(دراسة سيكولوجية لسلوك البطل النيتشوي)!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(إبسن يجعلك تواجه الحقيقة بشجاعة وحزم، سواء كنت تقول تلك الحقيقة لنفسك أم للعالم)
المخرج البريطاني ستيفن آنوين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(إستهلال)
مسرحية "كبير البنائين" هي ثمرة المنفى الأختياري الذي أمضاه الكاتب النرويجي هنريك إبسن في كل من إيطاليا وألمانيا مدة تقرب السبعة وعشرين عاماً.
بهذه المسرحية يدخل إبسن مداراً جديداً وشخصياً جداً، فثمة تماهيات كثيرة مشتركة بين مجريات حياته الخاصة في سنواته الأخيرة وبين مسار حياة كبير البنائين، الشخصية الرئيسية في المسرحية. تلك التماهيات يمكن أن نعثر عليها متجلية في نواح ٍعدة لعل أبرزها رعب الشيخوخة وخشية قدوم جيل جديد يطرق على الأبواب. وتتمثل أيضاً في قساوة كلا الشخصيتين وفي نرجسيتهما وإستعدادهما للتضحية بسعادة أقرب الناس من أجل تحقيق نزعاتهما الذاتية المحض، فزيجتيهما الخائبة مثلاً لم يكن مبعثها الحب أو بناء الأسرة بقدر ما كان يمليها عنصر الواجب الذي تقتضيه معتقدات المجتمع المحافظ أنذاك.
يتماثل إبسن مع بطله سولنيس أيضاً في علاقاته العاطفية، فقد عُرف عن علاقاته بنساء أمثال هيلدر أندرسون وهيلين راف وغيرهما،اللواتي كان يعتبرهن أنذاك مصدراً لإلهامه. وهو شبيه بكبير بنائيه أيضاً في خوضه ذلك النزاع الداخلي الضاري مابين المستلزمات الجمالية التي يقتضيها الفن وبين المتطلبات الأخلاقية في الحياة.
أما العلاقة التي تنشأ بين الفتاة الشابة هيلدا وسولنيس الشيخ في المسرحية، فتكاد تتماهى تماماً والعلاقة التي نشأت بين الكاتب والفتاة الفينيسية إيميلي بارداتش التي كان إلتقاها مرة في مدينة تايرول النمساوية، قبل كتابته المسرحية بثلاث سنوات، وكان عمره أنذاك واحداً وستين عاماً فيما كانت هي في سن الثامنة عشر. فلقد حدث يومها نوعاً من الأفتتان ما بين الكاتب وتلك الفتاة، وغير معروف إن كان ذلك الأفتتان من كلا الطرفين أم من طرف واحد!. ولقد ظلا يتراسلان مدة عام كامل تقريباً، إلا أن الكاتب كان وضع حداً لتلك العلاقة حيث طلب من تلك الشابة إيميلي، بشكل دمث وحاسم، أن تتوقف عن الكتابة إليه تماماً.
في حديث له بعد سنوات على كتابة المسرحية إعترف إبسن نفسه بذلك التماهي بينه وبين بطله قائلاً:
"سولنيس هو إنسان شبيه بي إلى حد ما".
هذا البورتريه الذاتي الذي رسمه إبسن لنفسه في "كبير البنائين" سيتابعه لاحقاً بعملين مشابهين رائعين هما "جون غابريل بوركمان" و "حين نستيقظ نحن الموتى".
لابد من التذكير هنا أن إبسن كان يحسب نفسه على الدوام أنه بمثابة بنـّاء كبير، ومسرحياته ما هي إلا عملاً من أعمال فن العمارة، وهذا الأمر يجد تجلياته في قصيدته الشهيرة "Building Plants" التي كتبها عام 1858 والتي كان يماثل فيها ما بين عمل الفنان وعمل المعماري. وقد قيل أن إيريك ويرسكيلد، الرسام النرويجي الشهير، كان قد شاهده مرة وهو يتطلع نحو بعض الأبنية الجديدة في كريستيانيا، فسأله إن كان لديه شغف بفن العمارة، أجابه إبسن حالاً:
"نعم بالطبع، إنها مهنتي".
ُيذكر أيضاً أنه وقبل مغادرته ميونخ بمدة قصيرة، كان سمع بأسطورة البّناء الكبير الذي قام بتشييد كنيسة "القديس مايكل" وكيف أنه رمى بنفسه من أعلى برج تلك الكنيسة حال الأنتهاء من بنائها، لأنه خشي من إنهيار سقفها على رؤوس المّصلين. حينها أعلن إبسن عن إعتقاده أن مثل هذه الأسطورة لابد أن تظهر في إسكندنافيا أيضاً!. وحين علق الآخرون من أن تلك الأسطورة ذاتها تكاد تنطبق على كل كاتدرائية شهيرة في ألمانيا، أجاب إبسن:
"ذلك شيء أكيد لأن الناس يشعرون غريزياً أن الأنسان لا يمكنه بناء أبنية شاهقة من دون أن يدفع مقابل ذلك ثمن زهوه وغطرسته".
***
مسرحية "كبير البنائين" تتابع خطى المصير المأساوي لهالفارد سولنيس، البنّاء الذي توقف فجأة عن بناء الكنائس ليشّيد بدلاً عنها بيوتاً عادية للناس، وذلك إثر حريق مفاجىء كان شب في بيته وتسبب في موت طفليه التوأمين وعقم زوجته، والذي فسرّه على أنه نوع من العقاب الآلهي له، ظناً منه أن الرّب لم يكن راضياً عنه!.
