عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي صدر هذا الشهر نوفمبر 2017 كتاب جديد لمؤلفه الدكتور عبدالواحد بن خالد الحميد، وقد تكون الكتاب من 16 فصلا اشتمل على 317 صفحة من القطع الكبير، محتويا على سيرة روائية لحياة الدكتور عبدالواحد الحميد في مدينة سكاكا الجوف منتصف الخمسينيات من القرن الماضي .
جاء الإهداء رقيقا مشبعا بالعواطف والحنان، حيث حرص المؤلف على اشراك والديه وأشقاءه وخاصة الراحلين منهم، كما أشرك عائلته الصغيرة ممثلة في زوجته وبناته، كما قدم شكره لشقيقاته وأشقاءه رفاق سنوات الجوف وآخرين .

ويمكن اعتبار الكتاب سيرة بل رواية جميلة صيغت بلغة رصينة ولغة باذخة، زادها بهاء هذا التوثيق المتقن لكل أجزاءها، ولا يمكن للكتاب الا ان يعطي لكل قارئ سيرته الذاتية التي تتحرك مع صفحات الكتاب فكأنه رواية لاستعادة الطفولة المفقودة لكل قراءها .
الكتاب شهادة على حياة جيل بل اجيال لم يكتب لها ان تدون سيرتها، كان عبدالواحد الحميد الشاهد عليها وبطلها، سيرة صادقة ومشرقة يتمناها الكثير .
في كثير من الأحيان كنت اشعر انني اقرأ رواية، مع توالي الأحداث والفصول وكان النفس الروائي في الكتاب ظاهرا وهو ما أضفى عليه بعدا اخر زاد جماله .
كان الحنين إلى الشارع القديم والحي القديم ظاهرا في الكتاب، ولذا كان اختيار قصيدة غازي القصيبي " في الشارع القديم " كمدخل للكتاب :
نعود إليه
إلى شارع كان منزلنا ذات يوم
يطل عليه..
ونسأله عن سنين هوانا..
فيأتلق الشوق في شفتيه..
ونسأله عن سنين صبانا..
فيحترق الدمع في ناظريه..
قسم الدكتور عبدالواحد الحميد كتابه إلى سبعة عشر فصلا هي :
- في الشارع القديم
- سنوات الجوف
- في حارة الشعب
- تلك الضاحية
- أيامنا وليالينا الجميلة
- صخب الحياة في سوق البحر
- أم الدنيا .. والحداثة المبكرة
- كم كانوا يضربوننا
- حيث يتحرر الصبي
- الرياض أم الدنيا و أبوها
- اكتشاف الذات
- الصحافة
- سحر القراءة
- هذا ما كان يشغلنا
- الأمير
- بقية المشوار
- تعلمت من سنوات الجوف وما بعدها
في الفصل الأول الذي كان بعنوان " سنوات الجوف " يؤكد د. الحميد أن مايرويه في كتابه لا يخص فردا واحدا بقدر ماهي محاولة لتسجيل ذكريات الجيل الذي ولد في الخمسينيات الميلادية من القرن العشرين في حي من أحياء مدينة سكاكا بمنطقة الجوف في المملكة العربية السعودية، وعاش طفولته ومراهقته في عقدي الخمسينيات والستينيات بكل مافي تلك الحقبة من صخب وتحولات اجتماعية جذرية في تلك البيئة التي تعج بالاحداث التي تعكس ماكان يجري في الوطن من تحولات، وما كان يفور به العالم العربي من أحداث وثورات وآمال وإحباطات .
ويشير د . الحميد إلى أن فتَنته منذ زمن مبكر بقراءة مذكرات الرحالة الغربيين الذين مروا على منطقة الجوف في القرن التاسع عشر كانت وراء دهشته ومتعته وخاصة وصف الأحوال الاجتماعية في ذلك الزمان وكانت تلك ميزة حظيت بها المنطقة، بحكم موقع منطقة الجوف المجاور لكل من العراق وفلسطين والأردن وسورية ، ويعتبر د. الحميد أن ميزة القرب الجغرافي لدول الهلال الخصيب أعطى المنطقة ميزة الانفتاح على الدول المجاورة وتأثرها بما كان يبثه الاعلام العربي عبر الاذاعات التي كان أبرزها صوت العرب واذاعة الشرق الاوسط المصريتين واذاعة صوت أمريكا وإذاعة المملكة الأردنية الهاشمية من عمان والقدس، إضافة لإذاعات أخرى كالكويت وبغداد ودمشق إضافة إلى أن الصحف والمجلات العربية كانت تصل المنطقة وأسهمت كثيرا في انفتاح المنطقة .
ولد الدكتور عبدالواحد الحميد في 14 ديسمبر 1953 م وغادر منطقة الجوف أواخر عام 1971 للدراسة في جامعة الملك عبدالعزيز بمدينة جدة، ثم الى الولايات المتحدة الأميركية التي عاد منها بالدكتوراه في الاقتصاد عام 1984 لجامعة البترول بالظهران، ثم استقر في الرياض بعد تعيينه عضوا بمجلس الشورى وتاليا نائبا لوزير العمل، ولكنه يشير لعدم انقطاع صلته بالجوف، رغم قضاءه معظم سنوات العمر خارج سكاكا الجوف .
تتميز تجربة الدكتور عبدالواحد الحميد والتي دون جزءا منها في هذا الفصل " سنوات الجوف " منذ بداياتها حيث كان يحتفظ بالقصاصات الصحفية عن الجوف خاصة وقد ارتبط بالصحافة منذ المرحلة المتوسطة وكون والده " خالد الحميد " مندوبا لجريدة الجزيرة، وكانت منطقة الجوف في طليعة اهتمام د. عبدالواحد الحميد وتركيزه حيث كتب في عشرات المقالات الصحفية للمطالبة بتطوير الجوف وغيرها من المناطق التي تسمى نائية " لبعدها عن العاصمة الرياض "، مشيرا إلى أن خلفيته الاجتماعية كأحد أبناء منطقة الجوف قد أسهمت في تعميق احساسه بأهمية التنمية المتوازنة، وانحيازه لمطالب المناطق الصغيرة .
ويؤكد د. الحميد أن جيله كان بعيدا عن العنصرية متساميا فوق إرث الماضي كل ذلك حيث كان النسيج الاجتماعي في الجوف رغم تنوعه في ذلك الزمان متجانسا بعيدا عن التعنصر .
في الفصل الثاني " في حارة الشعب " يذكر د. الحميد ميلاده في حي " الشعيب " الاسم الذي لم يكن مسرورا به في طفولته، ويذكر العديد من النوادر والقصص التي عايشها ويكشف سبب استقباله للرسائل على عنوان حي الشعب بدلا من حي الشعيب، كما يذكر مراسلاته في المرحلة المتوسطة وممازحات الكبار من أهالي الأحياء المجاورة له عن مقارنة اسم حارته بالحارات المجاورة ، ويكتب عن والدته من الرضاعة، و حياة الناس في حي الشعيب وحاراتها التي كان يعتقد أنها واسعة وكبيرة، كما يصف البيوت الطينية التي كانت سائدة في الخمسينيات والستينيات وأساليب حياة الناس وطرق عيشهم، كما يكتب عن سكان الحي الذين ينتمي د. الحميد وغالبيتهم إلى القرشة من بني خالد والذين تجمعهم من أبناء القبائل الأخرى بالمصاهرة والقربى ويشير إلى أن الجد الأكبر للعائلة هو " قريش " والذي أعطى اسمه للجميع وأحفاده يسكنون أجزاء واسعة من مدينة سكاكا واللقايط، كما يقدم وصفا لحارة التحتى في حي الشعيب ومزرعة العائلة في اللقايط والتي كان جد د. الحميد يسكنها بعد انتقاله من حي الضلع لها قبل أجيال .
كما يوثق د. الحميد لحكايات وقصائد وطرق التعليم كما يشير إلى طفولته المبكرة التي لم يكن في أي بيت من بيوت حارة الشعيب تمديدات للمياه فضلا عن الكهرباء والهاتف، مشيرا إلى أن إدخال الماء تأخر حتى منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي، أما الكهرباء والهاتف فقد تخرج د. الحميد من الثانوية العامة عام 1971 وغادر منطقة الجوف قبل أن تدخلا الحي، كما يكتب عن طريقة جلب الماء إلى البيوت والتحولات التي عاشتها مدينة سكاكا ودخول المكائن الزراعية بعد " السني " .
ويعرض د. الحميد لأساليب عيش الأطفال من جيله في ذلك الوقت واشتغالهم بالزراعة والصيد وأبرز الأهازيج واستخدام اسلحة الصيد وعادات وتقاليد الناس في الكرم وفتح الأبواب والقهاوي، وتعلق الناس بشرب الشاي والقهوة، وعن أحاديث كبار السن وتفاعلهم مع مختلف الأحداث حولهم .
وتتوالى فصول وصفحات الكتاب الذي تمت صياغته بإتقان وحبكة الراوي وتوثيقه الذي ساعده كثيرا على كتابة أحداث زمن الكتاب بكل شفافية ومصداقية، حيث لم يعتمد الكاتب على ذاكرته فقط بل كان يعتمد على مذكراته التي كان يدونها في طفولته ومراهقته وشبابه، وكان يوثق فصول الكتاب بالعديد من الصور للوثائق والشخصيات التي يتناولها .
إبراهيم موسى الحميد