والتائيتان من الشعر المعاصر ، ولشاعرين من جيل واحد ، بل هما زميلان في جامعة واحدة ومن كلية واحدة وقسم واحد لسنوات دراسية أربع 68-1972،،هما إذن في قسم اللغة العربية لكلية التربية- جامعة بغداد. ولا بد من التنويه بدور هذه الكلية العتيدة (دار المعلمين العالية -سابقا ) وهذا القسم تحديدا ، حيث خرّج شعراء عراقيين وعربا ، لمعت اسماؤهم عاليا في سماء الشعر العراقي والعربي: نازك الملائكة بدر شاكر السياب (انتقل لاحقا الى قسم اللغة الإنكليزية) ، عبد الوهاب البياتي ،الشاعر السوري سليمان العيسى ، سعدي يوسف ، عبد الرزاق عبد الواحد.... ثم محمد علي الخفاجي ، حميد الخاقاني ، نبيل ياسين، ناهدة محمد علي، عبد الإله الياسري خلدون جاويد....مثالا لا حصرا.
وصاحبا التائيتين هما عبد الإله الياسري وحسن المرواني . والقصيدتان من قافية واحدة رويها التاء المطلقة -بالياء- يسبقها حرف مد- الألف- ومن بحر واحد هو البسيط تاما ( مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن) ، وهذا البحر من الأبحر الخليلية الهامة المركبة من تفعيلتين (مستفعلن، فاعلن) ، إن هذه التفعيلات وهذا التركيب أكسبت البحر إيقاعات مميزة تستوعب العواطف الجياشة والخلجات الداخلية و بسبب هذه الميزات نظمت عليه كثير من قصائد الرثاء والتأبين والحزن...مراثي الخنساء لأخيها صخر مرثية جرير لابنه سودة ، واحدة ابن زريق البغدادي(لاتعذليه) لامية العجم للطغرائي ،كثير من أشعار الطف وكذلك غزليات الرضي وبعض خمريات ابي نواس ناهيك عن روائع المتنبي (عيد بأية حال..،و ميميته عند سيف الدوله)...وللجواهري روائع فيه (أرح ركابك، دجلة الخير، أم عوف ، وبائيته في مهرجان المعري:قف بالمعرة)...
مطلع قصيدة الياسري "الضياع":
ملّت من النغم المحزون ناياتي**** وأتعبت فرَس الأحزان آهاتي
أما مطلع قصيدة المرواني"أنا وليلى":
ماتت بمحراب عينيك ابتهالاتي*** واستسلمت لرياح اليأس راياتي
ومن الواضح أن هذه القافية عززت الأصداء الإيقاعية الحزينة لهذا البناء (الهيكل الشعري) ، فبهذين الإستهلالين إذن لا يصبح الامر عسيراعلى القاريء أن يتحسس مسالك العواطف الحزينة التي صُبت في هذا البناء وأن يتفاعل معها خلال سيره في دروبها.
ومن نافل القول نذكر أن هذا البناء له حضور في تراثنا الشعري القديم والحديث، وأذكر على سبيل المثال قصيدة دعبل الخزاعي في آل البيت:
سقيا ورعيا لأيام الصباباتِ***أيام أرفل في أثواب لذاتِ
وللرصافي مقطوعة شعرية من هذا البناء ينتصر "للدخان" وشاربيه على الخمرة وشاربيها ،ذكرها التراثي الراحل عبود الشالجي في مقال نشره في الخمسينات، وأعيد نشره في "المدى" 2009 أذكرها هنا لطرافتها:
إن كلفتني السكارى شرب خمرتها***شربت لكن دخانا من سكاراتي
واختـرت أول شــر للدخــان وإن***أحرقت ثوبيَ منه بالشرارات
إني لأمتص جمرا ُلُف مـن ورق***إذ تشربون لهيبا ملء كاساتِ
الشاعر الياسري شارك بتائيته "الضياع" في مهرجان الشعر في كلية التربية عام 1969 تحت إشراف الشاعرة الدكتورة عاتكة الخزرجي. وفي أول لقاء لي مع الشاعر في شباط /فبراير عام 1969 في النجف قرأ هذه القصيدة قائلا هي آخر ما كتب ، ثم قرأ إضمامة من قصائدَ أُخَر وكنت أعجب بهذا الشاب ابن التاسعة عشرة على حسن إلقائه الذي كان يؤديه من حافظته جريا على عادة شعراء النجف بمقدار إعجابي بموهبته التي تفتق عنها هذا الدفق الشعري الفياض ! وطالما رددت في قرارة نفسي أن شاعرا كبيرا قادما في الطريق لا محالة. وأذكر من ضمن ما قرأ قصيدة كتبها وهو طالب لمّا يزل في المتوسطة، تحمل كثيرا من بصمات الطفولة وبراءتها وصدقها وموسيقاها وجزالة لفظها وحرمانها ، لطفل فقد أمه قبل فترة قصيرة! أذكر منها ماعلق بالذاكرة (من مجزؤ الوافر) :