تجري أحداث المسرحية في منزل سولنيس الذي كان قد حوّل قسماً منه إلى مكتب يدير فيه شركته العقارية كمتعهد لبناء البيوت. كبير البائين هو الآن شخص هرم، لكن رغم شيخوخته تلك، يبدو قوياً ونشطاً، ومع ذلك هو غير قادر الآن على ممارسة مهنته كبنـّاء مثلما كان من قبل، لذا سيكرس جل وقته في إدارة شركته العقارية، وسيصب حصيلة خبرته وفنه في بناء منزل جديد كبير وشاهق له ولزوجته على أنقاض بيتهما القديم المحترق.
في مكتبه سنتعرف على موظفيه الثلاث: العجوز نات بروفِك مساعد ومستشار سولنيس، هذا الرجل الذي كان في ما مضى معمارياً بارزاً يعمل تحت إدارته الكثير من البنائين بمن فيهم سولنيس نفسه! إلا أن سولنيس الشاب الطموح إستطاع يومها أن يّبز رئيسه الشيخ ليحتل موقعه في الآخر!.
الموظف الثاني هو المهندس الشاب الموهوب راجنر بروفِك، إبن العجوز بروفِك، الذي يعمل مصمماً معمارياً في الشركة والذي يثير وساوس ومخاوف سولنيس من إمكانية القفز فوقه لأحتلال موقعه مثلما إختطف هو موقع والده من قبل!.
الفتاة الجميلة وخطيبة راجنر كاجا، هي الموظفة الثالثة في الشركة، والتي تشغل منصب السكرتيرة الخاصة لكبير البنائين سولنيس. كاجا هذه ستخضع هي أيضاً لنزوات سيدها المتصابي الذي سيوقعها في حبائله العاطفية ليجعل منها قوة ضغط لأضعاف خطيبها راجنر!.
واقع الأمر، إن علاقة كهذه ليس بوسعها إلا أن تسىء أولاً لمغزى الحب الذي تكنه كاجا المخلصة لحبيبها راجنر، وهي، من ناحية اخرى، تمثل إذلالاً ومهانة لكرامة السيدة سولنيس.
في حديثه مع طبيب العائلة هيردال، يفضي سولنيس له بسر عن علاقته بكاجا في أن مبعثها ليس عاطفياً بقدر ماكان الهدف منها الضغط على خطيبها راجنر لإبقاءه في العمل معه،لأنه خشي منه أن يغادر الشركة ليستقل بنفسه ويؤسس شركته الخاصة ليصبح فيما بعد منافساً قوياً له!. ومع ذلك، فهو مثلما كان بحاجة إلى المعماري الكهل بروفوك الأب لأنجاز مشاريعه التفصيلية في الماضي، هو بحاجة إلى إبنه المهندس الشاب راجنر بروفوك لتحقيق مشاريعه الآن وفي المستقبل.
يستخلص من ذلك أن سولنيس هو شخص مستبد، قلق، كئيب ومنحرف عصبياً وإنسان غير موثوق به على الأطلاق. أما الشيء الأكثر غرابة في شخصيته فهو قناعته المَرَضّية بقواه الغريزية وقدراته التدميرية. والآن، من بوسعه أن يقوض تلك القناعة الحديدية؟
ليس راجنر بروفِك بالطبع هو من سيقوض تلك القناعة، لأنه أضعف من القيام بفعل عظيم كهذا، بل شخص آخر سيبعث من الماضي. إنه هيلدا، الفتاة الفاتنة والساحرة القادمة من الجبال.
في حواره مع طبيب العائلة وقبل وصول هيلدا يفضي سولنيس بسر آخر له وهو خشيته من شبح الشيخوخة وقلقه من قدوم الشباب يوماً ليطرق بابه. في تلك اللحظة وحال إنتهاءه من نطق تلك الجملة تطرق الباب فتدخل هيلدا!
حين يسألها من تكون وماذا تريد، تجيبه بيسر وثقة أنها قدمت إليه لأنه كان قد وعدها قبل عشرة أعوام وفي مثل هذا اليوم تماماً أنه سيأتي ويأخذها معه لتصبح أميرته، وسيمنحها مملكة هي عبارة عن قلعة سيشيدها لها في الهواء!. وبما أنه لم يأت فقد جاءت هي بنفسها بحثاً عنه!.
هيلدا هنا هي إمتداد لهيلدا بطلة مسرحية "إمرأة من البحر" تلك التي كان إبسن قد أبقاها لسنوات طويلة كي يعدّها ليبعثها هذه المرة وبشكل غير مباشر إلى منزل سولنيس وهي في مظهر شيطاني لكنه ساحر.
( الحدود الغائمة بين الواقع والمجاز )
في هذه المسرحية يبتكر إبسن هارمونية مدهشة يمزج فيها ما بين الدراما العائلية ذا النكهة الطبيعية وبين ما عرف لاحقاً بالدراما السيكولوجية، مازجاً الخرافة بالواقع بشكل تكاد تغيم الحدود بينهما تماماً.
غرابة التقنية الأبسنية هذه تكمن في وثباتها الراقصة ما بين هذين النوعين من الدراما هدفاً في ترسيخ علاقة جدلية متبادلة بينهما تجعلهما متجاورين ومتناغمين بشكل متواز ٍ حتى النهاية.
يغرف إبسن هنا من نبع الميثولوجيا الأسكندنافية، مثلما فعل في "بيرغنت"، مستحضراً مخلوقه الخرافي "ترول" (1)، الذي سيأتي محمولاً هذه المرة على جناحي فتاته الجبلية هيلدا، ليتسلل إلى روح شيخ البنائين، من أجل إغوائه بصواب قناعاته في أنه يمتلك قدرات خارقة تمكنه من تحقيق المعجزات.
