بلادي بين العَزْل والغَزْل!

2014-02-23

ه//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/bfd081e2-7480-4376-9c0c-617719d34dc3.jpeg ل لي أنْ أصِلَكِ يا مدينةَ بيسانَ العتيقة، دونَ أنْ أتَخَطّى سِجْنَ شَطّة؟

يَنقَبِضُ قلبي ويَنكَمِشُ، كُلّما لاحَتْ لي أسْوارُهُ الشائكةُ مِن بَعيدٍ، وتُسارعُ سيّارتي هاربةً منهُ، ومِنْ كُلِّ السّجونِ الأمْنيّةِ، وأبراجُ المُراقَبةِ تُلاحِقُني، حيْثُ يتَمَسْمَرُ في كُلٍّ منها سَجّانٌ ورادار، وكأنّما أصواتُ وصَرخاتُ وتَأوُّهاتُ أسْرانا تتبادَرُ إلى مَسامِعي تَسْتَنْجِدُ، وما مِنْ مُجيب!

ما هُوَ السّجنُ؟ هل السّجنُ هو المكانُ الّذي يُحتجَزُ فيهِ الأسيرُ، فيَجْعَلُهُ مَسْلوبَ الإرادة والحَركةِ؟

يَقولُ الكاتبُ عبدُ الرّحمنُ مُنيف في روايتِهِ "في شرق المتوسط مرّةً أخرى":

"السّجنُ ليسَ فقط الجُدرانَ الأربعةَ، وليسَ الجلّادَ أو التّعذيبَ، إنّهُ بالدّرجةِ الأولى خوْفُ الإنسانِ ورُعبُهُ، حتّى قبلَ أنْ يَدْخُلَ السّجنَ، وهذا بالضّبطِ ما يُريدُهُ الجلّادونَ، وما يَجْعلُ الإنسانَ سَجينًا".

ياه.. كَمْ تَغُصّ مُجتمَعاتُنا مَسلوبةُ الإرادةِ بسُجونِ الحياةِ، المُكبّلةِ بالخَوْفِ والنّفيِ والقتلِ والخطفِ، وتَشليح الإنسانِ مِن إنسانيّتِهِ، بوحشيّةٍ لا تَليقُ حتّى بالوحوش؟

حتّى للحَيواناتِ وللأحياءِ مَحْمِيّاتٌ في الطبيعة، يُقدَّمُ لها الرّعاية والاهتمام والدواء والطعام، ويُخالَفُ كلُّ مَن يعتدي على حرمةِ هذه المحميّاتِ وتلك الأحياء، فمَن يعملُ على حماية الأسرى في السجون وفي المعتقلاتِ؟

هل السجن هو نوعٌ مِن أنواع العقوباتِ الجزائيّة وفقًا للقانون، يَسلبُ حرّيّة البَشرِ بمَوْجبِ حُكمٍ قضائيّ وإداريٍّ من سُلطةٍ مُخوّلةٍ باحْتِجازِهِمْ، كإجراءٍ وقائيٍّ تقومُ بهِ الجهاتُ الأمنيّة، حتّى الانتهاء مِن تحقيقاتِها وإجراءاتها بحبْسٍ احتياطيٍّ، تحفُّظيٍّ، أو اعتقالٍ وقائيٍّ؟

لكن؛ حين يُعتقلُ شخصٌ ما تعسّفًا وظُلمًا دون إثباتِ جريمتِه، بل بتقديرٍ مِن السُّلطة أنّهُ يُشكّلُ خطورةً أمنيّةً عليها، وتُساويهِ بمجرمٍ فِعليٍّ ارتكبَ جريمة، وتُنفّذُ فيهِ العقوبة بسنواتٍ طوال أو مُؤبّد، ألا يتحوّلُ السجنُ إلى لحدِ حياةٍ، تُدفنُ فيهِ الأجسادُ حيّة؟

مِن المفروض إعدادُ السجون بشكلٍ صالح لإيواءِ المساجين، وتَهيئة الظروف الصحّيّة لهم، بعيدًا عن التعذيب والتنكيل بهم!

لكن؛ هل السجونُ الأمنيّة التي تغصُّ بالأسرى تتمتّعُ بهذه المواصفات؟

هل مِن رقابةٍ حقيقيّةٍ صادقةٍ مِن جمعيّاتِ حقوق الإنسان؟

لماذا يُخرَجُ معظمُ الأسرى شبهَ أمواتٍ وبإعاقاتٍ جسديّةٍ ونفسيّةٍ بعدَ الأسر، وبعضُهم على نعوش المَرض؟

هل يهمُّ المناضل البطل كونه داخلَ السجن أو خارجِه؟

هل يهمّه مع مَن يتعايش في السجون ليتكيّفَ، ويعرف كيفَ يُتابع النضال؟

كم مِن سُجناءَ تسكنُهم الآمالُ، أبَوْا إلاّ أن يتعلّموا ويتثقفوا، ولا يُفوّتوا لحظاتِهم المريرة إلاّ بتجميلها بالمثابرة، وتحليتها بسُكّر طموحاتِهم ببناء الذات، على أمل التحرّر مِن أكبالِهم وتأبيداتهم!

