غصّ المكانُ بالجمهور من الجنسين، وشُغلت المقاعد عن آخرها فالواقفون أكثر من الجالسين ، والمكان هو قاعة ساطع الحصري في كلية التربية "الملغاة" بقرار حكومي سام ولا سبب لذلك الا تبديل ثوبها السياسي الأحمر وجعلها كلية مقصورة على أعضاء الحزب الحاكم ثم الزحف على بقية الكليات ، والزمان هو ربيع 1971، والمناسبة هي المهرجان السنوي للشعر ، فالجمهور والمتنافسون هم من التربية والآداب بعد أن أصبحتا كلية موحدة وإن كانت حصة الأسد للتربية الملغاة! والأساتذه الحاضرون هامات من عيار ثقيل : العميد د.محمود غناوي الزهيري، ورئيس قسم اللغة العربية د. ابراهيم السامرائي ، د.عناد غزوان ،د.علي عباس علوان ، د.عاتكة الخزرجي ، د.هادي الحمداني ود.بهيجة الحسني غاب د.داوود سلوم... ومعظم المتنافسين قد مارس الشعر وألقاه أمام الجمهور وإن بدرجات متفاوتة. ومثّل الدولة نائب رئيس الجمهورية الشاعر صالح مهدي عماش (ساق سقانيها لطافا)الذي وقف موقفا مشرفا يُسجل له في القصيدة" المشاغبة" التي هزت الجمهور واستعادها مرات ومرات وكانت الأكف تلتهب تصفيقا، بينما كان عميد الكلية الزهيري ترتعد فرائصه خوفا أكثر منه غضبا، أقصد بها قصيدة الشاعر عبد الإله الياسري"قافلة الأحزان" وبالذات بيتها الشهير (من الطويل) :
تعال وخذ ياجوع قمحك من دمي*** ودعني أمت وحدي على رمح آلامي
أشارة واضحة الى حادثة موت عشرات المزارعين اثر تناولهم القمح المعفر بالسموم والمعد للإنبات. وما أن أنهى قصيدته قوبل بعاصفة قوية من التصفيق حيا بها الجمهورُ الشاعرَ، وقف العميد الزهيري قائلا :الشاعر واهم ومغرر به، فعقب عماش على الفور :"القصيدة ما بيها شيء"،أي لا ضير في قصيدة الشاعر.
بعد أن ألقى لفيف من المشاركين قصائدهم ، تقدم شاب ليلقي قصيدته واعتلى المنصة ، كان رشيقا أسمر شاحبا بملامح جنوبية لا تخطئها العين مرتبكا ، صوت نسائي حازم النبرة ، لاتخطئه الأذن ، هو صوت الشاعرة الأنيقة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي (أحبك لا كما يعشق العاشقون) : أنت شاعر والشاعر لايخجل ! ( الرواية غير مؤكَدة)- قدّم طالب السنة الثالثة حسن المرواني قصيدته "أنا وليلى واشطبوا أسماءكم" بمقدمة قصيرة، والتقديم في الشعر نادرا ما يلجأ اليه الشعراء ، وليس له وجود في الشعر القديم إنما لدى بعض المحدثين ،( سمعته من فاضل العزاوي في مهرجان شعري في بغداد في نهابة الستينات ،ومن زهير غازي زاهد في مجلة البراعم التي تصدرها إعدادية النجف سنة 64-65، وخالد الشطري عمد الى تقديم بعض قصائده أيضا) أنقل نصها لأهميتها :"يا ليلى كثيرا ما يسألونني مادامت قد رفضتكَ ، لماذا لا تبحث عن واحدة أخرى؟ أتدرين ماذا كنت أقول لهم؟! لابأس أن أشنق مرتين ، لابأس ان أموت مرتين ، لكنني وبكل ما يجيده الأطفال من إصرار أرفض أن أحب مرتين" بهذه المقدمة الجميلة شد المرواني الجمهور وكشف عن قصيدة محض ذاتية! قصيدة تروي قصة غرام فاشل ولا شك أن معظم شباب ذلك الزمان قد عانى من همّين السياسة والحب الخاسر وأحلاهما مر! بدأ بالقاء قصيدة قوامها خمسة وعشرون بيتا تزيد أو تنقص قليلا (ولا بد من الإشارة الى أن القصيدة الموجودة على المواقع الإلكترونية طويلة ومليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية والعروضية ،ولا أدري لماذا لم يعالجها الأستاذ المرواني أو ينبه عليها وهو المكلف بتقويم قصائد المتسابقين ؟) كشف عن حُسن مطلع (البسيط):
ماتت بمحراب عينيك ابتهالاتي *** واستسلمت لرياح اليأس راياتي
ديني الغرام ودار العشق مملكتي*** قيس أنا وكتاب العشق توراتي
ويرى القاريء أن المطلع محكم البناء جميل الديباجة ذو موسيقى جميلة وايقاعات العروض والضرب واضحة تماما ،ويشكل أنات ممدودة بفعل حرفي المد الألف والياء تنسجم تمام الأنسجام مع صرخة الموت والياس ولا شك أن المعنى يتسق أكثر لو سبق اليأسُ الموت، والبيت الذي يلي المطلع متم للمعنى بوجود المفردات الدينية :محراب ، ابتهال ،دين، توراة، مما أضفى على الإستهلال وحدة موضوع متلاحمة ذات مسحة من الخشوع ، والبيت الثاني أذكره لكنني أتحفظ على كونه ضمن القصيدة لسبب هو أن التوراة كانت ممنوعة في العراق فكيف تذكر ضمن قصيدة في جو رسمي؟ إنما أذكره لوجوده في كثير من المواقع!
هناك ملاحظة مهمة في تائية المرواني، وهي وجود القصيدة في أكثر من موقع بمطلع آخر: "دع عنك لومي واعزف عن ملاماتي*** إني هويت سريعا من معاناتي" وهذا البيت لايرقى الى مطلع القصيدة الأول، ويحتمل أن يكون في موضع آخر من القصيدة من باب التصريع، أي توافق القافية في العروض والضرب في غير المطلع لتعزيز الإيقاع ولإثبات الشاعر تمكنه من القافية. وتتوالى الأبيات مفصحة أكثر عن طبيعة المعاناة:
جفت على بابك الموصود أزمنتي*** ليلى وما أثمرت شيئا نداءاتي
عامـان ما رف لي لحن على وتر *** ولا استفاقت على نور سماواتي
أعتق الحب في قلبي وأعصـرُه *** فأرشف الهم في مغبر كاساتي
ممــزق أنا لاجـاه ولا تـرف *** يغريك في فخليني لآهاتي
لو تعصرين سنين العمر أكملها *** لسال منها نزيف من جراحاتي
فالمعاناة ليست جديدة بل معتقة لعامين ، ومع ذلك تجد الشاعر يعاني من لوعة وكأنها حدثت للتو، والأبيات تشي بل تخبر بأن الأمور كانت قبل العامين على وفاق ثم انتكست العلاقة! يبدو أن عصير الحب وقع موقعا طيبا في خاطر الشاعر وتحول الى عصير السنين كناية عن الدم ، بذكر"نزيف من جراحاتي" وهذا نوع من البلاغة يطلق عليه الغلو، وقد عمد الى صيغة جمع الجمع "جراحات" من باب المبالغة اللفظية إضافة الى كونها تخدم القافية ، ولا نقاش على رشاقة البيت. لفت نظري فعل "رف" الذي يعني هنا الحركة الهادئة ، لا أجده يخدم الصورة الشعرية بوجود "لحن" فلولا هذه الأخيرة لفسرناه رفيف وتر القلب ولتكونت صورة نفسية - معنوية جميلة ،لذا لا يسعني إلا الإتفاق مع ملاحظة وليد نجل الشاعر البارز خالد الشطري بهذا الخصوص. وأرى أن في البيت الرابع في النضد أعلاه، هبوطا واضحا ، على خلاف البيت الثالث ففيه صورة متحركة لكلمات مجردة وقد عمد على تركيب الصورة باقتدار بين المادي معبر عنه بالأفعال:أعتق وأعصر وأرشف وبين المعنوي بالأسماء:الحب والقلب والهم، وعبر عن الزمن( القِدم) في : "في مغبر كاساتي". هناك من عاب على الشاعر استخدام "خليني" و" مولاتي" التي وردت كقافية في موضع آخر باعتبارهما من العامية ،وليس اللائم محقا أبدأ ، فقد استخدم الأولى كبار الشعراء، كالجواهري في (خل الدم الغالي يسيل) وقبله هاشم الكعبي في (خلي أميمة عن ملامك * ما المعزي كالثكول)، ومولاي هي كلمة متضادة المعنى تعني السيد أوالمسود ،استخدمها شوقي في معارضته للحصري -مضناك جفاه مرقده-( مولاي وروحي في يده* قد ضيعها سلمت يده).
عانيتُ عانيتُ لا حزني أبوح به *** ولستِ تدرين شيئا من معاناتي
أمشي واضحك ياليلى مكابرة *** علّي أخبي عن الناس احتضاراتي
لا الناس تعرف ما أمري فتعذرني *** ولا سبيل لديهم في مواساتي
ثم البيت: خانتك عيناك في زيف وفي كذب *** أم غرّك البهرج الخدّاع مولاتي
لا زالت العاطفة متجددة والنفس متوترة لأن الشاعر لا يبوح في معاناته ، ولشدة المعاناة كررها :عانيت عانيت ، لكنه يضحك مكابرة، وهذا المعنى موجود نفسه لدى عبد الإله الياسري في تائيته : ألملم البسمة الخجلى مكابرة .....(راجع القسم الأول، ستجد عددا من المفردات والمعاني المشتركة) . ومن يتمعن القوافي عند الشاعرحسن المرواني سيجدالأغلبية المطلقة منها على صيغة جمع المؤنث السالم المذيّلة بياء التملك مضافا ومضافا اليه، حيث ستوفر عليه الحالات الإعرابية الثلاث مما يخفف من قيود النحو، وهنا نجد لأول مرة خلاف ذلك في "معاناة" و رديفتها "مواساة" لكن هل وفق الشاعر في صيغ الجموع هذه في تطبيقها على المصادر؟؟ فليس من المألوف أن تُجمَع المصادر في العربية، لنحتكم الى اللغوي الكبير الدكتور ابراهيم السامرائي : اننا نقول أن نجاحات جمع لنجاح ونشاطات جمع لنشاط وهذه شائعة في الفرنسية والإنكليزية وقد أجاد الأقدمون جمع المصدر إذا أفاد النوعية المختلفة وإذا انتقل من الحدث الى الإسمية كما نجده في مقررات المجمع اللغوي في القاهرة(فقه اللغة المقارن ص294 ) إذن: ليس من روح العربية جمع افتتان ، احتضار ، افتراض... أما جمع شراع بشراعاتي فلا وجود له في العربية، إنما يصح جمعها تكسيرا أشرعة و شُرُع (بضم الشين والراء). ولا يختلف الأمر كثيرا في "جَناح" فجمعها تكسيرا أجنِحة أو أجنُح ولا تُجمَعان جمع مؤنث سالم إطلاقا راجع لسان العرب (شرع ،جنح).
واغربتاه مضاع هاجرت مدني *** عني وما أبحرت فيها شراعاتي
فراشة جئت ألقي كحل أجنحتي *** لديك فاحترقت ظلما جناحاتي
وترى البيتين جميلين صورة وصوتا ،اسلوب الندب "واغربتاه" مع "هاجرت مدني" مع "ابحرت" أعطى انسجاما صوريا حزينا، والبيت الثاني ذو موسَقة هامسة الدرجة عالية النغمة ، أزيد على ذلك استخدام الشاعر بانسياب لطيف ل"التصدير" أو ما يُسمى في البلاغة "رد العجز على الصدر" في"أجنحتي" و"جناحاتي" وخاصة في موقعي العَروض والضرب ولا يمارس هذا الأسلوب إلا الشاعر المتمرس لا المبتدئ.
لست أدري ولا المنجم يدري أين نُفي الشاعر ذو الواحد والعشرين ربيعا وقت ذاك ، فالجانب الإخباري في البيت قوي ولا ينطبق عليه المعنى التصويري:
نفيت واستوطن الأغراب في بلدي*** ومزقوا كل أشيائي الحبيبات
كما لاينطوي هذا البيت على معنى انسانيّ ،أتصوره قد قيل عن تجربة شخصية وفي مدينة صغيرة يُميَز فيها الأغراب بسهولة ، عدم "انسانيته" تكمن في أننا قد هاجرنا وتوزعنا في القارات هل ينبغي أن نعامَل معاملة الأغراب؟؟
"لوكنتُ من مازن" ما كنت رافضة *** حبي ولكن عسر الحال مأساتي
شُوه هذا البيت الجميل الذي سكت عنه الشاعرالى:
لو كنت ذا ترف ما كنت رافضة *** حبي ولكن عسر الحال مأساتي
في البيت الأول "لوكنت من مازن" يدعى في البلاغة بالتضمين الشعري الجزئي من قصيدة الشاعر قريظ بن أنيف وقصته معروفة، والتضمين وارد في الشعر والنثر ورديفه الإقتباس الذي هو معنوي أكثر منه نصي،ولا يحط التضمين من منزلة الشاعر أبدا ، فهو تزويق يعمد اليه الشاعر يزين به قصيدته مثلما يزيد الخالُ الوجهَ الصبوح جمالا ، فعلى سبيل المثال ، اقتبس الحبوبي من مهيار الديلمي البيت(الرمل):
واذكروني مثل ذكراي لكم *** رب ذكرى قرّبت من نزحا
من القصيدة : يانسيم الريح من كاظمة *** شد ما هيجت عندي البرحا
في المقطع الحائي من "ياغزال الكرخ". (راجع ديوان الحبوبي ،تحقيق وتقديم عبد العزيز الجواهري، و ديوان مهيار الديلمي).
ومن العجب أن ترى أجمل بيتين وردا في القصيدة وهما ليس منها أصلا ولم ينبه عليهما الشاعر المرواني ، ويبدو أن الفنان المطرب كاظم الساهر أضافهما ولا ضير أن أتوقف عندهما تعميما للفائدة ، فقد طال أولهما التشويه ، والإنكسار العروضي في عجزه فأثر على الثاني وذهب بجمال البيتين معا، لماذا؟ لأن من يقول الأولَ فاسدا لا يمكن أن يقوَل الثاني رائعا جدا!! لنرَ:
لاموا افتتاني بزرقاء العيون ولو *** رأوا جمال عينيك ما لاموا افتتاناتي
حيث أصبحت( كِمالامُف = فاعلاتن بدل مستفعلن) وهو خروج واضح على الوزن.والصحيح أصلا:
لو أنصفوني بزرقاء العيون هوى *** لو أنصفوني لما لاموا افتتاناتي
لو لم يكن أزرق الألوان أجملها *** ما أختاره الله لونا للسموات
تجد روعة البيت الثاني في الأسلوب البلاغي المسمى بحسن التعليل ، وهو الربط العلي الصوري بين العلة والمعلول !يبدو أحدهما واقعيا والآخر لا يشترط به الواقعية، وحسن التعليل لا يأتي به الا الشاعر الذي مارس الصنعة وحذقها فهو صعب جدا على الشباب الا الموهوب منهم مثل المتنبي والجواهري ، هاكم للجواهري في شبابه :
ومستكبر شيبا قبيل أوانه *** أقول له هذا "غبار الوقائع"
(راجع ديوان الجواهري الكامل)
وهناك بيت جاء في معظم المواقع التي نقلت القصيدة " الخام" بحوالي ستين بيتا ، بشكل فاضح جدا يدل على المانح للقصيدة والمستلم استعصى عليهما فك لغزه فجاء البيت:
هل يمّحي طيفك السحري من خَلَدي؟ *** وهل ستشرق عن صبح وجناتي!!!!
والصحيح دجُنّات جمع دجنّة وهي الظلمة (راجع لسان العرب دجن) ، لا الخدود كما ، أضاف أحدهم للوجنات شارحا المعنى
وأخيرا أذكر لكم البيتين الأخيرين لما فيهما من إخبار كثير ، فالشاعر العاشق الولهان لماذا يختم قصيدته بهذا الدعاء على من يحب لا لشيء إلا لأنه لم يقدر حتى أن يبوح لها بحبه!!!فاسمعوا واحكموا:
وأنـت أيضا ألا تبت يـداك إذا *** آثرت قتليَ واستعذبت أنّاتي
من لي بحذف اسمك الشفاف من لغتي*** إذن ستمسي بلا ليلى قصيداتي
ولنقف مع هذا البيت :
كتبت في كوكب المريخ لافتة *** أشكو بها الطائر المحزون آهاتي
لا يهمني هنا المريخ ،ولا اللافتة وإنما هذه "المحزون " التي استخدمها الياسري بانسيابية رائعة في مطلع قصيدته وهي كلمة ليست ذات استخدام شائع، راجعوا تائية الياسري في القسم الأول وتعليقي عليها: ملت من النغم المحزون ناياتي *** واتعبت فرس الأحزان آهاتي
أذكر للقاريء منبها الى تشويه لا أظنه بريئا ، طال البيت الآتي (ولا زال غيره الكثير) :
عندي أحاديث حزن كيف سطرها *** تضيق ذرعا بي أوفي عباراتي
وصحيح العجز المنكسر: تضيق بي ذرعا أو في عباراتي ، والصدر فيه تضمين جزئي لبيت الشريف الرضي:
عندي رسائل شوق لست أذكرها *** لولا الرقيب لقد بلغتها فاكِ
وأخيرا وإن كان هناك كثير مما يقال ، لكنني سأكتفي رحمة بالقاريء ، الذي قد يتساءل عن اهتمامي الشديد بالجوانب الفنية لاسيما اللغة والعروض وسيجيب عني أستاذي الكبير الدكتور ابراهيم السامرائي:" ربما أغفل النقادعنصر اللغة في النقد الأدبي الحديث ،وفاتهم أن اللغة مادة في الأسلوب وأن الأسلوب يستمد الحياة والقوة من طريقة استخدام المفردات المناسبة ،ومن السر في ربط الكلمة الحية القوية بأختها بحيث يتهيأ من هذا المركب طريقا الى التفكير" (لغة الشعر بين جيلين ص38 المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2 بيروت 1980).
- - للموضوع صلة: دراسة الشاعرين ،والإخبار والإستنتاج
ملاحظة: أرجو ممتنا من القراء الكرام تزويدي بقصائد الشاعرين الراحلين هادي التميمي ، وخالد الشطري ،والشكر موصول مقدما.
kalidjawadkalid@hotmail.com