنجزته ثورة 14 تمّوز ووجد طريقه للتنفيذ في الحياة وعلى الأرض فأفاد الناس والبلاد.
وما هذا إلا استعراض موجز ومؤشر لما يمكن أن تقوم به إدارة وطنية نزيهة ومخلصة للعراق والعراقيين بعد دحر وطرد الغزاة ومحاكمة عملائهم.
وبذلك فقد كانت جمهورية 14 تمّوز مؤهلة أكثر من أي حدث معاصر آخر لانتزاع الاستقلال الحقيقي والقرار الوطني الحرّ لبناء نهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية معاصرة ومستقرّة ومتطورة تقوم على قاعدة: العراقي والعراق بعيدا كل البعد عن أي تفرقة بين الناس من أي شكل كانت.
لكنّه يؤخذ على منجزات ثورة 14 تمّوز الاقتصادية والسكنية أنها تمّت بشكل عفوي، أي بمعزل عن وجود تخطيط وطني - اقليمي شامل ومدروس علميا يُرَشِّد عمليّة التطوير ويضع كل نشاط اقتصادي وما يتطلبه من مبنى ومستوطنة وقرية ومدينة في مكانه الصحيح: بوظيفيّته وحجمه ومستقبل تطوّره. لذلك فقد كانت المنجزات التخطيطية - المعماريّة مشوبة بالعشوائية التي تراكمت أخطاؤها مع الزمن فخلّفت فيما بعد ريفاً ضعيف الانتاجيّة وقرى تفتقد للخدمات والمرافق، يقابلها مدناً مليونيّة، كالحواضر الكبرى، خاصّة بغداد، التي تضخَّمت ليس على أساس الوظائف الاقتصاديّة المُنْتِجَة بل نتيجة الهجرة الفوضويّة لملايين من سكان القرى والارياف الفقيرة نحو المدن الكبرى، التي عجزت عن استيعاب قواها العاملة، كما أرهقت أداء شبكات الخدمات والمرافق العامّة، مما نجم عنه مشاكل تخطيطية مستعصية ومعضلات اقتصادية في عموم البلاد؛ منها إهمال الزراعة واعتماد بلاد الرافدين على استيراد المواد الغذائية، وحرمان سكان القرى والارياف من الخدمات الاجتماعيّة والمرافق العامّة التي كان يجب نشر شبكاتها خارج المدن لمعاونة سكانها على تنمية الانتاج الزراعي وتركيز الاستقرار في قرى وأرياف متطوّرة.
ومع ذلك فقد شكّل النمو النوعي والسريع لمنجزات ثورة 14 تمّوز خطراً على مصالح الاستعمار الذي وقف وعملاؤه بالمرصاد، يكيدون ويُخَرِّبون ويَغدرون... حتى وأدوا أول جمهوريّة عراقيّة شعبيّة ومُنْتِجة بمؤامرة سوداء دمويّة في 8 شباط 1963. وكانت عمليّة الاغتيال الوحشي البشع للزعيم عبد الكريم قاسم في مبنى الاذاعة والتلفزيون وبثَّها للعالم عاراً و دليلاً فاضحاً ومخزياً لبعض من همجيّة الانقلابيين وبربريتهم وشراستهم.
وبعد عقود من الزمن توضّحت الصورة بشكل أفضل عن انقلاب 8 شباط الذي تمّ بتخطيط ودعم شامل من المخابرات المركزيّة الامريكيّة؛ وكانت الولايات المتحدة من بين أولى الدول التي اعترفت بطغمة الانقلابيين البعثيين؛ كما زوَّدت عصاباتهم بقوائم الموت التي تمَّ على أساسها تصفية خمسة آلاف عراقي من خيرة العلماء والمفكرين والمثقفين الوطنيين في تاريخ العراق الحديث؛ وهو رقم متواضع بالنسبة للحقيقة، لكنه مقتبس من
Richard Sanders,Regime Change: How the CIA put Saddam's Party in Power, 24 October 2002
وما أشبه اليوم بالبارحة، حيث قتل الغزاة آلاف الاكاديميين وأساتذة الجامعات والعلماء والادباء والفنانين والصحفيين العراقيين منذ الغزو الامريكي عام 2003 بقوائم موت حديثة.
