حين نشرت سلسلة "الساكورا والهايكو.." كتب الشاعر مقداد مسعود معلقاً:" إذن مزيداً من أممية الأزاليا...سلمت لعصر سيأتي"؛ والأزاليا تعقب طقوسها في اليابان طقوس الساكورا في الربيع، وهي على جمالها وسُميتها لها قداسة مبعثها فلسفة المعتقدات التي تقر بوحدة الوجود وأزليته بما فيه من أضداد، الجمال والرهبة والجمال والجلال والجمال القاتل..
قبل نحو عشر سنوات كنت في منتجع بلايا دو كارمن المطل على خليج المكسيك حيث زرقة البحر وصفاء الرمل البلوري، قادتني قدماي إلى الحي الراقي معظم -مالكيه من الأمركيين- سحرتني تلكم الأشجار المُزهرة التي توزعت في الحدائق الغناء، كانت وارفة الأوراق ساحرة الاخضرار طويلة الأنصال مشبكة بخطوط خفيفة منتظمة كأن رساماً خطها بعناية فائقة، وكانت أزهارها هي الأخرى متفردة الجمال حيث تنتظم بمعدل ثمان في فرع وكل زهرة قوامها خمس وريقات تاجية تشكل كأساً مخروطية بلون أبيض شمعي ثم يتبأر لون أصفر يبدأ خفيفا ثم يزاد غمقاّ في مركِز الزهرة، وحين شممت واحدة كانت ذات رائحة عبقة تذكر بعطر!;كرستيان ديور
وقد يستغرب القارىء أن زهرة البلوميريا الساحرة التي تحظى بمكانة التقديس عند كثير من الشعوب تشترك في فصيلة علمية واحدة مع الدُّفلى الواسعة الانتشار في العالم والمعروفة بسُّميتها الشديدة وغدت مثلاً في الجمال القاتل أسوة مع أنواع من الفطر في مملكة النبات وفي الحيوان النًمِر والكوبرا.. فالبلوميريا ليست سامة إنما نسغها الحليبي الصاب* مهيج للجلد والعين عند لمسه. يضوع عطر هذه الزهرة ليلاً أكثر منه نهاراً!
أطلق على هذه الزهرة اسمها تشريفا للعالم النباتي الفرنسي شارل بلومييه** في القرن السابع عشر حين زار العالم الجديد موثقاً الكثير من النبات والحيوان ما وسّع دائرة البحث العلمي في المملكتين النباتية والحيوانية.
يعتقد أن اصل هذه النبتة يرجع الى أمريكا الوسطى ثم انتشرت في شرق آسيا كالهند واندونيسيا وماليزيا وتايلاندا صعوداً حتى الصين؛ ولزهورها أضافة الى الابيض ألوان أخرى كالوردي والارجواني، وفي جميع الألوان فإن شكلها واحد ورائحتها واحدة، يطلق عليها في الهند إسم جانباك***وتدخل في صناعة البخور بعد خلطها بعطر الصندل، وتدخل في صناعة أغلى وأرقى العطور العالمية..
عندما شمها الشاعر الرومانسي الإنكليزي شيلي قال:" إن رائحة الجانباك تتبدد كما تتبدد صورُ الأحلام الحلوة!". ولا أدري ماذا سيقول الشاعر العبقري ابن الرومي (221-283ه ) لو رآها وشمها، أذكره لموهبته الخارقة في التصوير ولا سيّما التصوير الكاركتيري؛ وخاصة في إحدى سوْرات غضبه عندما هجا الورد ومدّاحه مناكفاً ابن المعتز( 247-296ه ) حيث قال ( الوافر ):
أتاك الورد محبوباً مصونا - كمعشوق تكنّفه الصدودُ
كأن بوجهه لما توافت - نجومٌ في مطالعها سُعودُ
بياض في جوانبه احمرارٌ - كما احمرت من الخجل الخدود
وأبيات ابن الرومي المُناكِفة أخجل من ذكرها وإنما اذكرها لاجتماع قبح أدوات التشبيه وجمال أسلوب التشبيه البلاغي وحسن التصوير الكاركتيري الذي لا يُجارى به ابن الرومي:
يا مادح الورد لا تنفك عن غلط - ألست تنظره في كف ملتقِطِهْ
كأنه سُ.مُ بغل حين يُخرجه - عند البراز وباقي الروث في وسَطِه
فرد ابن المعتز وأحسن الرد من البحر نفسه ( البسيط ) ومن القافية نفسها ( الطاء مشفوعة بالهاء الساكنة ):
يا هاجي الورد لا حُييت من رجُلٍ - غلطتَ والمرء قد يؤتى على غلَطهْ
هل تنبتُ الأرضُ شيئاً من ازاهرها - إذا تحلت يحاكي الوشي في نَمَطهْ
حتى إذا سكنت سوْرة ابن الرومي وصفا مزاجه راح ينتصر للورد على النرجس ( السريع ) :
أفضّلُ الورد على النرجس - لا أجعل الأنجم كالأشمُسِ
ليس الذي يقعُد في مجلس - مثل الذي يمثُلُ في المجلسِ
وعودة الى البلوميريا فنقول أنها في شرق آسيا تمثل الخير عند جميع الشعوب لما تتسم به من جمال وسحر وسكينة حيث تتزين فيها شابات جزيرة بالي الإندونيسية في طقوس ومهرجانات خاصة كما ان شجرتها تتحمل البرد قليلاً حيث شاهدتها في فيانتيان عاصمة لاوس وقد نفضت أوراقها لكنها كانت مُزهرة! وفي تايلندا تراها على أرضية المحلات التجارية وعلى أعتابها حيث تُشكّل على البلاط، اعتقادا ببركتها. وترى أن معمار المركز الثقافي الإسلامي استوحى الأعمدة من شكل هذه الزهرة الجميلة!
***
الرفلسيا اسم نبتة متطفلة من فصيلة المسكيات الجزء الظاهر منها هو الزهرة العملاقة ذات اللون الأحمر شكلها غريب وجميل يتألف من خمس بتلات تمثل الأوراق التويجية للزهرة اكتشفت في اندونيسيا عام 1818 من قبل أحد أعضاء بعثة توماس ستامفورد رافلس**** ولهذا سميت باسمه، توجد في الغابات المطيرة في كل من ماليزيا وخاصة ولاية صباح وفي تايلندا في مقاطعة سُرات ثاني في جنوب تايلندا وكذلك في الفلبين.
قبل ثلاث عشرة سنة زرت إندونيسيا قادماً من جزيرة بينان الماليزية قاطعاً البحر نحو مدينة ميدان في سومطرة مصطحباً كتاباً سياحياً عن إندونيسيا من سلسلة لونلي بلانت الشهيرة وبواسطة هذا الدليل وصلت الى المدينة الاستوائية بوكي تنكي حيث في شمالها الغابات المطيرة وصلت الى قرية تبعد نحو 16 كم ونزلت أسأل حيث يصعب التفاهم مع الناس الطيبين المسلمين، مردداً قول المتنبي ( الوافر) :
ولكن الفتى العربي فيها - غريبُ الوجه واليد واللسان
كنت أمشي في القرية بين أكوام القرفة (الدارسين) وأكوام الفُلفُل الأحمر الحار التي عرضت لتجفف، قادني شاب لقاء مبلغ بخس دراهم معدودة وبين الطرق الزراعية وسواقيها التي يتقافز منها السمك ومزارع الفلفل والخضروات وصلنا بعد مسيرة مضنية وكم خاب أملي حين وجدت زهرة عفنة عملاقة مسودة يبلغ قطرها أكثر من متر تنبعث منها رائحة جثة متعفنة، كان الجو قد تغير فجأة وأمطرت وابلاً حتى خلت أن السماء ستطبق على الأرض وكم فوجئت من زميلي وهو يخرج مشمعين يحميان من المطر!
من غرائب هذه النبتة أن ليس لها جذع ولا أوراق ولا حتى جذور حقيقية بل تبدو في جزئها الظاهر زهرة في أسفلها عضو امتصاص النسغ من عائلها الذي تتطفل عليه لها موسم ازدهار ورائحتها النتنة هذه محببة لنوع من الذباب الذي يقوم بنقل حبوب اللقاح من الذكور الى الإناث فهي أحادية الجنس إلا ما ندر فهو خنثي ( مزدوج الجنس ) .
ورغم ولعي بالزهور فإن الرفليسيا هي أغرب زهرة رأيتها في حياتي؛ في مدينة أودي بور الهندية الساحرة زرت حقلا للزهور يشرف عليه معهد لتخليق الزهور بالهندسة الوراثية؛ شاهدت في هذا الحقل ما يدهش حقاً من زهور بما فيها السوداء والخضراء، بل تُخلق زهور وتسمى بأسماء كبار الزائرين وكان في وقتها أحدث زهرة تحمل اسم مادلين أولبرايت! ويبقى عالم الزهور عالم الجمال والغرابة، ولله در أبي نواس(145-199ه) حيث يقول(البسيط):
ياعاذلي بملامٍ مرّ بالياس - فلستُ أقلعُ عن ريحانة الكاسِ
تباعد العذل عن قلبي على ثقةٍ - كما تباعد بين الورد والآسِ
*sap
**Charles Plumier
***Chanpak
****Thomas Stamford Raffles