كم موجعٌ أن أمرَّ بأعرق مُدنِكِ فلسطين، لأعاينَ لافتةً مهجورةً هزيلةً بُحَّ صوتُها تنادي:

ها أنذا أريحا أحبّائي، موصدةٌ أبوابي أمامَ حنينكم، بالركام والصخور سدّوا شوارعي وصدّوها، وتركوا فوّهةً واحدةً تتأجّجُ بحواجزَ أمنيّةٍ تشلّخُ أعصابَكم، وتُجرّدُكم مِن صفائِكم!

وتلكَ جنين تبعدُ ليس أكثر مِن نصف ساعة عن الناصرة، يَستغرقُ عبورُ حاجزها أكثر مِن ساعتيْن لحوافلَ إسرائيليّةٍ تحملُ مواطنيها العرب، ويُجرى عليهم الفحصُ الأمنيّ والتفتيش، تمامًا كما يَجري على مَن تعتبرهم أعداءَها في الضفة!

إذًا؛ ما هي الامتيازات التي حظيَ بها مواطنو "إسرائيل" العرب؟

عندَ حقوق المواطنة أتساءل: ما الفرق بين مواطن فلسطينيّ يتوجّهُ إلى الحاجز مباشرة للوصولِ الى مدينةٍ أخرى، وبين آخر يَفرضُ عليه الاحتلالُ الالتفافَ والدورانَ حول نفسِهِ ساعاتٍ للوصولِ إلى النقطةِ نفسِها؟

أليس بهذا الإجراءِ دمجٌ حقيقيٌّ للفلسطينيّين داخل فلسطين المحتلّة عام 48، في نفس سياسةِ العقاب والعنصريّة والتعجيز التي يتلقاها سكّان الضفّة الغربيّة؟

هل هو نوعٌ مِن سياسةِ العزل تُمارسُها "إسرائيل" ضدّ مواطنيها العرب عن إخوانِهم في الضفّة الغربيّة؟

لماذا يجبُ أن يقفَ المقدسيّ بالساعاتِ على حاجز قلنديا؛ المدخل الرئيسيّ لمدينة رام الله ومتنفّسِها إلى المدن الأخرى، ليدفعَ فاتورة تواصُلِهِ مع عُمقِهِ الفلسطينيّ؟

ألسنا بصددِ سجنٍ كبيرٍ وزنزانةٍ تضمّ في حشوتِها السجون الصغيرة المُحاطة بالجدران والحواجز والأسلاك الشائكة؟

ومع أحداثِ تحرير الأسرى المتوالية، تتراقصُ القلوبُ، تتراكضُ وتتلاحقُ خفقاتها تلهجُ بالدعاء، والعيون المترقبة تغصّ بحرارةِ اللقاءِ الدامع مع الأمّهات والزوجاتِ والعائلاتِ والأصدقاء، تتشابكُ الأيدي في عناق شائقٍ لا يُفلتُهُ ظلامُ السنين ولا ظُلمُ السجون، كأنّما تُحاولُ أن تُعوّضَ أجملَ لحظاتٍ مزّقتها الأيّامُ السوداء، ويُلوّحُ ببسمتِهِ الفرحُ صادحًا:

بين حاجزٍ وحاجزٍ يكمنُ فجرٌ فلسطينيٌّ جديد!

بين مدينةٍ ومدينةٍ ثمّةَ حصارٌ للروح، لا يَفكُّها إلاّ إيمانُ وعزيمةُ أهلِها.

بينَ الأمسِ واليوم والغد تترسّخُ حكايةُ وطنٍ مُتحِدٍ، لا تهزُّهُ الهزائمُ ولا الولائمُ، وطنٌ تنبضُ الآمالُ في جبالِهِ، وبينَ ضفّتيْهِ، وفي أرواح أبنائِهِ وشهدائِهِ وسجنائِهِ، هذا الوطنُ الختيارُ خالدُ الشباب، تتفتّحُ فيهِ فلسطينُ كأوراق الورد والبيلسان في بساتين أفراحِنا، وفي حقول عطاءاتِنا وتضحياتِنا، ويفوحُ أريجُها في صمودِ نوّار اللوزِ في أعماقِنا الإنسانيّةِ، وفي جذورِنا الوطنيّة!

