كتابة الطفولة أصعب من الكتابة إلى الطفولة، ولا نستهين بالثانية لكن بالتجاور المقارن . تكون الأولى بمنزلة الإجتراح أما الثانية فهي كدح في تصنيع النص . ومنذ خطوتها الشعرية الأولى (امرأة من رمل) وثقّت شعريا في هذا الحقل الممكن المستحيل، وقامت بتوسيع قوس الطفولة الشعري في (بقية شمعة قمري) و(سماوات السيسم) وكذلك في خطوتها الشعرية الثانية الهايكوية (دقيقتان ودقيقة واحدة) وهذا التراكم الشعري أثل جهوية ً جديدة مبصومة بتجربتها الحياتية مع الحفدة . هنا للشعر أكثر من منفعة . فالمعايشة أنتقلت للمجايلة بينها وبين الحفدة، وكأن الشاعرة غرست في حفيدتها عوالمها الشعرية التخيلية .
(*)
هذا النوع من الكتابة الشعرية هو ممكن ومستحيل . الإمكان له شروطه التي تغدو مستحيلا بالنسبة لسواها من الشاعرات والشعراء.. والسبب أن الإصغاء للطفل والتحاور معه بمحبة والتعلم من أطفالنا يحتاج صبراً لا يطيقه أغلبنا ومن كلا الجنسين، فيعوّض ذلك بالكتابة عن الطفولة أو إلى الطفولة.. الشاعرة هنا ترصد حالة شعرية لدى حفيداتها وهي حالة متفردة في نوعيتها .
تتوزع القصيدة بعين كاميرا قريبة من الشخصية الأولى مع تعليق شخص آخر على النص المرئي :
(مدهوشة ٌ
تتراكض
تحضن الجدار، تحضن ذاتها
ترتمي على عشب الحديقة)
هنا اكتملت اللقطة المضارعية الأفعال : تتراكض.. تحضن.. تحضن.. ترتمي .
ثم ينتقل النص من المرئي إلى التحاورالنسوي بين الجدة والحفيدة .
وللتحاور وظيفتان : الظاهرة هي المتداولة المألوفة لدينا للتواصل المجتمعي . أما الوظيفة الثانية فهي توضيح الغامض الذي يستقبلنا في العتبة الداخلية للنص . من هنا أرى أن الوظيفة الأولى هي الوظيفة الرئيسة أما الثانية فهي الأساس الشعرية . إذن من خلال التحاور توضح الغامض في النص المرئي وهذا الوضوح سيصيب فعل القراءة بالدهش . نثبت النص المرئي
(مدهوشة ٌ
تتراكض
تحضن الجدار، تحضن ذاتها
ترتمي على عشب الحديقة)
ننتقل إلى النص التحاوري
(: هيا ماذا تفعلين ؟)
هنا يعرف القارىء اسم الموصوفة : مدهوشة، وهكذا ينتقل القارىء من هاء التوصيف إلى هاء المسماة سيكون جواب الطفلة كالتالي : (أحضن ظلي ؟)
وهنا تلقي الصدمة لدى الجدة وهنا تساءل الجدة ُ نفسها قبل حفيدتها (هل الظل كائن حي ؟) وتتسع الصدمة من خلال جواب الحفيدة المفصّل وسنعمد على تسلسله، وستتفرع المحاورة من خلال شريكات نسوية شقيقات الحفيدة الأولى :
(نعم أشعره صديقي
أحدثه عن أحلامي وألعابي
وأفرح كثيراً حين يلاعبني
أركض ويسبقني)
هنا خصوبة مخيال الطفولة، وهو مخيال لا ضفاف له . هل هي علاقة مرآوية ثانية بعد مرآوية لا كان، التي يؤكد لنا أن الطفل يكتشف من يشبهه في المرآة، وهكذا يتعرف إلى ذاته . بعد مرحلة البوح تنقلنا القصيدة إلى تساؤلات الطفولة من خلال الطفلة هيّا، تساؤلات تبثها إلى جدتِها
(لماذا هو حزين
لا يضحك
لا يحكي
حين ننام أين يذهب ؟ ) هنا الجدة تصغي بمرونة مطلقة لحفيدتها . لا تزجرها
من هذه المرونة ينفذ الصوت الثالث في القصيدة وهو صوت شقيقة هيّ، أعني صوت رينا التي تجيب على سؤال هيّا
(حين ننام أين يذهب ؟)
تجيبها رينا (ينام تحتنا : أجابتها رينا)
فتتساءل هيّا مستغربة : ألا يختنق ؟)
هنا الصوت الرابع : تدخل لانا لتضيف سعة ً خيالية ً لقوس القصيدة الثرة
(قالت لانا
الهواء ينفشُ شعري
أحياناً
لا يستحي يرفع ثوبي
أوّل أمس أزعجني
: طيّر أوراقي
فصفعته ُ
وزجرته
لكنه لم يغضب
ظل يضاحكني
حتى ضحكتُ كثيراً)
نلاحظ التشارك المخيالي، بين الشقيقات لاتكذبن أحداهن شقيقتها، بل تزيدها مخيالا يدفع القصيدة نحو الأوسع
الظل : صديق هيّا
الهواء : صديق لانا
رينا : متضامنة مع هيّا وتعرف أين ينام الظل ضمن قناعة مخيالها .
