ارتخاءة الشعر – 14 / عبد الله بن الدُمينة الأكلبي

2020-08-19

أول الكلام:

تتالت المصائب علينا، فالجائحة بدت كغول خرافيّ شرس يهاجم الناس ولا يشبع ! ويزداد ضراوة كلما أحسناّ الظن به حاسبين أنه قد خفّ وقعه !

وفي عراقنا قد بُددت الآمال برئيس وزرائنا حين توهمنا أنها منعشة لنجد أنها قبض ريح ! فسيادته يعِدُ ويعد وما وعد مجرد هواء في شبك .. الذيول المسلحون يستهدفون الشباب والفلم الذي شاهدناه وضحيتة الفتى القاصر يتكرر مع غيره من الفتية والشباب، والأفلام المتتالية عن التعذيب والضرب ترسل لكي تشاهد وترعب الشباب وتنطوي على معنى التحدي.. حيث لم نعرف من هم هؤلاء المنتهكون ولم يكشف عن أسمائهم ولم يحالوا إلى القضاء كما وعد سيادته..

وعربياً منذ واقعة بيرت المؤلمة التي يُتأكد يوماً إثر يوم أنها بفعل فاعل.. تلتها نكسة سياسية عواقبها ستكون الأوخم، وأعني بها تطبيع دولة الإمارات العربية مع دولة إسرائيل العبرانية..

لذا أصبح الرفق بالنفس وبالأصدقاء فرضاً فلا مناص إذن، ولا أجمل من أن نلوذ بالشعر نلتمس فيه ارتخاءة ولو إلى حين !

***

وشاعرنا اليوم عرَفتُه من خلال "المعلم الجديد" وما كنت قد بلغت الحُلم، وفتنت به وحفظت قصيدته القصيرة الذائعة "ألا يا صَبا نجد.." التي حدا بها الركبان لخفتها وجمالها، وغنّاها مطربو المقام العراقيون على مقام "الصبا" لتوافق في مطلعها "صبا" وإسم المقام.. والقصيدة فيها حزن وكذلك "الصبا" الذي أعتبره و"المخالف" والسيكاه من أكثر المقامات العراقية حزنا ًوتوجعا..

 هو شاعر أموي اسمه عبدالله بن الدمينة الأكلبي، والدُمينة أمُّه وهي من بني سلول، وأكلب هي قبيلته من ربيعة.. ولد في نجد وهي موطنه ولم تأتنا سنة مولده.. وهو شاعر أموي بارز وفارس مِقدام ومُقاتل في الجيش، وُصف بأنه وسيم حسَن الصورة، لكن هذا العسكري رقيق مرهف الحس، عذب اللغة، صافي الديباجة حتى  ليحسب القارىء المتمعن الفطن أن شعر هؤلاء العذرين يتشابه في ديباجته ونسيجه وأنه قد غُربل من التراث الشعري الذي سبقه من مفرادات الشعر الجاهلي الثقيلة الصعبة.. فاستحال إلى حرير ناعم لاعقدة فيه، جميل الوقع في موسيقاه على المسامع .. واضح المعاني صادق العواطف، تسمع القصيدة منه وتود أنها لو طالت فإن وجدتها قد قصرت رحت تعيدها وتعيدها دون أن تمل أو تكل !!

وحين أحاول استذكار الشعراء من يقاربه منهم فأجد الشاعر العباسي العباس بن الأحنف (103- 192ه/750 – 809م)، الذي سبق أن كتبت عنه وعن كَلَف الشاعرة الدكتورة الأنيقة عاتكة وهبي الخزرجي التي نالت الدكتوراه من السوربون في شعره..

 فهو مثله نجدي وإن اختلف العصر ونأى، شبيه ابن الدمينة في الأناقة والعفة في الغزل، والوسامة خِلقة، وهومثيله  شعراً،  في حسن السبك وسمة الجزالة ورقة اللفظ وصفائه ووضوح المعاني وبلاغة التركيب وتتالي الصور ناهيك عن صدق المشاعر.. أذا لنسمع ابن الأحنف :

أبكي الذين أذاقوني مودتَهم – حتى إذا ايقظوني للهوى رَقَدوا

واستنهضوني إذا ما قُمتُ منتصِباً – بثِقل ما حمّلوني بالهوى قَعَدوا

جاروا عليّ ولم يوفوا بعهدِهمُ – قد كنتُ أحسَبُهم يوفون إن عهِدوا

لأخرُجنَّ من الدُّنيا وحبُّهمُ – بين الجَوانحِ لم يَشعُرْ به أحدُ

وترى القصيدة قصيرة مركزة كسلُاف عبِق، لتشي بمدأ هام وهو: أن القصيدة لا تقاس بطولها.إنما بمعانيها وعواطفها ولفظها وصورها ....

وعودة الى شاعرنا عبد الله بن الدمينة، الذي توفي مغدوراً سنة 130 هجرية ، وقصيدته هي الأخرى في الحنين والشوق للمحبوب، الذي يتكتم على اسم حبيبته، وهي الصفة المشتركة مع غيرها مما ذكرنا مع ابن الأحنف الذي ولد وكان ابن الدمينة بعمر سبعة وعشرين عاما في أوج شاعريته ..

نتناول القصيدة الذائعة لابن الدمينة التي لا يُذكر إلا ويتبادر الى الذهن قصيدته الملتاعة :

ألا يا صَبا نجدٍ متى هِجتَ من نجدِ – لقد زادني مَسراك وجداً على وَجدِ

أإن هَتفت ورقاءُ في روْنق الضحى -  على فَنن غض النبات من الرندِ

بكيْتُ كما يبكي الوليد ولم أكن – جليداً وأبديتُ الذي لم أكن أُبدي

وقد زعموا أن المُحبَ إذا دنا –يملُّ وأن البُعدَ يشفي من الوجدِ

بكلٍ تداوينا ولم يشفِ ما بنا – ألا إن قُربَ الدار خيرٌ من البعد

ألا أن قُرب الدار ليس بنافعٍ – إذا كنتَ من تهواه ليس بذي ودِّ

ألم أقلْ لكم أن القصيدة ملتاعة وهي بنت الشاعر الملتاع، وفي قصيدته الصادقة بوح شريف وإخبار صادق، فالحب من طرف واحد، ولم يجعل المحبوب مَلوماً ولا ناكثَ عهدٍ بل ظل الشاعر محبا وصادقا  ونبيلا في مشاعره رغم جوى الحب.. الموسيقى صادحة تكثر في الدالات والقافات  وهي أصوات متفجرة ثم ليونة الفاءآت واللامات ..الخ قتتنوع الأصوات وتتفاعل لتكون موسيقى شجيه منسابة أليفة.. واللغة تجمع بين السهولة وانثيالات أحاسيس الشوق ولواعجه تجعلها تدخل القلب والذاكرة معاً .

19 آب/ أغسطس 2020

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved