من نص سردي - بصري، بالعنوان ذاته
( أستاذ خطته سيدة الديوان، عن احتلال "اليشن"، نسي أبو مخنف، وأرباب المقاتل ضمه إلى أساتيذهم )
• • • • •
تقرير المواطن جمال الدين أبو يسار، الذي عرفه أهل "اليشن" باسم: "المجنون"، و"المهدي"، إلى عقيلة بني هاشم وحارسة بساتين نخيل ميسان:
صباح الخير، يا زينب
يا حلوة
يا زهرة العناصر، ودورة الأفلاك، وإغفاءة الطوفان، والإبريق، والكأس، والصهباء..
يا دورة الكأس، وقوسه
يا دُنيا
يا باب بيت المرايا
صباح الخير، يا حلوة
يالدنيا،
يا بكاء الشمع، وأنين السور والزيت
يالنور،
حين النور، ماء وهواء،
ومستقبل النار، وذاكرة العماء
لماذا - أنا المفتون بك - أختبل حين تنصت إلى أسئلتك آسيا وشهرزاد؟
أنتِ، لا هنّ، الصمت، الظل، الأم، الرفيقة، والصحراء
أيتها الوجه والقناع
سلام على خمار صار وجهك،
وسلام على نقاب أنت قناعه ونقابه.
صباح الخير، يا زينب
يا نصفي،
يا نصف الكأس اللّي اكتمل بي،
يا باب الشاهد، ومعراج المشاهدة،
استوحشني النور، فلمت الكأس اللّي طاف بي، وبي النور خجل من عريه،
فانتحب البلور
زينب...
هذا بستانك ازدهر، وامتلأت دنانه عسلاً، وهذا خرابي الفاتن اللّي فيّ ومنّي، ينادي عليك:
يا أنتِ، يا زينب
يا دُنياي وزادي
زينب...
يا أول الأسئلة، يا آخر الأجوبة
النور الأزرق كتب اسمه وكتبني، على راحة كفي اليمنى، وقال لي:
أيها الهزار العاشق، السكران،
والمجنون، إلق الأزرق، واقتبل وجهي،
تُقبل اليك زينب،
وتقبلك.
يا صورته، وكلمته.
زينب...
يقتفي خطوي البحر، والكلمات تهبني براءتها.
وحدي، حيث لا عاشق قبلي، أترس جراري من نورك، وأرتحل إليّ.
زينب...
أنتِ استقامة الـ( 1 )
وباب بيت المرايا
• • • • •
أكاد أراك - حتى قبل أن يتنفس العدم- أقرب إليّ منّي.
وهناك في الأعالي، حيث الصمت الذي يسبّح بحمد ربك، رأيت صقرين يقتربان ويبتعدان من بعضهما تارة، ويتلاصقان حتى لا يمكن فصلهما عن بعضهما بخيط من إبريسم شعرة من رأسك، تارة أخرى. إنهما عاشقان أرادا ليوم ارتباطهما أن يكون في موسم البركة هذا.
فجأة.. تباعد الصقران، وأخذا يدوران متعاكسين، ثم هبطا علينا رويداً.. رويداً، فحط الذكر على كتفك اليمنى، ونزلت الأنثى على كتفي اليسرى.
وفي نقطة بعيدة من الأفق الشرقي، شاهدت نقطة سوداء، تكبر ثم تكبر، وتتقدم صوب مطرحك فوق المرتفع المقابل للسور، وتجثو بين يديك. ذاك هو طائر الهدهد. سمعته يخاطبك: السلام على سيدة الحور العين. قد جئتكِ - سيدتي- بنبأ يقين. إني رأيت قبائل الوحش تغادر أوجارها وأوكارها في الغابات والبراري والجبال، وهي لهفى للمثول بين يديك. ولقد سمعت الحيتان والأسماك في قيعان المحيطات والبحار والأنهار، تتنادى للسلام عليك، وتنتظر أمرك بطرد الغرباء من اليشن.
انسحب الهدهد من بين يديكِ، ثم ارتفع طائراً وحط على كتفك اليسرى. قلت للهدهد: لقد أحطت بما لم تحط به. إنما يحشر في هذا اليوم كل من هو في مرتبة التكليف.