الصوت الخامس ينوب عنه الصوت الرابع صوت لانا حين تخبر شخوص القصيدة ومن خلالهن تصلنا المعلومة:
(أمس
كانت ميرنا
تفتح كفها تجمع الهواء
وتطشه علينا)
هنا لميرنا حيازة مميزة : القبض على الهواء وإطلاقه بتوجيه منها .
ومسك المخيال على لسان لانا، وهي تبث حيرتها سؤالا إلى جدتها :
(جدتي
لماذا
كلنا نرى الظل
وحدها هيّا تلاعبه
لماذا الهواء يرانا ولا نراه)
قفل القصيدة : مفتاحها ومفتاح وجودنا صعوبة الواضح . فالمرئي نحن لانرى منه إلاّ ظاهره ونتوهم أن المعرفيات كلها بحيازتنا وأصعب الأسئلة سؤالاتنا في طفولتنا، وللأسف حين نكبر نسفّه سؤالات طفولتنا
(*)
صمت الجدة واقتصادياتها الكلامية منح القصيدة : جوهرة لا تعوض بأي ثمن
وفي صمتها ترى قراءتي : درسين: دعوا الطفولة في بوح مخيالاتها ولا تزجرها
ولا تردعوها بأنظمة معلوماتية تدحسونها دحسا في الذواكر البريئة
دعوا الطفولة في طفولتها وبطريقتها ستكشف وتؤثل خرائط تليق بلثغتها وأجنحتها
والدرس الثاني : كيفيات كتابة الطفولة . حيث تكشفت مهارات الشاعرة بلقيس خالد
في هذا الحقل الدلالي...
ظل ٌ أبكم
بلقيس خالد
مدهوشة ٌ
تتراكض..
تحضن الجدار، تحضن ذاتها
ترتمي على عشب ِ الحديقة ِ
: هيا، ماذا تفعلين ؟
:احضن ُ ظلي
: (هل الظل كائن حي ؟)
: نعم، اشعره ُ صديقي، أحدثه ُ عن احلامي وألعابي وافرحُ كثيرا حين يلاعبني اركض ويسبقني..
لكن ....
لماذا هو حزين..
لا يضحك
لا يحكي
وحين ننام أين يذهب ؟
: ينام تحتنا . أجابتها أختها رينا .
:ألا يختنق ؟!
بحزن تساءلت هيا .
قالت لانا
الهواء ينفشُ شعري
وأحيانا
لا يستحي
يرفع ثوبي
أول أمس أزعجني
: طيّر أوراقي
فصفعته
وزجرته
لكنه لم يغضب
ظل يضاحكني
حتى ضحكت كثيرا
أمس
كانت ميرنا
تفتح كفها تجمع هواءً
وتطشه علينا،
جدتي
لماذا
كلنا نرى الظل
وحدها هيّا تلاعبه
لماذا الهواءُ يرانا ولا نراه ؟