أيا أمي لمن أشكو؟ ومن ينصت للشاكي؟/ ومن يُصغي لأنات الجريح الضائع الباكي؟/ أرى حتى العصافير تجافي اليوم شباكي/لقد ذبلت ازاهيري فيا أهلا بأشواكي/ فما لعنادل السلوى تهاوت بين أشراكي؟ / نطقت بدمعة خرساء أوفي من فم حاكِ
لفتت موهبةُ شاعرنا الياسري أستاذَه في الثانوية الشاعر زهير غازي زاهد الذي لم يبخل في توجيهه وفي الجامعة الدكتور علي عباس علوان الذي أعجب بأسلوبه في مادة الإنشاء وكذلك الشاعرالراحل الدكتور هادي الحمداني وشجعاه على الإشتراك بالمسابقات الشعرية، حتى غدا من الشعراء المبرزين في الجامعة وفي مدينة الشعر النجف، فلطالما اعتلى المنصة غير خائف ولا وجل منشدا أشعاره بثقة عالية بالنفس على جمهور ذواق يضم شعراءَ مرموقين كالشاعر مصطفى جمال الدين ومرتضى فرج الله والشيخ صاحب البرقعاوي في مقر الرابطة الأدبية أو في حديقة نادي موظفي النجف، ناهيك عن مشاركاته في مهرجانات الكلية...ما أرمي إليه هو أن للشاعر عبد الإله الياسري حضورا شعريا بارزا ورصيدا معتبرا من قصائد، وجمهورا يهفو لسماع شعره، يحمل الشاعر معه يراعه حيثما حلّ يُنشد كلَ من توسم فيه ذائقة شعرية، ويستمع لملاحظات الجميع بحس مرهف وصدر رحب.
وسمفونية عبد الإله الحزينة قوامها عشرون بيتا من حركتين، الأولى من اثني عشر بيتا ، والثانية من ثمانية أبيات، وجميع هذه الأبيات رصف بأناقة وتلقائية وشحن بقدرة تعبيرية واضحة، تلمس فيه صدق العاطفة ووضوح المعنى وتكثيف الصور الشعرية والتعابير البلاغية المتعاقبة، كما تتسم قصيدته بجزالة اللفظ وفصاحة العبارة وقوة الوقع بوتيرة عالية لا تكاد ترى هبوطا فيها، وتلك لعمري هي المدرسة النجفية التي تأثر بها الشاعر الياسري والتي تلمس آثارها حتى في شعر التفعيلة، الذي يجنح اليه أحيانا مجاراة للحداثة وروح العصر.
ففي مطلع قصيدته كثف العبارة الشعرية، ورسم صورة مايريد، بالنغم المحزون لا الحزين، فالأول امض وأقسى، الم يقل الرسول الكريم : وإنا لفقدك ياإبراهيم لمحزونون! وهو موفق في اختياره "الناي" الآلة الهوائية الشجية أداة للعزف، وفي السياق نفسه يجعل من همومه فرسا يعتلي صهوتها في حِله وتَرحاله، ورغم أن ابن الفرات الأوسط ذي القيم الإجتماعية الصارمة، يحاول إخفاء حزنه مكابرة وشموخا، إلا أن الحزن يفضحة بدموع حرّى، فالتركيب البلاغي تعريضا وتلميحا حاضر ومتتابع ، فلنقرأ :
ملّت من النغم المحـزون ناياتي*** وأتعبت فرَس الأحـــــزان آهاتي
جفّت على شفتي الصفراء أغنية*** خضراءُ وانطفأت دنيا ابتساماتي
ألملمُ البسـمةَ الخجلى مكابــــرة *** حتى تقهقه فـي أذنيّ مرثــــاتي
وأكتم الفرح المقتـولَ في لغتي ***ويفضح الدمعُ في عيني جراحاتي
وهذا الحزن الذي ما انفك يرافق الشاعرَ كظله يظهر له حينا آخر مظهر أفعى تمتص المسرات:
أنـا المغـرد والآلام تأكلني *** والحزن يمتص كالأفعى مسراتي
وهذه الـ"أنا" بها نكهة أبي محسد " أنا الذي نظر الأعمى..." وستظهر لنا في قادم الابيات . وفجأة يفاجؤنا الشاعر بأن همومه ليست محض هموم الذات، وإذا بها ملتحمة بهموم الشعب، كما أن حبيبته ليست غادة حسناء نجلاء العينين كحبيبات الشعراء وإنما حبيبته هي بغداد التي أتاها " يُخفي جراحات وراء ثيابه:
وأقتفي الشمس والأشبـاح قافلتي *** ودمعة الشـــعب يا بغــــداد رايـاتي
آه وعينيكِ،ما مسّ النــدى يبسي *** يوما ولا اخضوضرت بشرا وريقاتي
وأنكـرتني يـابغــــــــــدادُ جاحـدة *** حتى لِداتُ الصبــا حتى حبيبـاتي
يبقى التحام الذات بالموضوع إحدى أهم مميزات الشاعر الملتزم عبد الإله الياسري، ظهرت عنده منذ بواكير قصائده وظلت تلازمه حتى آخر قصائده عن الثورة المصرية ، تلك المهداة الى الشاب المصري الثائر وائل غنيم.
