وقد كان أخزى ابتكار في تاريخ الفن وأشدّه طيشا وقبحا، هو نهج تلك الفئة من فناني الحداثة العبثية الذين وصلت اللاأبالية وقلّة الذوق بهم بعرضهم لجثث الحيوانات؛ بعضها كامل، وآخر مقطّع ومشوّه: جثة ميت، نصف خنزير، رأس بقرة، سمكة مقطوعة الرأس، هرم من الفئران... وغير ذلك. كان هذا بعضا مما شاهدته في أحد أكبر المعارض التي أقيمت في لندن لفنون الحداثة، والذي دام شهورا لايؤمه إلا القليل، ربما للتيقُّن بأم عينيه مما يرى.
ومن فناني هذه الحداثة، كذلك، من يجمع مواد من الطرق والمزابل مثل: زجاج مهشّم، وأحجار، وأخشاب وأغصان وأعشاب، ومسامير ومطارق، وعُلب مأكولات ومشروبات وأدوية، وأحذية وجوارب ونِعِل.... وغير ذلك من أصناف على شاكلة " ساف الطهارة "، أجلّكم الله: ( ساف الطهارة، تعبير عراقي للإشارة الى حجارة بناء المرحاض في البيوت التقليدية القديمة ). وماذا عن نماذج ملونة من " الكوندوم " مرميَّة على أرضية المعرض كبقايا وبراهين " دامغة " لمن عاشرها في فراش ؟ .... ومنهم من يقذف بطاسة من الألوان على قماشة اللوحة ويعرض نتائج " قذفه " كلوحة حداثة عبثية... فمن لايستحي يصنع مايشاء. ولا شك فإن قطرة الحياء قد جفّفَها مجد زائف، وإعلام كاذب، وناقد منافق، وجوائز مُساوَمة رخيصة، وتكريم مزوّر....ودولارات .
والغريب حد العار والشناعة، ان فنان الحداثة العبثية العربي والمسلم ينقل ويحاكي ويضيف لهذا الانحطاط المتطرف لاهثا وراء سقط مدارس الحداثة الغربية لتقليدها. فيهجر هوية ثقافته الراقية، وصورتها الفنية المُبْهِرة والمُدهشة؛ والتراكم الثقافي - الفني- الإسلامي الذي أصبح جزء من تكوين الإنسان وتقاليد المجتمع الذي يتمتع بهذا التراث ويحرسه في ذاته مئات السنين.
لكن فنان الحداثة العبثية يهمل كل هذه الكنوز، ويجعلها نسيا منسيا، ليتقمص شخصية الغرب باجترار نمط حداثته المغايرة في تطورها. بينما كان تأثُّر فناني الغرب، مثل ماتيس وبول كلي وبيكاسو... بفنون المسلمين والأفارقة انتقائيا بما يتلائم مع تطور الفنون الغربية الحديثة في الانفتاح على ثقافات وفنون الآخرين ومحاولات تقديم جماليات جديدة تتخذ من الإختزال والتبسيط والتسطيح والتجريد والرمزية إغناء لمحاكاة الطبيعة، مما وسّع أفق ثقافة الأوربيين.
ومن أسباب النزق والطيش والاستسهال الذي يمارسه فنانوا الحداثة العبثية هو تأثرهم بفكرة الفنان الفرنسي " مارسيل دي شان " 1887 - 1968Marcel Duchamp بعرض " الأعمال الجاهزة ". حيث قدّم لأحد المعارض " مَبْوَلةَ " ( نافورة دي شان )، التي اقتناها جاهزة من محل لبيع المواد الصحية، والتي لم تستغرق منه عملا فنيا حتى ولا ثانية واحدة. وقد سُؤل دي شان ذات مرّة: كم من الناس يحبون الفن الحديث ؟ فأجاب: " ربما عشرة في نيويورك، وواحد أو إثنين في نيوجرسي ".