سولنيس في هذه الدراما سيخوض نوعين من الصراع، أحدهما واقعي والآخر مجازي، يصبح فيهما الأول ثانوياً بسبب عدم تكافؤ قطبيه، ووضوح الغلبة لمن في النهاية في هكذا نزاع، فسولنيس هو المهيمن على إدارة هذا الصراع، أما الكفة الخاسرة فيه فتتمثل بموظفيه المهندس الشاب راجنر وخطيبته الشابة كاجا ووالده العجوز بروفِك.
الصراع المجازي هو من سيحتل المقام الأول والرئيسي هنا، ذلك لأن الواقع حين يكف عن تلبية الرغبات القصوى ذات الطبيعة الإعجازية، تصبح الخرافة عندئذ عزاءاً وحيداً لتحقيق تلك المعجزات.
إن نزاع كهذا سيتسم بطبيعة فاوستية، فيه يتقابل كبير البنائين سولنيس وجهاً لوجه بشيطانه الخرافي " ترول " المجّسد بهيئة هيلدا، هذه الجنية الجبلية القادمة من فضاء الأسطورة والتي ستوظف صور الماضي كنوع من التحدي الشهواني لهذا الشيخ، والذي سيجد هو فيه نوعاً من الغواية لا يستطيع مقاومتها على الأطلاق. ليس هذا حسب، بل أن الحكاية نفسها تتسع لنزاع من هذا النوع لأنها تكاد تتماهى وحكايات الجن برقتها وفتنتها دافعة كلاهما، الفتاة والشيخ، صوب فضاء تخييلي مشبع بلغة مجازية يستطيعان من خلالها أن يتحدثا ما يشاءان بحرية مطلقة:
هيلدا: (بحماسة)
سنبني شيئاً ملهماً للحب ومثيراً للدهشة سيكون أكثر الأشياء فتنة في هذا العالم.
سولنيس: (بتوتر)
هيلدا! أخبريني عن هذا الشيء!
هيلدا: (تتطلع نحوه وتبتسم ثم تهز رأسها قليلاً فيظهر على ملامحها نوعاً من الأستياء المفاجىء وتبدأ الحديث معه كما لو أنه طفل)
إن هؤلاء السادة كبار البنائين أناس حمقى جداً.
سولنيس: نعم، نعم بالطبع هم حمقى. لكن أخبريني عن ذلك الشيء الملهم للحب والمثير للدهشة؟
هيلدا: (تصمت في البدء ثم تقول بتعبير مبهم في عينيها)
سنشيّد قلاعاً في الهواء.
سولنيس: قلاع في الهواء؟
هيلدا: (تخفض رأسها وترفعه علامة على الموافقة)
نعم، قلاع في الهواء! أتعرف عدد القلاع المشيدة في الهواء؟
سولنيس: إن ما تقولينه شيء مثير للدهشة حقاً.
هيلدا: (تنهض بشكل مفاجىء وهي تلوّح بيدها بحركة تدل على الرفض)
نعم بالطبع! قلاع في الهواء. قلاع يمكن اللجوء إليها بيسر وقت نشاء، ومن السهل أيضاً بنائها..
(تتطلع نحوه بإزدراء)
خصوصاً من قبل كبار بنائين ذوي أعصاب واهنة.
سولنيس: (ينهض)
سنشيدها معاً أنا وأنت يا هيلدا من الغد.
هيلدا: (بإبتسامة شك)
وستكون قلعة حقيقية معلقة في الهواء. (2)
هيلدا تنبثق من أعماق الماضي لتذكرّ كبير البّنائين بوعده الذي لم يفي به. ولكن، هل بوسع شيخ هرم مثله بناء قلاع شاهقة في الهواء؟
سولنيس يعي تماماً مواطن ضعفه، لكنه مع ذلك يندفع خلف هذه المغامرة حتى لو كان ثمنها الموت. فهو يقول لهيلدا:
"ها أنك تقفين أمامي يا هيلدا وفي أعماقك يسكن كائن الترول الخرافي مثلما هو يسكنني أيضاً. إنه يحشد القوى في الخارج ضدنا، ويتسلل خلسة إلى أرواحنا. ماعلينا في الآخر يا هيلدا إلا أن نستسلم له، شئنا ذلك أم أبينا".
في بحثه الموسوم: (إبسن والبورجوازية الصغيرة) كتب لوناتشارسكي يقول:
".. إن سعادة النبيّ المعدم، السعادة الشخصية البحتة،السعادة المعزولة والمقطوعة عن العالم، هي في الآخر سعادة مستحيلة.
سولنيس هو الآن شيخ مسن غير قادر على إنجاز الفصل الأخير الذي يتطلبه منه الشباب، لأن إبتكار إنجيل جديد، من خلال هذه الفكرة المشوشة بل الهستيرية التي تعرضها هيلدا عليه، هو شيء فوق طاقته: شيء ما يشبه النبيذ هو بحاجة إلى وقت طويل ليصبح مّعتقاً.
لكن،أي نوع من المعتقدات هذا؟
إنها عظة التبجح البحت للسوبرمان النيتشوي.. شيء ما، معتم ومبهم جداً، يختمر في الرؤوس الشابة لمثقفي البورجوازية الصغيرة.". (3)
إن قدوم الشباب مجسداً بهيئة هذه الساحرة سيمنح سولنيس فرصة أخرى للأستمرار في الوجود، فحيويتها وجمالها وروحها الحرة، كله بمثابة نسمة هواء نقي تتسلل إلى فضاء حياته الخانق والمعتم.
هيلدا تدرك جيداً طبيعة أوجاعه وتبدو أنها على معرفة بكل شيء يمكن معرفته عنه، لذا فإن وجودها سيساعده في الكشف عن حقيقة وضعه. لقد قدمت إليه دون أمتعة سفر ودون محاباة أو تحامل، بل تبدو لأول وهلة كما لو أنها الوسيلة الوحيدة لخلاصه. إلا أن قوة حدسها تلك ستصبح في ذات الوقت سبباً في سقوطه، وذلك لتطرّف محاولتها في دفعه نحو معرفة حقيقته الشخصية. وعلى العكس من رؤية لوناتشارسكي لها، يرى سولنيس فيها إمرأة متأملة وباحثة بشكل يبعث السحر في نفسه، محرراً أياه من ثقل إحساسه الدائم بالذنب ومن أسر مخاوفه السرية ورغباته الحبيسة.
هيلدا تفتح جميع أبواب سجونه اليومية وتمنحه فسحة من الأمل والحرية، لدرجة أن السعي من أجل الكشف عن حقيقته الشخصية يتحول هنا حالاً من فعل تحرّر إلى علاقة حب مدمّرة. إلا أن المفارقة هنا هو أن هيلدا لا تشعر بالسعادة كاملة إلا حينما يهوي شيخها من الأعالي الشاهقة ليتهشم رأسه بالعمود الحجري ويموت في النهاية:
هيلدا: "لقد إستطاع أن يصل إلى القمة تماماً. آه، إنني أسمع ألحان قيثارات في الهواء".
إن إنتصارها هذا يتضمن نوعاً من الرؤية النبوئية.
والآن، من هي هيلدا؟
أهي شيطان فاوست جاء يغوي سولنيس ليقوده نحو هلاكه، أم أنها الملاك الذي جاءه ليحرّره من هذا الكابوس الخانق لوجوده مانحاً أياه نوعاً من الكمال حتى وإن كان في موته؟
الرؤية الأخراجية (4)
(الشيء الأول الذي تكتشفه وأنت تخرج مسرحية لأبسن هو "نفسك". بعدها لن يبق أمامك مسّوغ يجعلك تحيا مضَللاً إلى الآخر بذات الأكذوبة القديمة.
إن إبسن يجعلك تواجه الحقيقة بشجاعة وحزم، سواء كنت تقول تلك الحقيقة لنفسك أم للعالم.)
(المخرج البريطاني ستيفن آنوين)
لقد ظهر كبيرالبنائين سولنيس الذي لعبه الممثل (تيموثي وست) رجل مصاب بجنون العظمة وإنسان مستبد تتقاذفه الشكوك والهواجس من كل صوب. فهو على الرغم إحتلاله موقعاً كبيراً كمتعهد لبناء البيوت إلا أنه يحس بوجود قوى تهديدية ترصده من الخارج بغية تحطيمه، والتي يجد لها معادلاً واقعياً يرصده من الداخل مجسّد في الشخصيات المحيطة به. ففي صورة مساعده المعماري العجوز بروفك ( الممثل جوناثان نيوث) الذي كان يوماً صاحب هذه الشركة والآن هو أحد موظفيه، تؤجج هذه الصورة إحساسه الكبير بالذنب نتيجة سلوكه غير الأنساني معه.
وفي شخصية المصمم المعماري الشاب راجنر بروفك (الممثل بول سلاك) وخطيبته الشابة كاجا (الممثلة لورنا هاوارد) يرى القوى التهديدية لدوافعه اللبيدية المكبوتة، مضافاً إليها صورة الشباب الذي جاء ليقتحمه ويقصيه عن الصورة.
أما في زوجته ألين (الممثلة كارولاين جون) فيرى إثمه جلياً ومجسداً في عقمها بعد حريق المنزل وموت طفليه وكذلك في علاقته غير الشرعية بسكرتيرته الشابة كاجا. لذا يصبح وجود ألين هو بمثابة الموت بالنسبة إليه.
الممثلة كارولاين جون قدمت عرضاً مرهفاً ورقيقاً إلا أنه قاس، في تجسيدها لدور الزوجة هيلين. فقد ظهرت لنا أشبه بطائر وُلد ليحيا داخل قفص: إنها إمرأة جريحة تعاني حصاراً ذاتياً، مخلوق يفعل ما يمليه عليه ضميره، إنسانة نبيلة مفعمة بهواجس قدسية الواجب.
لقد جسدت كارولاين جون بشكل رقيق ورائع، إذلال المرأة المتوسطة العمر إزاء سلوك زوج متصابي يعبث وبحضورها مع فتاة شابة بسن إبنته.
السيدة سولنيس هي الضحية المثالية للطاقة التدميرية التي يحملها كبير البنّائين في أعماقه.
إن رموز إبسن تتجذر في مغزى مفردات شخصياته، والعرض المسرحي كان يشتغل مع تلك المفردات بدقة وحذر شديدين من خلال تضمينها إيحاءات طبيعية وسيكولوجية في آن. فالطبيب هيردال مثلاً يذكرّ سولنيس من أن الحريق الذي نشب في منزله كان سببه وجود شرخ في مدخنة المنزل نسي أن يصلحه!. هذه الجملة الموجزة والمرعبة أراد منها إبسن والعرض معاً أن تكون بمثابة مجازاً للشرخ القائم في رأس كبير البنائين سولنيس. من هنا يصبح طبيب العائلة هيردل عنصراً مهدداً بالنسبة لكبير البنائين، لأنه بمثابة المرآة التي تعكس عصابه وجنونه.
ينقلنا العرض بعد ذلك من فضاءه الواقعي إلى فضاء آخر حيث المكان يكاد يتماهى ومناخ السجن، تضاعف من كابوسيته ظلال القضبان المنفذة عبر تقنيات الأنارة لا الديكور، هناك حيث يقف سولنيس في الوسط مثل أسد عليل داخل قفص، فيما تملأ غيوم كثيفة سوداء خلفية المسرح، كما لو أنها معادل بصري لأفكاره ونقطة تحول من فضاء الواقع إلى حيز الأسطورة.
هذه الأنتقالة وظفها المخرج لتهيئة الجو لدخول شخصية هيلدا(الممثلة إيمّا كانيفي) هذا الطائر الوحشي القادم من أعماق الأسطورة جاء ليقتات على فريسته المشتهاة. كل شيء الآن مُعّد لتأمل ما يمور في مخيلة الشيخ المجنون.
هاهو العرض يعود بنا إلى عشر سنوات ماضية، إلى ليسانجر، تلك الضاحية الجبلية، يوم تسلق سولنيس إحدى كنائسها التي إنتهى من تشييدها تواً ووقف في قمة البرج ليعلق باقة ورد على ديك الريح، فيما كانت هيلدا إبنة الثالثة عشر ربيعاً تقف وسط الحشود تصّفق ملوّحة بشالها الأبيض نحو كبير البنائين.
في مونولوجها الغرائبي تذكرّه هيلدا بأنه قبلهّا عدة مرات ووعدها أن سيأتي ليأخذها لتكون أميرته وأنه سيمنحها مملكة في إحدى القلاع التي سيبنيها لها في الهواء.
يضيء لنا تعاقب أحداث العرض فيما بعد جانباً معتماً آخر في شخصية سولنيس، فنحن نعرف أنه وقبل أن يصبح بنـّاء بيوت، كان يبني الكنائس في ضاحيته الجبلية ليسانجر، إلا أن حريق منزله الذي تسبب في موت طفليه التوأمين وعقم زوجته، كان قد أفقده يقينه دافعاً أياه إلى التخلي عن بناء تلك الكنائس، والشروع بدلاً من ذلك في بناء بيوت للناس العاديين!.
بذرة الشك تلك ستزهر وتكبر في روحه ورأسه لتفقده إيمانه أخيراً حتى بالخالق نفسه.
في شكوك إبسن البالغة التعقيد هذه، تتحول كل الحقائق فجأة إلى سؤال فلسفي ذي نكهة نيتشوية هو: من نحن؟ وكيف يمكننا العثور على سعادتنا الشخصية المفقودة؟
كان تيموثي ويست يمتلك نرجسية وحشية وقاسية في تجسيده شخصية سولنيس فقد أظهره إنسان مزهو ومعتد بنفسه إلى أقصى الحدود، فهاهو يدخل خشبة المسرح متأنقاً في لباسه مرتدياً قبعة سوداء بحواف عريضة تشبه قبعات الفنانين البوهيميين تضفي على مظهره صفة اللا أبالي الجريء والمفعم بالحياة. إنه ضخم وأسّدي، لكنه أسدٌ ترهلت عضلاته وتعب من كثرة المطاردة.
هيلدا: يقول الناس أنك تخشى تسلق السقالات.
سولنيس: نعم أخشى ذلك.
هيلدا: هل تخشى من أن تسقط وتقتل نفسك؟
سولنيس: كلا، ليس هذا هو السبب.
هيلدا: ماذا إذاً؟
سولنيس: خشية من العقاب.
هيلدا: العقاب؟
(تهز رأسها)
لم أفهم.
سولنيس: إجلسي لأحدثك عن شيء ما يا هيلدا.
هيلدا: ( تجلس وتتطلع نحوه بترقب )
نعم قل لي.
سولنيس: (يرمي قبعته على الطاولة)
لقد بدأت مهنتي ّبناء كنائس كما تعرفين.
هيلدا: نعم أعرف ذلك.
سولنيس: حين كنت طفلاً كان والديّ قرويين ورعين، لذلك ظننت وقتها أن بناء الكنائس هو أفضل مهنة يمكن أن يختارها المرء.
هيلدا: نعم نعم.
سولنيس: يمكنني القول أنني شيدت تلك الكنائس الصغيرة المتواضعة بهذا الحنان والأخلاص والتفاني لأنني..
هيلدا: لأنك.. ماذا؟
سولنيس: لأنني ظننت أنه سيكون راضياً عني .
هيلدا: من.. من هو؟
سولنيس: الذي من أجله بنيتُ الكنائس.
هيلدا: وهل أنت واثق أنه لم يكن راضياً عنك؟
سولنيس: (بإزدراء)
راضياً عني؟ كيف يمكنك أن تتكلمي بمثل هذه الحماقة يا هيلدا؟ أيكون راضياً عني هذا الذي أطلق سراح الترول من سجنه وسمح له أن يدخل في روحي؟ أيكون راضياً عني هذا الذي أمرهم أن ينتظروني ليل نهار... هؤلاء... هؤلاء...
هيلدا: من؟ الشياطين؟
سولنيس: نعم. والآخرون.
لقد عرفت أخيراً أنه لم يكن راضياً عني.
(بتكتم)
إنه هو من أحرق بيتنا القديم، هل تفهمين؟
هيلدا: لـ... لماذا؟
سولنيس: لأنه أراد ان يمنحني فرصة أخرى لأصبح سيداً حقيقياً في مجال عملي ولأبني كنائس عظيمة من أجل عظمته ومجده.
لم أكن أدرك ما كان يريده مني في البدء، لكن فيما بعد فجأة أصبح كل شيء واضح لديّ.
هيلدا: متى؟
سولنيس: حين شيدّت برج الكنيسة هناك في ليسانجر.
هيلدا: أتذكرّ ذلك.
سولنيس: نعم، يومها كنت شاباً غراً وقد أنفقت الوقت الطويل أفكر حائراً. أخيراً أدركت بوضوح لماذا سمح للموت من أن يختطف أطفالي الصغار مني، ولماذا لم ينتشلهم من وسط ذلك الحريق.
وهكذا لم يكن وقتها ثمة شيء يقيدني أو يلزمني بشيء. لاشيء، لا الحب ولا السعادة، ولا أي شيء.
كان عليّ أن أكون كبير البّنائين لاغير. وقد أنفقت حياتي كلها أبني الكنائس من أجله.
(يضحك)
لكن لم تكن تلك هي الطريقة لحل المشكلة.
هيلدا: وماذا فعلت؟
سولنيس: لقد تأملت نفسي وإختبرتها أولاً.
هيلدا: وبعد ذلك؟
سولنيس: وبعدها فعلت المستحيل مثله.
هيلدا: المستحيل؟
سولنيس: لم أكن أحتمل الصعود إلى الأعالي من قبل، لكنني في ذلك اليوم فعلت.
هيلدا: (تقفز مبتهجة)
نعم، نعم فعلت!
سولنيس: لقد وقفت هناك في الأعالي الشاهقة. وقفت هناك على القمة تماماً ووضعت إكليل الورد على ديك الريح وقلت له:
"إسمعني جيداً. أنا كبير البنائين وأنت كبير البنائين. لذا أريد أن أصبح كبير بنائين حرّ. حرّ في مجالي مثلما أنت كبير بنائين حر في مجالك. أنا لا أريد بناء كنائس من أجلك مرة أخرى مطلقاً. سأبني منازل للناس ليعيشوا فيها."
هيلدا: (يبرق الضياء في عينيها)
هذه أغنية كنت قد سمعتها تحلق في الهواء.
سولنيس: لكنه إنتقم مني مؤخراً.
هيلدا: ماذا تعني؟
سولنيس: (يتطلع نحوها بوهن)
لم يعد بناء بيوت للناس يساوي شيئاً يا هيلدا.
هيلدا: كيف تقول ذلك؟
سولنيس: لأنني أدركت الآن أن الناس لايسكنون البيوت التي يعيشون فيها. إنهم غير سعداء فيها. البيت لم يعد يعني لي شيئاً حتى لو كنت أملك واحداً.
(يضحك بهدوء وفظاظة)
حين تنتفي الأهمية والمنافع والأعتبارات فإن كل ما نشيده لم يعد يعني شيئاً. أنا لم أخسر أي شيء، في نفس الوقت لم يضف لي ذلك أي شيء، لاشيء على الأطلاق.
هيلدا: هل هذا يعني أنك ستتوقف عن البناء تماماً؟
سولنيس: كلا،على العكس، الآن والآن فقط ينبغي أن أبدأ.
هيلدا: وماذا ستبني؟ ماذا؟ قل لي بسرعة!
سولنيس: ينبغي عليّ الآن أن أشيّد المكان الذي أظن أنني سأعثر على السعادة فيه.
هيلدا: (تتطلع نحوه)
تعني قلاعنا في الهواء، يا كبير البنائين.
سولنيس: نعم، قلاع معلقة في الهواء. (5)
أداء الممثل تيموثي ويست في هذا المشهد كان أدائاً عاصفاً ورائعاً فقد أظهر كبير البنائين شخصية مفعمة بإحساس يجمع الألم والأثم والقوة في آن، بل يمكن قراءة شخصيته كمبدع من الطراز البدائي هو بحاجة لأن يتحطم من أجل أن يبدع بالمفهوم النيتشوي.
القوة والضعف، الأيمان والألحاد، الشباب والشيخوخة، المستحيل والممكن، هذه هي الجبهات التي كان يقاتل فيها سولنيس.. وحيداً.
الآن.. ومرة أخرى، من هي هيلدا؟
أهي كائن واقعي أم مخلوق خرافي خرج من الأعماق المعتمة لمخيلة كبير البنائين؟
المخرج (ستيفن آنوين) يجيب على سؤال كهذا بمعالجة مجازية بصرية تتماهى وفضاء الحلم، لبعث مناخات كابوسية هدفها الغوص عميقاً صوب تلك المناطق السرية لروح مجنوننا كبير البنائين.
قدوم هيلدا الفاتنة والساحرة، البريئة والشكسة، يفجّر ينابيع روح الكهل ويحرره من سجونه، معيداً له من جديد ضياء أيام أمجاده وشهرته. إنها عودة الشيخ إلى صباه.
ها هو الحشد يتجمع ثانية ليشهد رؤية كبير البنائين وهو يتسلق السقالات حاملاً إكليلاً من الورد ليضعه على قمة برج بيته الجديد، ليعاد لنا ومن جديد المشهد السابق الذي جرى قبل عشر سنوات، ولكن على نحو مأساوي هذه المرة، وها هي هيلدا ثانية تقف وسط الحشد تصرخ إبتهاجاً ملوحّة بشالها الأسود نحوه.
سولنيس: عليك أن تصدقينني وتثقي بي دون ترّدد.
هيلدا: لقد صدقتك ووثقت بك لعشر سنين دون ترّدد يا كبير البنائين.
سولنيس: وعليك أن تواصلي ثقتك بي يا هيلدا.
هيلدا: دعني أراك إذاً واقفاً هناك في الأعالي شامخاً وطليقاً!
سولنيس: (بتثاقل)
أوه يا هيلدا. لا يستطيع المرء القيام بمثل هذه الأشياء كل يوم.