تبدأ الحركة الثانية هادئة بعض الشيء ثم تتصاعد ، وتُفصح عن مغزاها الإنساني بجلاء وهو يخاطب حبيبته:
مدي ضفافك يابغداد ، واحتضني *** قلبي إليـك فإن الموج بي آتِ
وأرجِعي نفسَ الدنيـا الى رئة ***ونبض قلـب لحيّ بين أمواتِ
وقد يبدو "الموج بي آت" غامضا وهو تلميح أبلغ من التصريح بما سيحل بالعراق من مآس ، ظل الشاعر يتوجس منها خيفة في مواضع عدة من قصائده اللاحقة، وخاصة التقارب مع البعث الحاكم في جبهة وطنية وتقدمية أيضا!! وكم صدق الشاعر وخاب مسعى السياسي وتلك حكاية أخرى!
وأريد أن أقف على بيتين أُعدهما مركز ثقل القصيدة أو ما يسمى في الموسيقى " الكلايمكس" وذلك للصور المعبرة عن الحزن بصيغة بلاغية تجمع بين التمثيل البلاغي والكناية المجازية :
ضاعت ملامح وجهي كيف أبصرها **** تهشمت بصخور الهم مرآتي
أنا الحزين وذي ألأشعارُ صاحبتي *** كم هدهدت لي جزاها الله أناتي
لم أجد تلائما صوتيا منسابا مع الصور الحسية كما في هذين البيتين ، فاستخدام الفعل المضعف "هدهد" كبح جموح العاطفة برفق أعقبه باستكانة الجملة الإعتراضية - جزاها الله- يالَلروعة !يالحسن الإداء! فتلمس حسه الإنساني ،فهو غير حانق،لا على الأنات ولا على الدموع المنسكبات، فقد الفها وألفته ! استخدم الشاعر افعال التضعيف في عدة مواضع بجمالية عالية :الملم ، تقهقه ، هدهدت ، تنهنه ، والمصدر "زقزقة".
كما استخدم تاء التأنيث مربوطة بأفعال ذات دلالة نفسية: ملت ،أتعبت ، حفت ، انطفأت ، استترت ، سحقت ، أتعبت، استلبت ،طالت ، وأنكرت ،عجت ،غرقت ،تهشمت ، ضاعت...
في الحركة الثانية ،انتقل من النداء الى الحبيبة بغداد بصيغة فعل الأمر : مدّي ، احتضني ،افرحي ،أرجِعي...
ولئن خلت الحركة الأولى من الفعل المضارع ،لأنها تحكي الماضي، ففي الحركة الثانية تتواجد الأزمنة الثلاثة مع غلبة للحاضر والأمر!بل ويتعداه الى سين المستقبل القريب: ستترك ، ستروي، بحسن تخلص وسلاسة ليختم قصيدته مع بقاء التشاؤم الذي لا يستطيع منه فكاكا:
وإن أمت ويخب الرمل زقزقتي*** وتطمر الحفرة السوداء غاباتي
ستترك اسميَ للسمار أغنية ****وللحزانى ستروي دور مأساتي
ـــــــــــــ
للموضوع صلة - مع تائية المرواني-