تصدر الديوان رؤية نقدية للناقد الدكتور حسام عقل... مما جاء فيها:
( رغم أن لامية "ياسر أنور" المعنونة بـ"برديةِ إفريقية"؛ تعد شكلاً من أشكال الشعر الملحمي ذي النفس الممتد، بيد أن نجاح (الذات الشاعرة) في هذه القصيدة تدفع دوائر الحركة دائماً، إلى التمددِ والاتساع إلى حد الالتحامِ بنبض الحركة الوطنيةِ المنتفضةِ في القارة السمراءِ في وجه الاكتساح الإمبريالي الجديدِ المدعوم بآلة السلاح، ونفير التنظيرات المراوغة المتصلة بالعـولمة، فضلاً عن نجاحاتٍ أخرى تتصل بطزاجة المعجم الشعري وحرفية اليد الشعرية، كل ذلك منح القصيدة سيماء مميزة، وملامح فنية تنطق بالتمايز والخصوصية. ويبدُو، للوهلةِ الأولى، أنَّ التحدى المطروحَ أمامَ الشاعرِ، كانَ تفجيرُ (النبض الحداثي)، بكلِ بُؤرُه وتجلِّياته في القالب العمودي.
راهنتْ القصيدةُ في حركتها المتوترةِ المراوحةِ بين الأقطاب على التركيز الدقيق وعلى المشاهد اليومية المألوفة، بدماثتِها وحكمتِها المبطنةِ. ومن ثمَّ لم تنظرْ إلى حركية التفاصيلِ اليوميةِ الصغيرةِ؛ بقدر من العجرفة أو التعالي. بل استلهمتها كمادة خام أولية. كما اغترفت بسخاءٍ من نبع الخيَال الشعِبي الساخرِ، بأساطيره وصوره الشائعةِ المثيرة، وأخيلته المتواثبة الساخنة.
التحمَتْ القصيدة بتفاصيلِ الحياةِ اليوميةِ المحتقنةِ المتغلغلةِ في الألفيةِ الميلاديةِ الثالثةِ، كالإشارة إلى الجلوسِ الطويلِ أمامَ (الحاسوبِ)؛ طلباً لمسلاة المحاورة (التشات)، ومتابعة الفضائيات السارية في الخطاب الإعلامي بكثافة؛ (خصوصاً قناة الجزيرة التي أشارَت إليها القصيدة نصاً بالتصريح) ؛ فضلاً عن الإشارة إلى أفلام المقاولات المسطحة التافهة التي حشَتْ الأدمغة بنمطٍ فجٍ من التكوين الفكري الهشِّ. وبالجملة فإن القصيدةَ ترصدُ قطاعاً مستعرضاً من الحياةِ اليوميةِ لمواطنِ عربي من أقرب نقطةِ في الفضاء.
وتلقي القصيدةُ بثقلها في رقعةِ القهرِ الواسعِ الممتدِ النافذِ، الذي يعانيه (الإنسانُ الإفريقي) بعد أنْ نجحَت القوى الكبرى في تدجين كوادره الفاعلةِ الحاكمةِ، وترويضُ بعضُ النخبِ الثقافيةِ بعد تمامِ سلخِها عن ولاءات التراثِِ الكبيرةِ.
وكان لافتًا للنظر أن ياسر أنور لم يذيِّل قصيدته، شأن كثير من التجارب الشعرية الأخيرة، بالتذييل السوداوي المعهودِ، الذي يضبّب كل شيء، ويحبط كل مسعى، ولا يشيم في الأفق المعتكرِ بارقةَ أملٍ واحدةٍ، وإنما أنعش الذواكر بقدرة الذاتِ العربيةِ الإفريقيةِ، على الصمودِ، ومواصلة المسير، مهما تكن عثراتُ الطريق، وكائنة ما كانَتْ ضراوةُ الخصوم.
لقد بدا "ياسر أنور" في قصيدته سابحًا ضد التيار مرتين ؛ مرة بمعجمه ورؤيته المزدوجين اللذين يغترفان من (الخاص) و (العام)، ومرة من نبضِ الحياة اليومية بتفاصيلها الدافئةِ الدَمِثَة، ونبضِ القضيةِ العامة، بطابعِها الرحب الشامل، نكاد نقول بطابعِها الحضاري المستوعب.
وبدا سابحًا، في الوجهة المعاكسة، مرة أخرى بهذه القصيدةِ الممتدةِ، ذات النفسِ الملحمي، في وقت تتجه فيه شريحة كبيرةِ من الإبداعِ الشعرِي نحو التعبيرِ (الإبيجرامي) المكتنِز المركز، الذي يقطر الرؤية تقطيرًا.