هيلدا: (بإحتداد)
لكنني أريد منك أن تفعل ذلك من أجلي هذه المرة! نعم، أريد أن تفعل ذلك الآن.
(بإلتماس)
مرة واحدة فقط. أرجوك، يا كبير البنائين! إفعل المستحيل ثانية.
سولنيس: (يتطلع عميقاً في عينيها)
آه هيلدا.إذا فعلت ذلك، فينبغي عليّ حينها أن أقف هناك في قمة البرج وأكلمه بنفس الطريقة التي كلمته بها في المرة السابقة.
هيلدا: (بإنفعال متعاظم)
وماذا ستقول له؟
سولنيس: سأقول له: "إسمعني أيها البنّاء الجليل! أحكم عليّ بما شئت. لكن ينبغي عليّ من الآن فصاعداً أن لا أبني إلا شيئاً واحداً فقط. نعم، وهو أجمل شيء في هذا الكون."
هيلدا: نعم، نعم، نعم!
سولنيس: "وسأبنيه سوية أنا وأميرتي التي أحب."
هيلدا: نعم، قل له ذلك! قل له ذلك!
سولنيس: نعم، سأقول له ذلك. وسأقول له أيضاً: "سأنزل الأن لأضم أميرتي بين ذراعيّ وأقبّلها."
هيلدا: عدة مرات! عدة مرات! قل له ذلك!
سولنيس: "مرات ومرات" سأقول له.
هيلدا: وبعدها...؟
سولنيس: بعدها سألوّح لك بقبعتي... وأنزل إلى الأرض لأفعل ما قلته له.
هيلدا: (تنشر ذراعيها في الهواء)
إذاً سأراك ثانية مثلما كنتَ من قبل، عندما سمعتُ تلك الأغنية محلقة في الهواء!
سولنيس: (يتطلع نحوها محني الرأس)
نعم، ينبغي أن تنال الأميرة قلعتها.
هيلدا: (تصّفق بإبتهاج)
أوه يا بّنائي الكبير! نعم، نعم، قلعتي الجميلة! قلعتنا في الهواء!
(يتجمع حشد كبير من الناس وسط الشارع. تصدح فجأة موسيقى الآت نحاسية قادمة من وراء البيوت الجديدة. حشد من النساء يقفن على شرفات المنازل. السيدة سولنس والطبيب هيردال يقفان وسط الناس. راجنر بروفوك يأتي عبر الحديقة. هيلدا تقف أسفل خشبة المسرح قرب الدرابزين. هاهو سولنيس يقف على قمة البناء حاملاً بيديه إكليلاً من الورد ليضعه على برج البناء)
السيدة سولنيس: هل سيعزفون الموسيقى أيضاً؟
هيلدا: هاهو يقف في قمة السقالات! إنه يقف على القمة تماماً!
أخيراً! أخيراً! ها أنذا أراه شامخاً وحراً مرة أخرى.
هكذا كنت أراه طوال تلك السنوات العشر. آه، أنظروا إليه كيف يقف بثقة وقوة! أنظروا إليه الآن. إنه سيضع إكليل الورد فوق البرج!
رانجر: مستحيل! أنا لا أصدق ذلك!
هيلدا: نعم، نعم. هذا هو ما يفعله الآن. المستحيل!
هل تستطيع رؤية أحد ما قربه؟
رانجر: كلا، إنه وحده.
هيلدا: نعم، هناك أحد ما يتتناقش معه.
رانجر: أنت مخطئة. ليس هناك من أحد.
هيلدا: وتلك الأغاني، هل هي الأخرى لاتسمعها؟
رانجر: أية أغاني؟ إنه صوت الريح وهي تحرك قمم الأشجار.
هيلدا: إنني أسمع أغنية. أغنية رائعة.
(تصرخ بنشوة مبهجة)
أنظر، أنظر! إنه يلوّح لنا بقبعته! أوه، لوحّ، لوّح له بيديك.
نعم، نعم. فعلها أخيراً! نعم!
(تنزع شالها وتلوّح له به)
مرحى! مرحى! مرحى بكبير البنائين!
رانجر: توقفي عن ذلك! أرجوك أن تتوقفي عن الصراخ!
السيدة سولنيس: يا إلهي!
النساء: إنه سيسقط! إنه سيسقط!
هيلدا: (مازالت تنظر إلى الأعلى كما لو أنها إستحالت إلى قطعة من الصخر)
أنت بنـّائي الكبير!
( يرتجف ) آه، إنه يسقط! إنه يسقط!
الجميع: لقد سقط! لقد سقط! لقد سقط على العمود الصخري! يا إلهي.. لقد تهشم جسده!.
أصوات: مات! مات! لقد مات كبير البنائين!
(صمت)
هيلدا: (تلتفت نحو راجنر وتهمس له)
إنتهى الأمر! لن أراه يقف في الأعالي ثانية.
راجنر: هذا شيء فظيع. إنه شيخ.. شيخ كبير.
هيلدا: (بهدوء وهي تشعر بالأنتصار)
لكنه إستطاع أن يصل إلى القمة! نعم. آه، إنني أسمع سمعتُ صوت قيثارات في الهواء!
(تلوح بشالها إلى الأعلى وتصرخ بنشوة)
مرحى، مرحى بك يا بّنائي العظيم.! (6)
هيلدا وعلى ضوء تجسيد الممثلة (إيما كانيفي) تبدو صورة لأمرأة تواقة متلهفة قاسية وبريئة لكنها حكيمة. إنها مثيرة للأعجاب بشكل مميز، لكنها مخيفة ومخادعة، جذابة ولكن دون إغواء جنسي.
بهذا يمكن القول أنها تستحق الأنتصار في هذه المعركة، لأنك إذا أردت الأنتصار على نموذج كهذا فعليك أن تموت، لذا يمكن القول أن قدومها في هذه الحال هو بمثابة الجزء المتمم لمصير سولنيس المحكوم أصلاً بالموت. من هنا تصبح هيلدا رسولاً لقوى الموت والهلاك، وليس ملاك إنقاذ وخلاص
.
كتب أناتولي لوناتشارسكي في هذا السياق قائلاً:
"لقد بدأ سولنيس مهنته بنـّاء كنائس بأبراج شاهقة، وما أراده إبسن بالضبط هو أن يخلق ديناً جديداً أو مجتمعاً جديداً ليقدمه للعالم، لكن ظهر فيما بعد أن ذلك شيء هو خارج قواه.
لقد تحول سولنيس إلى بنـّاء بيوت للناس بدل الكنائس: بيوت صغيرة جميلة مريحة ومتألقة، هناك حيث يحيا الأب والأم والأبناء في أمن وإكتفاء مستمتعين بالحياة، سعداء في أن يكونوا جزءاً من الكل، بالمعنى العام والخاص، لكنه أخفق مرة ثانية في التحرر من الوهم.
إنه يريد أن يزين بيوته بالألوهية هذه المرة، لكن من الصعب عليه جداً أن يحصل على فرصة كهذه.
هيلدا تهزأ تماما ببيوت عائلية جميلة كهذه وتزدريها. وسولنيس نفسه يدرك جيداً أنه يبدد وقته على هذه توافه مضحكة كهذه: من الأفضل ترك الآباء والأمهات لرغباتهم الخاصة.
لقد فقد إبسن إيمانه بفعالية نقد العائلة فراح ليوجه إنتباهه هذه المرة نحو نفسه، ليبني سعادته الدائمة، وليعيد بناء حياته كلية.
ذلك هو الأنجيل الجديد الذي أراد سولنيس و إبسن أن يعلناه إلى الله. فكلاهما كانا يتوقان إلى سعادتهما الشخصية التي فقداها في عدوهما اللاهث خلف أوهامهما الفنية.
سولنيس يريد أن يحيا مع هيلدا الجميلة والشابة، ليس كرجل وإمرأة بالمعنى الدنيوي. كلا. إن قلعتهما المشيدة على أرض عالية سيكون فيها برج عال. وهذه يعني أن العيش مع هيلدا المبهجة للنفس، ستقود ذواتنا المنعزلة والمتوحدة نحو حياة فانتازية بحتة، هي في واقع الأمر، ليست في صالح أحد أو شيء، بل ببساطة من أجل العيش، مجرد العيش وبلوغ النجاح والحلم... وربما.. من أجل الحب.
ومع ذلك فإن هيلدا الشابة تدرك أن ثمة شيئاً ما متآكل.. خرف، فيما يتعلق بهذه الفكرة".(7)
(خاتمة)
على الرغم من غموض وسوداوية فضاءات مسرحية "كبير البنائين" إلا أنها في واقع الأمر تطرح مأزقاً حاداً وعميقاً يكاد يتوجه نحو القلب الأنساني مباشرة.
هل ينبغي علينا القيام بفعل هدفه الأنا وغطرسة الذات، مهما بلغت تكلفة ذلك الفعل على الآخرين، أم ينبغي علينا أن نكرس أنفسنا من أجل عائلاتنا وأصدقائنا؟
هل يتوجب علينا الوقوف وحيدين في هذا العالم من أجل تحقيق أحلامنا، أم إن علينا العمل مع الآخرين من أجل صنع عالم أفضل؟
وهل ينبغي أن نشيّد قلاعاً مجازية في السماء أم علينا أن نبني بيوتاً للناس العاديين؟
كيف يمكننا أن نحيا؟
وأخيراً، ما قيمة قول الحقيقة؟
"كبير البنائين" هي واحدة من أكثر مسرحيات هنريك إبسن غرابة وتعقيداً ومراوغة على الأطلاق.
***
هوامش:
(1) ترول " Troll" حسب الفولكلور الأسكندنافي، كائن خرافي متوحش على هيئة قزم خارق للطبيعة يعيش في الكهوف والحفر والأنفاق، وظيفته رصد روح الأنسان، ومن ثم التسلل إليها بغية نخرها وتقويضها. إنه كائن ذو روح نزوية تدميرية ما تلبث أن تنهش روح حاملها شيئاً فشيئاً.
The Chambers Dictionary ) (
(2)(5) (6) Dramas Classics: The Master Builder,
London, N.Hern Books, translated and with an introduction by Kenneth
Mcleish.1997 ترجمة (ع.ك)
(3) (7)
"إبسن والبرجوازية الصغيرة" مؤلفات المفكر والكاتب والناقد الروسي أناتولي لوناتشارسكي. سان بطرسبورغ 1907. الجزء الخامس.موسكو 1965. ترجمة عن الروسية (ع.ك)
(4)
الترجمة عن النرويجية: كينيث ميكليش
المخرج : ستيفن آنوين
الممثلون:
هيلدا: إيمّا كانيفي
هالفارد سولنيس: تيموثي ويست
ألين سولنيس: كارولاين جون
نات برفوك: جوناثان نيوث
رانجر بروفوك: بول سلاك
كاجا فوسلي: لورنا هوارد
د. هيردال: مايكل كورنين
الأضاءة: بن أورميرود
الموسيقى والصوت: كورن باكريدج
العرض على قاعة مسرح ( نيو أند ) اللندني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علي كامل
لندن