والجدير بالملاحظة انه لم يتم لحد الآن لا التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبتها عصابة البعث عام 1963، ولا فظائع غزاة الأطلسي منذ عام 1991 ولحد الآن؛ ولم يقدَّم أحد للمحاكمة. وتمر الجرائم المفضوحة وكأنّ تصفية الذكاء والكفاءة العراقية أمر اعتيادي وجزء عضوي من العملية السياسية! تماماً كإسرائيل في فلسطين: تقتل وتأسر وتسجن من تشاء بغير حساب. مما يُثبت المرّة تلو الأخرى بأنّ النخب الغربية مُصِرّة على محق العراق وامتهانه وتغييبه وقتل واقصاء وتهميش ذوي الكفاآت والافكار الوطنية، ومنع العراقيين من حقهم الطبيعي في الحياة والاستفادة من ثروات بلادهم.
ان تنفيذ تهديد وزير الخارجية الأمريكية جيمس بيكر عام 1991 للعراق : " سنعيدكم الى العصر ماقبل الصناعي "، لم يكن إنذاراً تفاوضياً، بل إعلان للعرب والمسلمين والعالم أجمع عن المخطَّط الأمريكي الموضوع في مطلع سبعينات القرن العشرين لاحتلال الخليج، وانه جزء من عقيدة " القرن الأمريكي "، الحلم الامبريالي للهيمنة المنفردة على العالم على حساب حقوق ومصالح وأحلام الآخرين، والاعلان الرسمي عن " النظام العالمي الجديد " بقيادة حكومة العالم الخفيّة، القادرة على تخريب أي بلد وإفراغه من سكانه وتحويل أحد أثرى بلدان العالم الى ركام وشعب فقير ومتخلّف ومهجّر ومنكوب. فخبرة الانجلوسكسون في إبادة سكان أمريكا الأصليين تعكس وَلَعَهم بإعادة من تحلو لهم من البلدان، بشعوبها، الى العصور الحجرية. ومن ذلك تهديد الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي بأن قواتها ستنهال بالقنابل على فيتنام الشمالية لاعادتها الى العصر الحجري. والتحذير الأمريكي للباكستان باعادتها الى العصر الحجري في دقائق معدودة. وتهديد اسرائيل لكل من الغزاويين وسوريا وايران باعادتهم الى العصر الحجري...
ففي ظلّ الكذب والتآمر والخداع والارهاب الاستعماري قامت حروب الخليج العبثية التي محَقَت العراق، وتمّ تطبيق قرار هيئة الامم المتحدة بمقاطعة الشعب العراقي، وتسهيل الغزو الامريكي - البريطاني للعراق. فأي فخر هذا ل " المتحضرين " الذين يُخَلِّفون الأنواع من الكوارث والمآسي والأحزان خارج حدود الغرب ودون أن يحاسبهم ويحاكمهم أحد؟
لقد شنّ الغزاة حربهم الماحقة على العراق بلا قانون ولا أخلاق بل بالكذب وقوة شريعة الغاب. وستظل هذه الكارثة، وعلى مدى التاريخ وصمة عار وبربرية وقمة التوحش والبشاعة في تاريخ الثقافة الغربية التي تدّعي نخبها "التحضُّر". وما الانسحاب الذي أعلنه الغزاة الا خداعاً استراتيجياً لتضليل وامتصاص نقمة الرأي العام العراقي والعربي والاسلامي والغربي والعالمي الغاضب على غزو العراق. ورغم إعلان الغزاة انسحابهم من العراق في إعلامهم الكاذب بعد أن محقوه، فقد تركوا ليس حصاناً طروادياً واحداً بل قطيعاً من الخيل: من العملاء الموثوقين المُسَيِّرين للفوضى الخلاقة والعملية السياسية، والاتفاقيات الاستراتيجية، وشركات النهب والنفط الغربية، والمدينة / القاعدة العسكرية - المخابراتية/ السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، ودستور أسَّسَ للتقسيم والاقليمية الطائفية والمحاصصة والفساد الشامل... وبُنية تحتية تُمأسِس للارهاب... ومثقفون ومتعلمون خونة وفاسدون وماكرون قلوبهم هواء عمياء وقاسية لاهية، يحكمون بالاتفاق والأقنعة وتوزيع الأدوار والغنائم والأسلاب، ويُشْغِلون الناس بهراء المشاحنات الدينية - السياسية العقيمة دون أدنى اهتمام بمؤسسة الدولة والهوية الوطنية ولا بتطوير البلاد ولا برفاه الشعب ولا باحترام ثقافته؛ فيقودون البلاد الى الانهيار الاقتصادي - الاجتماعي - الثقافي - التعليمي، ولا يزالون يفتعلون وينتجون الأزمات المعقدة والمستعصية وينشرون القتل المجاني للأبرياء:7/24... و بينما يتحدثون عن الحرية والديموقراطية فانهم يخشون الإطلالة برؤوسهم النجسة من المنطقة الخضراء... ويفتخر زوّارهم المستفيدون والمطبِّلون للعملية السياسية بعودتهم سالمين الى عواصم الغرب!
في البدئ كان تمكين عصابة البعث
كان العراق، ولا يزال، هدفاً استعمارياً منهجياً في الارهاب والظلم والساديّة والوحشية، والتي بلغت إحدى ذراها بتمكين حزب البعث للتسلّط على حكم العراق عقودا من السنين تحت مظلّة من الكذب والخداع واجهتها مزخرفة بكلمات: الوحدة والحرية والاشتراكية، التي تمّت باسمها أحد أفضع الجرائم والكوارث التي مرّت في تاريخ العراق والمنطقة والعالم الحديث، والمستمرة منذ 8 شباط 1963 ولحد الان: مآسي توزعت على العراق والعراقيين. وليس هناك أفضع منها غير " الحرية " التي وعد الغزاة بها العراقيون بغزوهم عام 2003 والتي بدؤوها ب " الصدمة والترويع "، والتي تطوّرت الى " الفوضى الخلاقة " التي لاتزال تفرز المزيد من الدمار والمذابح والمحارق على مدار الساعة.
ولن يعرف العراقيون ولا العالم تفاصيل جرائم عصابة صدام حسين، ولا كوارث أسياده الغزاة ومؤامراتهم السريّة ودسائسهم المخفيّة الا بعد مرور عقود من السنين، وذلك عندما تسمح النخب الغربية، حسب مصالحها ومخطّطاتها والقادم من تنفيذ مؤامراتها، باطلاق سراح وثائق كانت " سرية للغاية ".
لقد اختطف حزب البعث عصابة من العملاء الخونة الذين نهبوا مع أسيادهم الاستعماريين العراق وثرواته وظلّلوا الشعب وأَلْغَوْا حلمه بعالم أفضل؛ ومزّقوا المجتمع وأضعفوا الروح الوطنية وسمّموا الذمم وعملوا على تجريد المواطن ليس من وطنيته فحسب بل من إنسانيته وآدميته... حتى اصبحت العمالة للاجهزة الاستعمارية أمراً اعتيادياً سواء على مستوى خيانة المسؤولين أم " ارتزاق" مجموعات وأفراد من مختلف فئات الشعب. وهو أمر مخطَّط لأن تخريب النفوس أخطر بكثير من محق البنية التحتية للبلاد. وعوضاً عن تطوير العراق وإسعاد الناس بعائدات النفط، نفّذ صدام حسين أوامر أسياده مُبَذِّراً الاموال ومستنزفا طاقات الاجيال لتُطحن في حروب عبثية وبليدة متتالية كانت نتائجها مُهْلِكة للعراق وشعبه ومُهينة لتاريخنا. فقد دمّرت العراق وأبادت الملايين من الناس ونكّلت بالمثقفين الشرفاء: اذ كان المناضلون يُقتلون في الشوارع والسجون ويُذوَّبون في أحواض التيزاب، وحشود تستشهد في الحروب، وآخرون يُطْمرون في المقابر الجماعية... ولاحصر لقائمة جرائم طغيان زمرة البعث. اذ كان انقلاب 8 شباط 1963 الدموي منبع شلاّل الشرّ الجاري وبحور البلايا الممدودة دماً وخراباً لحد الان. إضافة الى فتح وتعبيد الطريق للوجود العسكري الامريكي وتقوية نفوذه السياسي في غرب آسيا ونهبه لنفط العراق والاقليم.
لقد ارتبطت ثورة 14 تمّوز 1958 بشخص مُفَجِّرها وقائدها الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي كان ضابطاً وطنياً كفوءاً وإدارياً نزيهاً وحاكماً شجاعاً، صعد الى سدّة الحكم وفي ذهنه مشروع وطنيّ مخلص لتطوير العراق ورفع مستوى معيشة السكان، وشدّ اللحمة الوطنية. ولم يكن للتمييز بين العراقيين حيّزا في تفكيره، فقد كان وفاءه وولاءه للوطن والشعب وليس لطائفة أو فئة أوقوميّة أو عشيرة. وقد ثمّن العراقيون عالياً جهود الزعيم المخلصة: فمنذ اليوم الاول للانقلاب العسكري كانت مساندة الشعب العراقي قويّة وواسعة رَفَدَت الانقلاب الى ثورة جماهيرية حقّقت بعضا من أحلام الشعب وآماله في حياة أفضل وأكثر عدلاً ورحمة. وبإخلاصه ومنجزاته أصبح الزعيم عبد الكريم قاسم رمزا للوطنيّة العراقيّة في العصر الحديث.
في مقابل ذلك ارتبط انقلاب 8 شباط 1963 الكارثي بحزب البعث الذي تحوّلت قيادته الى عصابة دمويّة يرأسها صدام حسين، وهو عميل تافه ومجرم فتّاك لاتهمّه مصلحة الوطن ولا الشعب، بل أخضع لظلمه الحزب والبلاد والناس والدولة والقانون، فسبى العراقيين، وعبّد وسهَّل جميع الطرق المؤدية إلى غزو ومحق العراق. فكان العامل المساعد الأساسي في مختلف كوارث العراق ومآسي ومعاناة العراقيين.
ولو كان في العراق دستورا منبثقاً عن دولة مؤسسات، وبلاداً مستقلّة حقاً، وشعباً أعلى وعياً وأقوى وحدة، ومثقفين وطنيين أحرار وشرفاء أقوى من المثقفين الخونة العملاء... لما كان لنُبْل عبد الكريم قاسم وضُعْف إدراكه لمسؤوليته التاريخية الحقّ في أن يعفو بارادته الذاتيّة "عمّا سلف". لانّ القضاء المستقل هو المكلّف بالحكم لاثبات البراءة أو نيل العقوبة على الجرائم التي قام بها المتآمرون ضدّ مصلحة البلاد والشعب. ولا كان للعميل صدام حسين امكانية التفريط بمصلحة العراق وحشر الشعب في كل الكوارث والمآسي التي يعيشها. فدولة القانون والمؤسسات هي مظلّة العدل. وانّ مصلحة الشعب والبلاد والدولة المستقلّة يجب أن تكون فوق مصلحة وارادة الحاكم.
والان، وقد مضى هذا التاريخ، بشقّيه المجيد والخياني، وخلّف تراثاً ثريّاً وتجارب متنوعة، فانّه على أجيال الحاضر والمستقبل التعلّم منه: أولا، باستيحاء جوانبه الحيّة في النهضة العراقية المعاصرة، وليس التوقّف عند الفخر بأمجاده. وثانيا، بفك ارتهان العراق للغزاة وعملائهم: بجمع الهِمَم لطرد الغزاة بدءاً بتحرير عقول الناس من الأكاذيب والأوهام وبرفع وعيهم بضرورة المقاومة المسلّحة حتى النصر: الطريق الوحيد عاجلا أم آجلا لانتزاع الحرية والاستقلال الحقيقي؛ وبعدم السماح مرّة أخرى للنخب الغربية وعملائها المحليين العبث بالبلاد وثرواتها وحياة وحقوق ومصالح أهلها وكرامتهم الانسانية.
ولن ينقذ العراق سوى أهله الذين سيُحَدِّدون مستقبل الوطن والشعب، وليس المؤامرات والاجندات والمصالح الغربية. فمفتاح التغيير والتطوير لايأتي من الخارج، بل من روح الشعب الذي يعبِّر عن إرادته بالكلمة والفعل، وبالتخطيط العلمي والعمل المنتج.