استحيا الهدهد من عمره، وسمعته يسارر نفسه: وفوق كل ذي علم عليم. ولا عليم إلا هو.
رأيتكِ تبتسمين من خلف خمارك وتخاطبين نفسك، بينما كان صوتك يصل إلينا جميعاً: لقد خلق الله اللطيف، أرواحاً لطيفة، لا يعلمها إلا هو، ولا يدرك سرها غيره، غير إنها تبدي نفسها للذي ينظر إلى نفسه والأكوان بعين اللطيف الخبير.
قال الصقر للهدهد: عندما كنت، هناك، في الأعالي، رأيت ما لم تر، وعرفت ما لم تعرف. لكنني استحييت التفوه بحرف واحد أمام الشفيعة.
وسمعت أنثاه تقول لعشيرها من فوق كتفي اليسرى: أيها الحبيب، ليس هذا وقت التعالم، وليس هو موسم المناظرات، فنحن في حضرة الصمت الذي هو الأبلغ من الكلام كله.
كنتِ مزدانة بالصمت.
الرايات صامتة. القبائل صامتة. الجبال ساكتة. التصقت الألسن بحلوق البشر والحيوان والطير، وكفّت الريح عن الحركة، وأخذت مياه المحيطات والبحار تدور حول نفسها. أما الأنهار فغيرت مجاريها صاعدة إلى الشمال.
تحدث إليّ - أيها الحبيب- كما لو أنك الفراغ.
هكذا سمعتك تتحدثين إليّ، من وراء نقابك، ذات يوم صيفي، كنت عند شط "الكحلاء" يشافهني الماء، وأتسمع إلى وجيب قلوب الهوام ونهايات جذور النخل، فخيّل إليّ أن سمعي غادرني، وبصري لفه خمار لا قبل لي على وصفه، وفؤادي أصبح فارغاً، وجسدي خفّ وشفّ، حتى رأيتني ذرّة دريّة تسبح بين أفلاك لا يعرفها إلا ربك القوي العزيز، ثم سمعتك تقولين مرة أخرى:
تحدث إليّ - أيها الحبيب- كما لو كنت تواجه الحق والخير والجمال والعدل.
وكنت؛ حينها؛ فراغاً. وهذا أنا؛ الآونة؛ فراغ. والفراغ لا يليق به هذا التكون، إلا عندما يكون بين يديك. وها أنت أقرب إليّ من حبل الوريد، يباعد بيني وبينك التقرب إليك، ويقربني منك ابتعادي عنك. جئتك محزوناً، فازهرت عيناي فرحا، واقتربت منك منكرباً فسكنت كلّي الفراديس. صرت المخبّل والعاقل فيآن، وتحولت إلى ساقية رفيعة تسع البحار قدّام جمالك.
أواه سيدتي، قد كنتُ أخامر الأوهام، حتى سمعت بكِ، فعاد عقلي إليّ، وكنتُ خَدين أرصفة الشوارع، فجاء قلبي وسكن صدري بعد أن عرفتك. وكنتُ كبير المطاريد، فصرت نقطة الخط الأولى حين اقتربت منكِ. وكنتُ أمير الصعاليك ونقيب العيارين، فشفيت من عللي جميعها، بعد أن شافهتك.
أوّاه سيدتي، لا فاصلة بيني وبينك سوى (الواو) بين (بيني) وبين (بينك) فأدخليني إلى حجرتك، لأرى وجهك، وأتملّى بهاءك، وأدير بصري في الجهات التي لا حصر لها، فأراك في كل الشموس، وفوق رؤوس جميع الجبال، وفي النهايات القصية لأناشيد الشجر.
أوّاه، سيدتي..
وسمعت البشر والحيوان والجماد، كل يريد أن يقترب منك، ويفوز بنظرة من عينيك، ليرتاح إلى أقرب سارية أو صخرة، بعد هذه السفرة الطويلة من أول الآفاق إلى مطرحنا هذا، ومن آخر المسافات إلى مفترق الطرق التي نحن فيها، وكل منا يحمل في يمينه كتاب الخلاص: محبتك.