لكن؛ مسلسلُ القضيّة لا زالت نهايتُهُ مفتوحة، وتبقى قضيّةُ الأسرى والمُبعَدين عن الوطن تختزلُ شعبًا قائمًا، دخلَتِ السّجونُ إلى غرفِ نومِهِ وأحلامِ أطفالِهِ، وانتزعَتْ أبناءَهُ إلى غياهبِ العتمةِ والمَصيرِ المَجهول، ويبقى الأملُ يُلامس عتابَ الأمّهاتِ والزوجاتِ والأخواتِ، الّلواتي مصّ صقيعُ الانتظارِ عِظامَهنّ على أبواب السّجن، حالِماتٍ برؤية فلذاتِ أكبادهنّ وأزواجهنّ، لبرهةٍ تُبدّدُها أحلامُ الكبار والأسيادِ على طاولةِ المفاوضات، ويبقى الأملُ بقيادةٍ، تَحتَكِمُ لِروحِ هؤلاءِ الّذين غيّبَهُمْ ظلامُ السّجنِ والاعتقالِ، عن حقوقِهِم الإنسانيّة، وعنْ حُقوقِهِمِ الوَطنيّةِ، برؤيةِ الشّمسِ والوطن!

فهل ستنظرُ القيادةُ إلى قضاياهُم مِن نافذةِ الأسرى، أم ستبقى تُصَوِّبُ أنظارَها إلى سرابِ الوُعودِ والأُمنيات؟

 

آمال عواد رضوان

كاتبة ، شاعرة وصحفية فلسطينية، محررة الوسط اليوم الثقافي 
 لها : *1- بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّج/ كتاب شعريّ/ آمال عواد رضوان/ عام 2005. *2- سلامي لك مطرًا/ كتاب شعريّ/ آمال عواد رضوان/عام 2007. *3- رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقود/ كتاب شعريّ/ آمال عوّاد رضوان/ عام 2010. *4- أُدَمْوِزُكِ وَتَتعَـشْتَرِين/ كتاب شعريّ/ آمال عوّاد رضوان/ عام 2015. *5- كتاب رؤى/ مقالاتٌ اجتماعية ثقافية من مشاهد الحياة/ آمال عوّاد رضوان/ عام 2012. *6- كتاب "حتفي يترامى على حدود نزفي"- قراءات شعرية في شعر آمال عواد رضوان 2013. *7- سنديانة نور أبونا سبيريدون عواد/ إعداد آمال عوّاد رضوان/ عام 2014 *8- أمثال ترويها قصص وحكايا/ إعداد آمال عوّاد رضوان/ عام 2015 وبالمشاركة كانت الكتب التالية: *9- الإشراقةُ المُجنّحةُ/ لحظة البيت الأوّل من القصيدة/ شهادات لـ 131 شاعر من العالم العربيّ/ تقديم د. شاربل داغر/ عام 2007 *10- نوارس مِن البحر البعيد القريب/ المشهد الشّعريّ الجديد في فلسطين المحتلة 1948/ عام 2008 *11- محمود درويش/ صورة الشّاعر بعيون فلسطينية خضراء عام 2008 صدرَ عن شعرها الكتب التالية: *1- من أعماق القول- قراءة نقدية في شعر آمال عوّاد رضوان- الناقد: عبد المجيد عامر اطميزة/ منشورات مواقف- عام 2013. *2- كتاب باللغة الفارسية: بَعِيدًا عَنِ الْقَارِبِ/ به دور از قايق/ آمال عوّاد رضوان/ إعداد وترجمة جَمَال النصاري/ عام 2014 *3- كتاب استنطاق النص الشعري (آمال عوّاد رضوان أنموذجًا)- المؤلف:علوان السلمان المطبعة: الجزيرة- 2015 إضافة إلى تراجم كثيرة لقصائدها باللغة الإنجليزية والطليانية والرومانيّة والفرنسية والفارسية والكرديّة. * 
الجوائز:
*عام 2008 حازت على لقب شاعر العام 2008 في منتديات تجمع شعراء بلا حدود. *عام 2011 حازت على جائزة الإبداع في الشعر، من دار نعمان للثقافة، في قطاف موسمها التاسع. *عام 2011 حازت على درع ديوان العرب، حيث قدمت الكثير من المقالات والنصوص الأدبية الراقية. *وعام 2013 منحت مؤسسة المثقف العربي في سيدني الشاعرة آمال عواد رضوان جائزة المرأة لمناسبة يوم المرأة العالمي 2013 لابداعاتها في الصحافة والحوارات الصحفية عن دولة فلسطين. وبصدد طباعة كتب جاهزة: *كتاب (بسمة لوزيّة تتوهّج) مُترجَم للغة الفرنسيّة/ ترجمة فرح سوامس الجزائر *كتاب خاص بالحوارات/ وستة كتب خاصة بالتقارير الثقافية حول المشهد الثقافي في الداخل *ستة كتب (تقارير ثقافيّة) حول المشهد الثقافي الأخضر 48: من عام 2006 حتى عام 2015

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved