عندما زار هيرودوتُس (425 – 484 ق.م) بلاد مصر وصفها بأنها أرض المتناقضات The Land of Paradox وبعد نحو واحد وعشرين قرنا غزاها نابليون في حملته المشهورة عسكريا وثقافيا ليخلص في كتابه الموسوعي وصف مصر La Description de L’Egypt الى النتيجة ذاتها.. ولا أدري ماذا سيقول "أبو التاريخ" لو قدر له أن يزور الهند! ففي هذا البلد يكون التناقض شاملا اجتماعيا أكثر منه طبقيا، فالمجتمع الهندي منقسم الى فئات اجتماعية منذ القدم تشكل سلّما في أدناه المنبوذون وفي أعلاه البراهميون، وقد عزز هذا التقسيم الغزاة الآريون وأدخلوه ضمن العقيدة الهندوسية... وكم صدق ماركس عندما وصف تاريخ الشرق بأنه تاريخ أديان وينطبق هذا القول على الهند أكثر من غيرها،، وحتى بعد دخول المستعمر الإنكليزي الهند فقد نشأت مشاريع ارتكازية مثل السكك والموانئ والنسيج والورق والدخان ولاحقا السيارات والسينما... ما سمح بنشؤ طبقة عاملة لكنها بقيت هجينة خاضعة للعلاقات التقليدية السائدة في الهند وذات عقلية ريفية ومعتقدات دينية وقد ساعد تاسيس الحزب الشيوعي الهندي عام 1917م الى زج الكادحين في معمعان النضال...لكن علاقات الإنتاج بقيت متخلفة بشكل عام ومتعايشه مع أنماط بدائية في الإنتاج وهذه سمة النمط الآسيوي للبلدان المستعمَرة والتابعة رغم التقدم وارتفاع وتيرة النمو المتسارعة في العقد الأخير فهي (الهند) تلي جارَها اللدودَ الصين في النمو الاقتصادي..
ومشاهد التخلف تلمسها أنى ذهبت، هناك مشهد العامل الذي يقوم بسحب عربة بها مقعد يتسع لشخص أو شخصين يجرها العامل جرا –بدل الحيوان-، هناك منظر المتسولين، وهناك المتسكعون، وأطفال الشوارع (لسلمان رشدي رواية اسمها أطفال منتصف الليل) وهناك بائعات الهوى، وهناك ظاهرة الاغتصاب التي تسجل أعلى معدل في العالم حيث تسجل بمعدل حالة كل عشرين دقيقة... وفي الهند يكون معدل الانتحار مرتفعا جدا وتحاول الحكومة ألا تعطي أرقاما حقيقية، والبطالة هي الأخرى ذات معدل عال.. ولا يوجد قانون ضمان اجتماعي حقيقي والخدمات الصحية لعموم الشعب مازالت متدنية على خلاف المستشفيات الخاصة..
قضية المرأة هي أخطر قضية تواجهها الهند، فمن عادات الهنود أن يتحمل أهل الزوجة القسط الأوفر من تكاليف الزواج، مما يجعل ولادة البنت عبئا ثقيلا تضطر العوائل مستفيدة من التقدم الطبي أن تسقط الجنين المؤنث عند الحمل مما سبب اختلالا في التوازن بين الذكور والإناث...
لا تتفاجأ إن تقدم منك أحدهم سائلا : ماذا في أذنك سيدي، اسمح لي بازالته ثم يريك على اصبَعه شمعا مقرفا ليعرض عليك تنظيف أذنك فاتحا لك كيسا به قضبان معدنية دقيقة!! وسترى غير بعيد عنه طبيب أسنان أَجلَس أحد مرضاه على دكة تحت شجرة وراح يعالجه، وترى أدوات الجراحة معروضة في الهواء الطلق، مع كوم من الأسنان البشرية المقلوعة وبجانبة رجل يمتلك سماعة وجهاز قياس الضغط،، وفي وسطهم يجلس صيدلي يعرض أدويته الشعبية وغير بعيد عنهم حلاق وبجنب الحلاق بار حيث وضعت قنينة وكأس يشرب منها المارة على السريع مع صينية من معجنات مقلية، وكيس فيه حمص مجوهر وفي الركن ربطت بقرة قرب عنبار من العلف، جلست سيدة تبيع العلف لمن يُطعِم البقرة، والكل فرح مستبشر متهيئ لحديث ودي قصير معك..
***
من يزُر بومباي يُدهَشْ لمعمارها وحسن تنظيمها فهي العاصمة المالية، وأجمل مافيها الطراز الفكتوري وخاصة في مبنى السكك الحديد، والبريد المركزي في وسط المدينة، ويعد فندق تاج محل في منطقة كولابا جوهرة فنية رائعة على ساحل بحر العرب وبالقرب منه بوابة بومبي الشهيرة...وضريح الحاج علي هو أحد معالمها الأكثر زيارة، حيث يقع الضريح في البحر العربي غرب المدينة على الزائر أن يتبع ممرا طويلا 2كم مشيا ليصل الى الضريح المزدحم من قبل الهندوس الذين أتوا من كل فج هندي عميق..وكذلك السائحون الغربيون، وعلى جانبي الطريق تجد الشحاذين والباعة ببضائعهم الإسلامية قلنسوات (عرقجينات) وسبح ونماذج للضريح مع اسم الحاج علي، وشموع وبخور ..الخ. فما هي حكاية الحاج علي؟ اختلفت الروايات ولكن الأكثر شيوعا : الحاج علي تاجر هندي تقي ذهب في زيارة الى مكة لفريضة الحج وعند رجوعه غرِق المركب، وسمع الناس حتى رأوا عمامة طافية تتبعها جثة الحاج علي دون غيره فُبنيَ الضريحُ والمسجد في المكان ذاته وشيد في بداية القرن التاسع عشر من تبرعات الناس، وأصبح الحاج علي أشهرَ من نار على علم لكراماته، وكلما زرته تجد العمران مستمرا .
أتريد أن تضحكَ وتُزيحَ عن صدرك الزبَدا؟
عليك بملتقى الضحك قرب بوابة بومباي عند الحديقة وفي الساعة السابعة صباحا، هنك مهرجان الضحاكين..عام 1995 أماط اللثام الدكتور مادان كاتريا عن اكتشاف خطير صرح به وهو أن الضحك بصوت عال حتى وإن بدا متكلفا هو مفيد فوائد لا تحصى فهو مقو للأعصاب مريح للنفس وللرئتين ومزيل للاكتئاب...فشُكل نادٍ للضحك وسارع للتسجيل به مائة شخص من الجنسين خلال ساعة وتزايد العدد وانتشرت الطريقة في شتى البلدان وأصبحت لها شعبية عالمية واعتبرت رياضة روحية..وموقعهم:www.laughteryoga.org
والمستوى الثقافي متفاوت بين ولاية وأخرى، إذ تعتبر كلكتا عاصمة البنغال الغربي مدينة الثقافة وذلك لسيطرة الشيوعيين عليها وهي مدينة الشاعر طاغور، وكذلك الحال في كيرالا المتقدمة صحيا وثقافيا كشقيقتها كلكتا والمشهورة بالمسارح الشعبية..والمهرجانات والندوات الثقافية تجد لها صدىً عند الناس، فقد حضرت عدة مهرجانات، وأهمها كان الملتقى الغنائي للغناء الروحاني والصوفي في حيدرآباد وقد ساهم مغنون من مختلف الأديان والأثنيات ممثلين عموم شبه القارة الهندية، وكان بحق مهرجانا ثقافيا غنائيا وقد قدم فيه أساتذة واستاذات محاضرات قيمة وقد ذكرت بغداد والبصرة وأُتيَ على ذكر الحسن البصري ورابعة العدوية والحلاج، وأكدوا على حقيقة التأثير المتبادل للهند والعرب على مر العصور...
***
وصلنا مدينة لكنو Lucknowعاصمة اقليم اتار براديش واستقبلنا في المحطة مندوب من السياحة بملابس رسمية، وقد أفادنا الرجل وعرض علينا فندقا سياحيا حكوميا، حللنا في فندق من سلسلة فنادق معروفة يقع في شارع غوتما بوذا، الشارع مزدحم كباقي شوارع هذه المدينة التأريخية العريقة، فهي عاصمة النوابين الشيعة، العائلة الحاكمة الأرستقراطية بكل معنى الكلمة، وقد أعقبت حكم المغول، فهم مثقفون ومتفتحون وقد وُلِعوا بالموسيقى، ومازالت دار الاوبرا في بارك وسط المدينة شاهدة على ذلك..كما يمكن زيارة قصورهم برسوم عالية أعلى من رسم دخول تاج محل، أشهرها برا امام برا، وحسين أباد امام بارا والقصر النوابي ..بعد حكم قرن ونيف اصطدمت العائلة بالمحتل الإنكليزي ونفاهم الى كلكتا بينما توجه قسم آخر الى بغداد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. اشتهرت هذه المدينة بجامعاتها ومعاهدها الدراسية، وللغة العربية حضور قوي في لكنو.
من لكنو علينا أن نغادرها الى الحدود النيبالية حيث تقع مدينة مشتركة "سُنولي"، عبرنا الحدود على دراجة ثلاثية العجلات (سمها ثلاثية الدفع!) تمت الإجراءات بسرعة وقد حللنا في فندق جيد مكيف نظيف..لكي ننطلق صباح اليوم
الثاني الى حدائق لمبيني Lumbini Gardens التي تبعد حوالي 36كم من الحدود..لكننا قطعناها بساعة ونصف الساعة حيث كانت السيارة تمشي الهوينى بخطى السلحفاة والناس في صعود ونزول! الحدائق هي نموذج حقيقي للحدائق القديمة أشجار عتيقة وأعشاب وزهور، وأطلال بيت هرم ينبيء عن مجد تليد، أحيط بسياج وسقف لحمايته يمنع التصوير في داخلة، هناك عدد كبير من السائحين في معظمهم من الآسيويين ، أكثرهم كوريون ويابانيون وصينيون، وأعداد هائلة من الهنود وقفنا أمام الغرفة التي سقط فيها رأس بوذا، حيث ولدته أمه قبل أن تصل الى قصر أهلها فاتاها المخاض..مازال العمود الرخامي جديدا يتحدى الزمن، ذاك الذي شيده الامبراطور آشوكا العظيمAshoka Maurya (232-303 ق.م) الذي هو أول من تبنى العقيدة البوذية مذهبا رسميا، والناس يعلقون به اقفالا ويرمون بنقود في البركة القريبة. وآشوك هو الذي نشر البوذية حيث أمتدت أمبراطوريته الى تخوم العراق، وما تماثيل بوذا في باميان التي قصفها المتشددون "طالبان" الا شاهدا على عظمته. منظر الحدائق ساحر، وفي ساحة خارجية جلست النساء الهنديات يخبزن جباتي (خبز بلا خميرة يشوى على الصاج) ويطبخن الطعام الكل يلوح لنا بالمشاركة بالطعام، أناس رغم فقرهم كرماء طيبون. شيدت معابد عديدة ودور اقامة ومعاهد بوذية في المنطقة..هناك فنادق وبعض المطاعم شيدت حديثا في القرية المجاورة. كانت المشكلة هي الطعام، فلا يُطمأن الى طعام المطاعم، حينما جلسنا في أول مطعم نيبالي وقد أخذ منا الجوع مأخذه مُمَنين أنفسنا بعشاء جديد، جلسنا اخذ النادل قطعة قماش لا يُعرف لونها من الأرض فهي مَسّاحة أرض ومساحة منضدة أيضا، شطفها وعصرها ونزل منها ماء أسود وراح يمسح المنضدة، ثم فتح الثلاجة لجلب السوائل فتقافزت الصراصير، وهنا - وصلت حدها- فغادرنا المطعم متبرمين! وقد استفدنا مما جلبنا من معلبات وفواكه طازجة وجافة. وكنت في لكنو قد حنثت اليمين، ويميني هو مقاطعة المطاعم الأمريكية منذ عقود وكذلك البضائع الإسرائيلية، أما لماذ حنثت، فهنا يعِفُّ القلم عن وصف الذي رأيت في أرقى مطعمين تراثيين متجاورين في شارع المهاتما غاندي! رجعنا الى الفندق وسنرحل الى بوكارا غدا..