محبتك - زينب- طريقنا إلى الجمال، ومعرفتك - أيتها الشفيعة- دربنا إلى الخير، والنظر إلى قسمات وجهك، مسلكنا إلى الحب.
من ذا الذي يتحدث إليك؟ أنا أم ذلك السبع الضاري؟ ومن يتوجه إليك بالخطاب؟ ذلك الصقر أم هو الفيل الذي يتقدم قافلة أبناء جنسه. ومن يشافهك مسارراً نفسه؟ قائد الثيران المجنحة أم تلك المرأة المرسومة على جدار في كنيسة بشارع المعارف؟!
في موسم الفرح هذا، وفي يوم الشدّة حيث نسيت كل مرضعة وليدها، توجهنا جميعنا إليك، تلتمع الصياقل في أكفنا، وتلصف السيوف في غمدها، وتتوجع الرماح عند أكتافنا. الله الله، فينا يا دليل الحائرين، وسلوى الغرباء، وسرية النائحات، ومجالس الخشوع، وسراج المظلومين، وهادية الحيارى، والغالبة - ولا غالب إلا الله- في ازدحامات الأبطال الأرضيين، وعميدة الثكالى المنتظرات عودة الأحباب من الأسر والغياب الأبيد.
غلبني الوجد سيدتي، على ما انتويت أن أكون فيه من تجمل. وصرعني الهوى، وكيف لا يخرّ صريعاً من يُشبهُ له أنه رآك في هذه الهيئة اللابشرية، وكأنك شمس أشرقت من غرب هذا الكوكب.
وها أنتِ تشرقين علينا. أزحت خمارك عن وجهك، فانطبقت علينا الأرض بعد أن أخرجت ما في بطنها من أهوال. وتحدثتِ إلينا، سافرة، فبكى البشر، وولول الحيوان، وعلا نشيج الجبال.
سمعناكِ تقولين: يا أبنائي.. لا تنسوا ذكر الله، ألا بذكره تعالى تطمئن القلوب.
فانخلعت قلوبنا، وسقطت لحومنا من عظامنا وهُتك سترنا، واُفتضح أمرنا، أفبعد ذكر الله ذكر؟ أو بعد صوتك صوت؟!
نهضت بما عندي من حيل، فوق صخرتي هذه، لأواجهك تماماً، فرأيت سيوف القبائل صارت ساريات للرايات، ورماح العشاق والحيارى والمظلومين، وقد نكست إلى الأرض.
وعندما قُلتِ: لقد هتكوا ستري.. ضجّ الناس بالبكاء.
وعندما قلتِ: وأحرقوا خيام أهلي.. علا نياح الفيلة.
وعندما قُلتِ: وقتلوا أطفالي الرضع.. لطمت الضباع صدورها.
وعندما قلتِ: ثم دخلوا خدري.. خرجت الثيران المجنحة من جدران بلدان سومر وبابل وآشور.
وعندما قلتِ: جروني من جدائلي.. لمعت الصياقل في أكفنا.
وعندما صرختِ: واغربتاه.. قبضنا على سيوفنا ورماحنا.
وعندما عِطْتِ: واجدّاه.. دارت بنا الأرض.
وعندما هتفتِ: أبه. يا أبهْ. شقّ قبرك، واطلع علينا.. لم نر إلا أنتِ فوق هذه المعمورة.
حدث الأمر الجلل، فاقتربت السيوف من الرقاب، وانغرست الرماح في الصدور. كنت أحث الخطى، نحوك، ورأسي بين راحتي كفيّ، ولساني ينطق: فُديتِ، سيدتي، لا غالب إلا الله.
وكنت أرى رؤوس البشر تنوح بين راحات أكف أصحابها!
وعمّ الصريخ الأرض وما فوقها:
يا أهل السموات والأرضين، لا ابه لكم:
اليشــن محتلة!
• • • • •
بعد وقت قليل من طلوع ضياء الكوكب الثاني عشر، تجلس امرأة إلى طاولة في شقتها المطلّة على البحر. امرأة استأذنتها الكهولة لتدعوها إلى فنجان قهوة. وعند الساحل، وها هي الآن تراهم، ثمة أطفال، ثلاثة أطفال، يبنون منازل على الرمل.
بي رغبة في اللعب معهم، وقربتْ فنجان القهوة إلى شفتيها، وتذكرت ما قاله الليلة البارحة:
لا طريق إليكِ سالكاً.
في كل زاوية مخفر، وعند أي قنطرة سريّة.
عندما نادى منادوهم، في الأسواق ومن فوق أسنّة المنائر: امنعوا المجنون من دخول حيّ زينب، أسْرتْ بي الريح إليك.
افتكرت مع نفسها: منذ قرون سحيقة وأنا أبحث عنك.
غادرت غرفتها المطلة على البحر، باتجاه الشرفة التي تجعلها في مواجهة البحر تماماً. كان فنجان القهوة، في الغرفة الأخرى يرقد ساكتاً فوق المنضدة، وعند الساحل، في مواجهتها، كان الأطفال الثلاثة، قد غمروا نصف أجسادهم في الماء، وبقيت رؤوسهم على اليابسة، وكانت أعينهم تطارد أحلاماً صغيرة.
كانت أحلامها الصغيرة، قد تجمعت في حلم صغير، حلم صغير واحد لا غير: تقربه إلى صدرها، تقبله من جبهته، مثلما تفعل الأم النفساء مع رضيعها البكر.
عرفته ولم تقابله، وأحبته من دون إعلان.
جلست على الكرسي الصغير، واستمرت تنظر إلى الأطفال الثلاثة. وفي النقطة القصية، في عمق الأفق، شافته يرفع يده اليمنى، ويتوجه إليها منادياً:
أنتِ الطريق والطريقة
وكلانا روح الفراغ
ثم رأته طالعاً، كما كرة برتقالية، معطياً قفاه للأفق، ووجهه يتقدم نحوها. مدّت ذراعها اليمنى نحوه، حتى ناشته، وقربت رأسه إلى صدرها، وقبلته في ما بين عينيه.
- كنت أنتظرك.
- نحن سلاطين الانتظار.
رأته، الآن، في هيئته الكاملة رجلاً جاوز الخمسين من عمره، تستر جسده الناحل دشداشة بيضاء، كما لو أنها كفن، ينظر إليها وظهره إلى البحر وسور الشرفة.
كان الأطفال الثلاثة، خلفهما في هذه الآونة يطاردون طائراً بحرياً، قذفت به الأمواج إليهم. طائر أسود اللون. كان أحد جنحيه مكسوراً.
أحسّت بقلبها ينكسر. كانت تعرف أنها تحلم، فلم يكن مجنونها معها الآن، ولا هي معه أيضاً، بيد أنها لا تملك سوى هذه النعمة: الحلم والانتظار.
حلمت بك قبل أن أعرفك،
وعندما دعوتك إلى صدري،
ذبت في الفراغ،
أنت الفراغ، وأنا روح الطريقة.
وأمامها، عند الأفق، كان رجل جاوز الخمسين وامرأة في سن الكهولة، يدخلان حلماً راود الأطفال الثلاثة: على الشرفة التي تقابلهم، كان الرجل الخمسيني، يهبط إلى حيث قدمي امرأة في سن الكهولة، ويقبلهما.
رفعت رأسه، بكفيّها، وأَدنته إلى وجهها.
للتو، أدركت أنها تشيل الفراغ وتدنيه إلى وجهها، ثم رأت البحر يقترب من شرفتها. ومثل جرو صغير يتشمم حلمة ثدي أمه، شَخَصَ البحر أمامها، رجلاً تجاوز الخمسين، وقدم لها زهرة.
ها هي في الحلم مرة أخرى. لا فكاك لها من الحلم.
إنها الآن في الشرفة وحدها، فلا البحر كان بحراً، ولا الرجل الخمسيني كائناً بشرياً. وحدهم الأطفال الثلاثة عند الشاطئ كانوا الوجود الوحيد المتحقق.
عادت إلى غرفتها. كان فنجان القهوة، لا يزال فوق المنضدة، وحيداً وصامتاً، فيما الغرفة تضج بأصوات الصمت:
- ماذا يحدث لي؟
لا جدوى من الأسئلة. لكنها كانت تحسّ احتراقها، وترى طفولتها تنضم إلى الأطفال الثلاثة، عند الساحل.
نزلت إلى البحر. كان الماء صامتاً وأليفاً. تنفست بعمق، كما لو أنها سمكة ذهبية صغيرة، واندفعت بسرعة في العمق. وهناك سمعته يتحدث إليها:
لا طريق إليك سالكاً
في كل زاوية مخفر، وعند كل قنطرة سريّة.
كانت هي السمكة الصغيرة الذهبية، في عمر امرأة صادفت سنوات الكهولة، تندفع في العمق المضاء بنور صمتها، والضّاجّ بصمت الأعماق.
أما عند شرفتها، فلم يكن سوى الصمت، ينتظر امرأة ستعود إلى غرفتها، وقد ناولها الفراغ كل أسراره .
زينب...
أنتِ الحق
والحق أنتِ،
وأنتِ تاج الفراغ.
• • • • •
والفراغ هو السور أيضا.
وقفت بمواجهة السور، وكوّرت قبضتيي، ثم همست للطين "ماذا يقول الطين للطين، عندما يتواجهان في التنور؟".
استمع الطين إليّ بانتباه، ونضحت طابوقة عجوز دمعاً أسود، فقلت لذاتي: "مرحباً بك أيها الفَقْر". نعم، هو هكذا أيضا، المجنون، جمال الدين أبو يسار، والمهدي. هو هكذا، خلف السور وخارجه، متصادق مع الفَقْر. وعندما كانت أمّهُ تقطع الفيافي والقفار، مرة على قدميها، وأخرى بالقطار العادي، وثالثة في سيارات الشرطة، كان يسألها: "ماذا تبقى لدينا؟".
تردّ أمه: "كل شيء. عندنا ما يزاحمنا عليه الملوك والأباطرة". ثم تحلّ عقدة في شيلتها، ويتجه بصرها إلى صرّة صغيرة، وتقول له: "هاك. الرسالة لك".
يقرأ الرسالة المكتوبة بحروف صغيرة: "أيها الرفيق، أيها الفقير إلى الله، صُنْ رفاقك، وتِدْ في الأرض قدمك، واحترم العلم والعُلماء، وأعِرْ جمجمتك لله، ولا تصاحب الظلمة.. أيها الفقير اخْتَرْ فقرك".
من كتب تلك الرسالة؟ علي بن أبي طالب، أم سلام عادل؟
قالت أمه: هذه رسالة من سلام عادل، سلمها إلي سالم يوسف اسطيفانا.
وقف الخلق كله، الكل تمّ حفّ شواربهم، وأهدابهم، وسملت عيونهم، وكان وجه سلام عادل نصفين : اليمين للأبجر، والثاني لسلم عادل.
قال علي حسين الرشيد التكريتي: اغفر لي يا ولدي، قصر النهاية لا يرحم.
قلت: أنت أبي. لقد أوقفت الاعترافات عند اسمي فقط،، أنا جمال الدين أبو يسار، أعلن أن الحب ديني، والعشق مذهبي، وماركس أحد أنبياء الله الصالحين.
أين كنت في حينه؟ في جاردينيا أم في زنزانة الانضباط العسكري؟
هل كنت في وكر الطائرات؟
ومن كانت تلك المرأة التي تلاحقني متأبطة زنبيلها؟ أمي أم زينب؟
في البدء رأى أمه، ثم أباه، ثم رفاقه الصبية والفتيان، وبعدهم الذين تقطّعت بهم الديار، أو الذين هاموا على وجوههم في مدن العالم، وأولئك الذين اختفوا في الرمال ومصبّات الأنهار.
وفي ثانية البدء، رأى أباه صورة للفقر.
قال أبوه: أنظر إلى ظهري (وكشف الوالد عن ظهره، فتبدّت آثار التعذيب والتعب).
- وهاك يدي (وبَسَط الوالد كفّيه) لترى بياض راحتيّ.
قال الكاتب: "نعم، رأيت يا أبتاه".
قال والده: "أوصيك باختيار الفقر، فإنه طريق روحك إلى صميم العالم. واعلم أنك صائر إلى الغنيّ، فقل بين يديه: يا رب، هبني روح عزلتي في هذه الدنيا، لأربَحَ فقري بجوار مشيئتك".
منذ ذلك اليوم، اليوم الذي لا يعرف متى ابتدأ، اختار الفتى مصيره، ركعتي صلاة بين "مكة" و"حراء" وعليقة متروسة بالفراغ.
وحين يسأله السابلة: "ماذا تحمل أيها المجنون؟"
- "إنما هي نفسي أروضها بالفقر".
وعندما كان لا يمتلك إلا فقره، كان يقرأ كما هو الفقير، ويكتب كما هو الفقير، ويتصرف كما هو الفقير، لأنه فقير إلى الله فقط.
في هذه الساعة، يتذكر المجنون أمه، ووالده، وأخاه، وشقيقته، وزينب، وأولاده.. وفقره، وقصر النهاية، والجنود في ساحة الإعدام،وحفلات النبذ في سجن الرمادي،
وشعبان كريم،
وسامي أحمد العباس،
ومعسكر الحبانية،
ورسالة الاستقالة من التنظيم،، ... و
.... ولا يندم أبداً.
وكيف يندم من نذرته أمه ليهز الراية الحمراء على أعلى ذروة فوق قبة الحسين؟!
• • • • •
رأيت الرايات، فكاد قلبي يطفر من بين أضالعي.
عند ظل راية "بني أسد"، كان ثمة دائرتان: رجال أنزلوا عُقُلَهُمْ حول رقابهم، وشدوا رؤوسهم بكوفياتهم، كناية عن رغبتهم بالموت. ونساء ائتزرن بعباءاتهن، وأطلقن شعر رؤوسهن، وطيّنّ وجوههن بالطين، تعبيراً عن حزن لا يترجم له إلا لاميّات اليشن.
كانت دائرة الرجال تدور حول دائرة النساء من اليمين إلى الشمال، بينما دائرة النساء تدور حول نفسها من اليسار إلى اليمين. وإذ كان الرجال يحملون بأيديهم سيوفاً عربية، كانت النسوة تلطمن صدورهن وخدودهن، بينما الجميع يشخص ببصره إلى حيث المرتفع المقابل للسور.
وتحت راية "بني كعب" اختلط الرجال والنساء في كراديس لا نهاية لها. كان ثمة مهوال ينشد شعراً للشريف الرضي أمام أحد الكراديس. وفي مقدمة كردوس آخر كانت امرأة تهزج بأبيات لأبي فراس الحمداني، بينما كانت الصياقل تلصف في شمس تموزية.
اندفعت بين الجموع، حتى رأيت نفسي تحت راية "بني تميم": في المقدمة كان كردوس لشباب بدشاديش بيض، حفاة الأقدام، يقرؤون بالمصاحف. تلتهم كراديس لرجال ونساء، يرفعون سعف نخيل وبنادق وأسلحة سومرية قديمة.
كنت أبحث عنكِ بين هذا الخليط من الرجال والنساء والأطفال. لم أجدك بينهم، لكنني أعرف أنك على مبعدة فتر من قلبي.
اتجهت صعداً حتى وقفت مشدوهاً تحت راية "بني لام". كان قلبي يحدثني: زينب هنا. أصخت بسمعي، منتظراً سماع صوتك يناديني: يا مجنون الزمان، أنا هنا.
ولم تكوني هنا، أو هناك.
على حين غرة، رأيت كوكبة من "الكنانيات" يتخذن الجانب الأيمن من الطريق، خارج رايات القبائل الأخرى، وبمحاذاة رايات "البومحمد". رأيت النسوة السمراوات، يرفعن نعشًا يتوسطه رأس ذبيح: رأس امرأة بنقاب، النقاب من حرير أسود، الحرير يبرز عينين سوداوين:
زينب، هتف قلبي بكل ما عندي من حيل. ثم شعرت بقلبي يتوقف عن النبض.
أنا الموت المؤجل/ أنا ذبيحتك ومجنونك الأخير.
أنا، أنا...
وتخشّب لساني في فمي. انحبس صوتي. كيف يتأتى لبشر يراكِ ولا يصيبه الخرس؟
مددتُ ذراعي اليمنى إليكِ. لمستُ ذيل دشداشتك بأطراف أصابعي، فحضرت الفراديس طائعة. رأيتُ عينيك السوداوين، فطارت الجنان وحطت فوق المرتفع المقابل للسور.
كانت الرايات تتجه نحو المرتفع. وهناك، فوق المرتفع الترابي، تحت الشجرة الفارعة تماماً، رأيتك مرة أخرى، من مهجعي هذا، في موتي المؤجل، تديمين النظر إلى كراديس البشر.
هؤلاء هم أحبابك سيدتي، جاؤوا إليكِ من كل المطالع، عرب وعجم، سمر وبيض، لا يبتغون إلا رؤية وجهك عن بعد، وسماع صوتك عن قرب، والسلام عليك كما هي اشتياقات العشاق.
لقد عبرنا الأهوار، وجاوزنا الأنهار، وطوينا القفار والفيافي، لا نحمل إلا زوادة المسافر، وليس في علائقنا إلا قراطيس الأشعار التي تمجد قامتك، وتنحني إجلالاً لرب العزة الذي خلقك على عينه.
زينب،
يا زينب، يا شرف البلاد وقرة عينها
يا نور السراج، وزيت المصباح
يا حارسة القوافل
أنتِ الشهيدة والشاهدة.
استيقظت. عادت إليّ روحي. كان لساني يلوب ذرباً في فمي. كنت خلف الرايات، بعيداً عن المرتفع الترابي، نائياً عن الشجرة الفرعاء، لكنك على مبعدة فتر من قلبي.
قالوا: إذا رغبت في السلام عليها، فاتبع مواكب محبيها.
انتظرت هذا اليوم، مُذْ كنت بشهري الثالث في رحم أمي، و رضيعاً في الثالثة من عمري. ثم انتظرته طفلاً وصبياً ثم فتى.
في مهدي سمعت اسمك، وعند رؤوس مفارق الطرق انضممت إلى كراديس محبيك. وفي أيام الحزن والفجيعة، لبدت خلف جذع نخلة، انتظار رؤيتك والسلام عليك.
وهذا هو يومي الموعود.
ارتديت دشداشتي البيضاء التي لا ألبسها إلا في الأعياد، وخلعت نعليّ ورميتهما في الوادي القريب. أنزلت عقالي حول رقبتي كذلك المنذور ليوم الثأر، وشددت رأسي بكوفيتي الحمراء، كما يفعل الرجال في ساعة الهيعة. ثم اختلطت بالناس.
الناس، الآن، صعدوا المرتفع الترابي، وأحاطوا بالشجرة الفرعاء. لا صوت أسمع إلا صوت الصمت، ولا غاية لي إلا رؤية عينيك.
لن أزاحم الناس. سأبقى في مكاني هذا، على مبعدة فتر من قلبي، لأنني رأيتك في هذه المسافة وأنا في المهد.
أريد رؤيتك وحيداً، أبتغي التملي بجمال عينيك، حتى وإن شخصت إليكِ هذه الآلاف المؤلفة بعيونها.
يكفيني فقري، ونظرة واحدة إلى عينيك.
زينب.
ثم رأيتك تنهضين، هناك عند الرابية، ليصلني صوتك واضحاً وحلواً: يا مجنون الزمان.. اجتبيتك ليوم الصريخ الأكبر.
يا مجنون الزمان،
أنت الحق،
والحق أنت .
• • • • •
الحقُّ بَيِّن، والباطل مفضوح. فاختر أيها الفتى موقعك في الكتيبة، وتَوَلَّ أمْرَ نفسك،
قبل أن تجاهر الناس بمطالب العامة.
قُطْب المسألة، وفحوى المُساءلة، أن تتولى أمر نفسك، فتكاشفها على الصغيرة قبل الكبيرة، وتحاسبها حتى على عمل اجترحته، هو أرقُّ من جنح فراشة، وأرخص من قلاّمة ظفر.
اسْعَ إلى نفسك، قبل أن تخاطب الناس في شؤون نفوسهم، فإذا وجدت نفسك راضية مرضية، فاهرع إلى كتاب الله فإنه الفيصل والحكَم، ولا تُرهِب أحداً إلا على طريق رضوان الله.
أنت عبدالله، وأنت وليُّه، وإن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. فهم الضاحكون في الدَّيْجور، الباسمون في التَّنُّور، المكبِّرون على النَّطْع، الصابرون عند الشدة، والمُصاولون ساعة يدعو داعي الله.
لا تلق حبلها على غاربها، ولا تصعِّر خدك للناس، ولا تمش في الأرض مرحاً، واخْتَر درب الأسلاف الصالحين، وطريق الهداة المهديين، تلق وجه الله.
وكيف لك أن تحيا يوماً واحداً في هذه الدنيا، من دون انتظار أن ترى وجه الله؟!
لا تُلْقِ حبلها على غاربها، ولا تركن إلى الدعة، ولا تثق إلا بوعد الله ونصره. فالأيام خدَّاعة، وهي ولاّدة، وأنت اليوم وغداً، كما قومك في "بدر"، و" قصر النهاية " قبالة ساعة الامتحان، وبين يدي لحظة الاختيار، وأمام نور الحقيقة، وبين عيني رب العزّة، تعالى الله عمّا يصف الواصفون.
لا تُغْمِضْ عينيك عن الباطل، فإن عين الحق تراك. ولا توافق أرباب الباطل، حتى وإن تهيأ لكثيرين أنهم سُراة الحق، فإن الحقّ يغلب الباطل، وهو هزم جُنْدَ الباطل في مواقع كثيرة.
جِدْ العذر للفقراء والمساكين وأهل الخصاصة.
ولا تأخذنَّك رحمة في المنافقين، الذين يميلون حيث الريح تميل،
لا تقرب من هؤلاء، واهجر مجالسهم، واخْتَر مجالس أهل العقل والحق، فإن الحق يَعْلو ولا يُعْلى عليه، وجولة الحق ساعة.
رَوِّضْ نفسك على الحب،
ودرِّبْ روحك على الخلاص من جسدك،
توكَّل على الله في كلمة تكتب، أو في عمل انتويت تحقيقه،
فإن اقتران الفكر الطيِّب بالعمل الطيِّب، فيه رضوان الله ومحبته.
والفائزون، الفائزون، الفائزون، هم أهل الفكر الطيِّب، والعمل الطيِّب.
الفائزون، أيها الولد، يرفعون الراية الحمراء الآن
خلف زينب،
حيث تسمع الأكوان صريخها
أيها الناس : اليشن محتلة!!.
• • • • •
جمعة اللامي
www.juma-allami.com
• أديب وروائي عراقي مقيم في إمارة الشارقة
• ولد ونشأ في جنوب العراق، قبل أن ينتقل إلى بغداد، سنة 1959
• قضى سنوات عدة في أغلب سجون ومعتقلات العراق منذ عام 1963
• غادر العراق عام 1979 واستقر في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ سنة 1980
• شغل مناصب عدة في صحف الخليج والاتحاد وغيرها.
• يعمل حالياً كاتباً متفرغاً في جريدة "الخليج".
• نال جائزة السلطان قابوس للإبداع الثقافي في القصة القصيرة عام 2006
• نال جائزة العنقاء الذهبية الدولية عام 2007
• من مؤلفاته :
- من قتل حكمت الشامي؟ : مجموعة قصصية، بغداد 1976
- أليشن : مجموعة قصصية، بغداد 1978
- الثلاثيات : مجموعة قصصية، 1979م
- عبدالله بن فرات ينتظر ثأر الله : الخليج للصحافة والنشر، الشارقة 1983م
- المقامة اللامية : الأردن، 1990م
- مجنون زينب : رواية . 1998م
- أشواق السيدة البابلية
- الثلاثية الأولى : رواية . نيقوسيا - قبرص، 2000م
- الحرية والثقافة ( ذاكرة المستقبل )
- ابن ميسان في عزلته : المركز الثقافي العربي، 2005م
- مملكة الحكمة، بوابة الكلمة : المركز الثقافي العربي، 2005م
- جمعة اللامي ... الأعمال الروائية : المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004م.
- جمعة اللامي ... الأعمال القصصية : المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004م.
* البريد الإلكتروني: juma_allami@yahoo.com
* الموقع الإلكتروني: www.juma-allami.com