ولقد كانَ نجاحُ القصيدةِ مشهودًا، وهي تصعد اليومي المألوف اللحظي إلى الحضاري الكوني الرحب ممثلاً في دسائسِ القوى الكبرى، وعطنِ الحياةِ الحزبيةِ ، وفسادِ رؤؤسِ الأموالِ المحتكرةِ، على نحو حمل طابع الشهودِ الحضارِي، بمعنى جعل التجربة الشعرية شاهدة على لحظة حضاريةِ كبيرةِ).
أبيات من قصيدة بردية إفريقية للشاعر ياسر أنور |
....................................... |
قارةَ النزفِ كيفَ حالُـك ؟ إنِّـي قدْ "تعودْتُ" الآن لطـمَ الثواكـل |
"فقنـاةُ الجزيـرةِ" اللطـمُ فيهـا كـلّ يـومٍ بـدون أي مقـابـل |
منـذُ فقـهٍ "وشـارعُ المتنبـي" في العراقِ استحالَ فقـهَ نـوازل |
ولحسـنِ الحـظِ الموفـقِ جـدًا لمْ يكنْ "لمبي" واقفًا فهو حامـل |
"والدغيدي" في المهرجانِ بفتوَى هـذه فرصـةٌ، تعالـي نحَـاول |
"يتمشّى" الموتُ "الذكي" كشحًـا ذٍ عـجـوزٍ عـكـازُهُ يتثـاقـل |
ينحَنـي ظهـره، ينـادِي إذن "لـ ـلَّه يـا محسنيـن ،إنِّـي عائـل" |
في المقاهِي، مطاعمِ الفولِ، أسوا قِ الخضارِ، النادِي، وبينَ المزابل |
قاعةِ الدرسِ، دميةِ الطفلِ أيضًـا وإلخْ، يختفِـي بخيـطِ المرايـل |
مفرداتُ الحيـاةِ صـارَتْ مماتـاً أيُّها الموتُ أينَ تُخفي الحبائـل؟ |
أعراقيٌّ أنـت؟ كـنْ أيَّ شـيءٍ أيَّ جنسيـةٍ، لـديـك بـدائـل! |
....................................... |
قارةَ النزف كيـفَ حالُـك؟ إنِّـي سأعيـدُ البكـاءَ بعـد الفاصـل |
زاولـي مهنـةَ الرقيـقِ رويـدًا إنني يومًـا كنـتُ أيضًـا أزاول |
كيفَ حالُ الزنوجِ أهلِي وناسِـي؟ كيف حالُ السوادِ بيـن القبائـل؟ |
أرضعـي هـؤلاء لونـك حتَّـى يصبحَ اللونُ سيدًا فـي المحافـل |
منذ لونَينِ كـانَ لونُـك يمشِـي جائعًـا فـي ولايـةٍ لا تجامـل |
يرتدي معطفَ الغريـبِ، يُغنـي صامتًا.. شرطةُ البياضِ تواصـل |
حملاتِ التفتيـشِ ضـد الزنـوجِ الحمر، ضد العلـوجِ لا تتكاسـل |
الهـرَاواتُ الكهربائيـةُ، الغـازُ المسيلُ الدموع، كـلُّ الوسائـل |
هـذه وجبـة الحداثـةِ مستـور دة، والظـروف قـد تتمـاثـل |
....................................... |
قارةَ النزفِ كيـفَ حالُـك؟ إنِّـي في طوابيرِ الخبزِ كنـتُ أناضـل |
فلواءُ الجهادِ فـي الفـرنِ يعلـو نحن قومٌ في أي فـرنٍ بواسـل |
حائطي متخـمٌ بخبـزِ القضايـا حائطي من طعامِ الموائـدِ مائـل |
والمساميرُ في الرغيـفِ تـؤدي دورها في تثبيتِ بعض المفاصل |
نحنُ نجتازُ بـرزخَ العلـمِ فعـلاً نسبـقُ الآن عصرنـا بمراحـل |
وخرجنا والقمـح لله مـن كـلِّ البطاقـاتِ يـا دقيـقَ المناخـل |
نحنُ والصيـن توءمـان نـؤدي كـلَّ يـومٍ نموذجًـا للتكـامـل |
نحنُ والصيـنُ هكـذا نتخطـى حاجزَ الخوفِ لابسيـنَ صنـادل |
نحنُ والصين سادتـي سيداتـي سيزفُ البُشرى القريبُ العاجـل |
الفوانيسُ لو مِنَ الصيـنِ تأتـي عربـيٌ لسانهـا يــا جـاهـل |
مصنعُ القانـونِ الجديـدِ يلبـي خدمات التوصيلِ حتـى المنـازل |
باركي لـي، تطـورت طائراتـي ننقـلُ النفـطَ بالحمـامِ الزاجـل |
القرى في الصعيـدِ قـد تتولـى وحدها عبءَ غزلنا في المشاغل |
القرى في الصعيـدِ قـد تتولـى وحدها عبءَ طبخنا في المراجـل |
ولدينـا مـا تشتهيـه بــلادي نحن في حقبةِ الوزيـرِ المقـاول |
ياسر أنور |
|