في شأن "الكتابة تحت الطلب"
" لم اكتب - يوما - طلبا للمال فحسب
. وإنما لألتزام أخذت نفسي به "
( دستويفسكي )
ما هو التزام دستويفسكي ، هذا ؟
بالنسبة لكاتب "خطابات" الرئيس الأمريكي جرج بوش ، أو حتى حيال صحافي محترف يكتب "افتتاحية" جريدة محافظة أو راديكالية ، فإن الموضوع يتعلق بوظيفة .
يقول الأول : "أنا موظف لدى الرئيس" .
ويقول الثاني : "انا أؤدي عملا هو الكتابة مقابل مال .لا تنسى انني موظف!" .
اما محمد حسنين هيكل ، الذي كان على صداقة وطيدة مع الرئيس جمال عبد الناصر ، فإنه ذكر ذات يوم ، إنه قال للرئيس الراحل انه لا يكتب إلا ما يعتقده . وكان يردّ على عبدالناصر ، الذي كان يوجهه بكتابة "مشروع خطاب" في مناسبة وطنية ، كتب الرئيس خطوطه العامة .
هذه قناعة صحافي محترف ، على غير ما هو سائد في الوسط الصحافي العربي " المحترف"، حيث تسودعبارة " هذه سياسة الجريدة ؟ " لتشكل مدخلاً إلى تواطؤات روحية واخلاقية.
ذات يوم ،في سنة 1970، طلب اليً صحافي صديق ، داب على الاعلان انه يساري ، أن أكتب "افتتاحية" مجلة عراقية ،في ذكرى انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 ، الذي أطاح بالجمهورية العراقية الأولى .كنا موظفين في تلك المجلة ، هو بمنصب "قيادي" بتزكية من "قيادي بعثي"، وانا محرر في مقتبل عملي الصحافي .
اعتذرت في باديء الامر لهذا الصديق الذي كان من بين صلاحيات منصبه ان يطلب مني ذلك .وحين اصرعلى طلبه ،اعتذرت للمرة الثانية .ولكن امام وعيده بعرض موقفي هذا على ( رئيس التحرير) ، قررت ان اسير الى اخر الشوط ، وقبلت بعرض الامر على رئيس التحرير ( وكان بعثياً ) لكي يحكم بيننا . وقبل صديقي بما اصرّ هو عليه.
في مكتب رئيس التحرير ( البعثي ) قلت بوضوح ، بعدما سألني : "لماذا لم تكتب "الافتتاحية" كما طلب منك الأستاذ ( فلان الفلاني ) ، وهي لا تحمل توقيعك ؟": ... "انني تعودت أن اكتب قناعتي . فلم يمض على خروجي من السجن سوى عدد من الاشهر ، وانا احد ضحايا ذلك الانقلاب " .
عندها قال رئيس التحرير ( البعثي ) ان الحق الى جانبي . وكتب هو "افتتاحية" ذلك العدد من المجلة ، لكي لا يحرج صديقي ذاك ، والذي كان على استعداد لأن يكتب تلك "الافتتاحية" ، تطابقاً مع الرأي ( المهني ) السائد : " هذه سياسة الجريدة ".
وحين كنت اعمل "سكرتير تحرير" لمجلة ( الف باء ) العراقية ،لغاية سنة 1979 ، عرض عليّ "رئيس التحرير" في حينه ، وهو لا يزال على قيد الحياة ، ان اوقع على "مستند صرف"بقيمة 25 دينار عراقي ، لصالح احد"الشعراء" العراقيين الذين يعملون في "القسم الثقافي في تلك المجلة ،مكافأة له على مقال "خارج" صفحات "القسم الثقافي" ، كله ((مديح في مديح للاب الرئيس القائد احمد حسن البكر، وحزب البعث العربي الاشتراكي،وثورة السابع عشرـ الثلاثين من تموز المجيدة)). وكان الوقت في حينه ، هو وقت ما بقي من انقاض"الجبهة الوطنية " المعروفة الاطراف!
وكانت المفاجأة انني رايت ذلك "الشاعر" ، الذي اخذ يشيع "معارضته" لحكم حزب البعث ، عندما كان يعيش في لندن مع بداية سنة 1980 ، وهو الان(( ليبرالي للقشر))على حدّ تعبير معروف لصديقنا الصحافي البصري نصيّف الحجاج المحامي ... يهرع ومعه "مستند الصرف"الى غرفة "محاسب" المجلة ، جذلاً كأنه في لحظة التوقيع على " البيان الشعري " المعروف .
والشهود احياء يرزقون ، وفي البال مواقف غير هذا. فقل لي مَنْ انت ؟ ومَنْ هم اهلك ... يا ايها "الزمّار المستجد"؟
وربما يقول احد ذوي النوايا الطيبة ان ما اعلنه دستويفسكي ، هو على غير ما اذهب اليه ، فاقول : لا . لأن الموضوع لا يتعلق بكتابة تطوعية ، وانما هو من أجل المال . فالموظف في البيت الأبيض يتسلم راتباً شهرياً أو مكافاة سنوية مقطوعة ، جراية لعمله هذا . والصحافي او الكاتب في الجريدة المعنية ، يكتب بناءً على اتفاق مكتوب مع الجريدة.
اذن ، المال هو المقصود ، أو ربّاط الفرس ، كما نردد في مأثوراتنا العربية .
وهو ما كان يعنيه الروائي الروسي دستويفسكي . لأنه كان يتعاقد مع صحيفة ما على كتابة رواية تنشر حصريا في تلك الصحيفة ، مقابل مبلغ معين من المال.
وكان المال أحد اهتمامات دستويقسكي،عندما كان في المنفى، وفي عالم الحرية ايضا،حيث اختلطت حالته الكحولية بالمقامرة بالكتابة، وهذا ما يتضح من رسائله إلى أخيه "أندريه" ، التي نشرها ناشرون روس والمان وفرنسيون .وحظيت باهتمام خاص من الكاتب الفرنسي أندريه جيد ، الذي سلط عليها الضوء في مجلد ضخم بعنوان : "دستويفسكي"، ترجمه الياس حنا الياس الى العربية ، ونشرته ووزعته دار " عويدات " اللبنانية سنة 1988 .
كتب دستويفسكي ، وهو في الرابعة والعشرين من عمره ،" مهما يكن من أمر ، فقد أليت على نفسي أن اصمد بثبات ، وألاّ أسخّر قلمي لأحد ولو انحدرتُ إلى أقصى حدود الحرمان . الكتابة " تحت الطلب " تقتل ، تفقد الانسان كل شيء . اريد لكل أثر ان يأتي جيداً من ذاته ".
وقد التزم دستويفسكي بهذا الموقف الى يوم وفاته ، كما يؤكد أندريه جيد .
وهو ما يلتزم به عدد من الكتاب العرب الذين يدركون ان الاخلاص لمشروعهم الاخلاقي والثقافي ، أحد اركانه ألاّ يذهبوا الى ثقافة "هذه سياسة الجريدة " .
وعندما يتعين على كاتب ما ، او شاعر ما ، ان يختار ما بين حريته الضميرية ، وبين ثقافة "هذه سياسة الجريدة " ، عليه ان يختار ضميره ، كما اكد دستويفسكي ، وهيكل ، وغيرهما ، ويستقيل من هذا المشهد المهين .
ونسجاً على هذا المنوال ، عرف عمود " ذاكرة المستقبل " طريقه الى القراء الكرام ، كما كان في الجريدة الورقية طيلة السنوات الثلاثين الماضية . او كما هو الان بين ايديهم ، بعدما رفض ثقافة"هذه سياسةالجريدة " .
مرحى ، فيدور دستويفسكي !
وشكرا لك ، اندريه جيد !
جمعة اللامي
www.juma-allami.com