لكنه، وهو يتخذ من الفن لهوا وشعوذة، نسي مجموع التعبير الحضاري الإنساني من خلال الآثار الفنية التي تركتها ثقافات قبائل وشعوب وأمم العالم . و نسي أن موضة " الأعمال الجاهزة " كفرع أساسي من فروع الحداثة العبثية خالية تماما من أصالة و صبر الفنان الصيني والهندي والمسلم وغيرهم ممن قدّم للحضارة روائع خالدة من الفن الجميل، الذي وهب الانسان أبعادا سحرية من الادهاش والابهار والجاذبية والخيال؛ وليس الصور السياحية العابرة، ولا فوضى المسوخ الميتة لمنتجات فنون الحداثة العبثية. كما نسي كذلك أن يذكر بأن ليوناردو دافنتشي عاش ست سنوات وهو يجوِّد ويحسِّنُ ويطوِّر لوحته الجيوكندا.
إضافة الى ان الغربيين أنفسهم لايتذوقون، بل يستهجنون فنون الحداثة العبثية، رغم ان التربية الفنية والجمالية عندهم أعلى بكثير من الواقع المتخلف في هذا المجال وغيره في المستعمرات كبلدان العرب والمسلمين. ومن ذلك كتب
Howard Jacobson, We defend freedom of artistic expression, but forget to add the art, The Independent, 15/01/2005
وتتغاير هذه الظاهرة الفاسدة الى أخرى عندما يطلب فنان الحداثة العبثية من حِرَفِيّ ما ليصنع له موضوعا ما بمواد ما. ثم يُعْرَض المنتوج بإسم " الفنان "، فيُسوَّق ويُباع ويُحقِّق الأموال والأرباح. وبهذا الصدد يتسائل مؤرخ الفن والناقدJames Hall, Art not made by artists, when artists subcontract technicians to make the works they design, who's the artist? The Art Newspaper, No. 227, September 2011
وعن إهمال الاعلام الغربي للفن الجاد تكتب Christine Lindey, Figurative Call to act, Socialist painter Peter de Francia is an artist whose work is unjustly ignored, Morning Star, 15 - 16 /01/2011
فالآلة الاعلامية الإرهابية في الغرب هي الفرقة العسكرية الأبرز والأشد فتكا وأهمية في مكونات أدوات الظلم الغربي المتنفذة على جميع الأصعدة محليا و إقليميا وعالميا. والمثقف الغربي الملتزم بقضايا الانسان وتطور المجتمع يصيبه مايصيب زميله في المستعمرات. إذ يتجاهله الاعلام المشغول بصباغة وتزيين أكاذيب ومكر واحتيال الساسة، وعدمية المثقفين وعبث الفنانين من موظفي النخب الاستعمارية.
فهل يفهم العرب المستوردون لفنون الحداثة العبثية مؤامرتها وأهدافها التخريبية ؟ وهل حقا انهم يتذوقون قُبْحَ مايدفعون لاقتناء منتجاتها بملايين الدولارات ؟. خاصة وان الزوار يتسائلون عن علاقة الفن بمثل هذا العبث والتردي ؟ ولماذا يُطلق على القبح فنا ؟
وبأي انطباع يخرج المتلقي من مشهد نفايات القمامة، والملابس البالية، والبراز المجفف، وأجزاء من جثث الحيوانات، وشرائح من أجساد آدمية ؟ وهل ان المشاهد جاء للاطلاع على معرض أم للدخول في مسلخ ؟ وماذا حصل الزائر مقابل ثمن تذكرة الدخول والوقت المهدور ؟
ولا تزال مستعمرات، مثل دولة قطر، تموِّل وبسخاء إقامة معارض عالمية لهذا العبث. ولايزال مرتزقة فنون الحداثة العبثية يواصلون نفخ جثتها بتقديم هوس صرعات صادمة قبيحة ومقزِّزة ومنفِّرة. كما انهم يواصلون تعريض وتهديد وحدة مكونات ثقافة مجتمعات المسلمين لأخطار التفرُّق والتشتُّت والتآكل والإختراق والغزو والهجرة والنسيان والذوبان في ثقافة العولمة الوحشية.
والغريب أن منتجات فنون الحداثة العبثية التي تتصدر واجهة المعارض والمتاحف ودور المزاد، توضع عنها، بالكلمة والصورة، آلاف المقالات والكتب والبرامج التلفزية... مما يبرهن على وجود جهات خفيّة تُقدِّم وتدعم وتفرض هذا النوع من منتجات العبث؛ وتحيط الناس بالاستبداد الثقافي والاعلامي والفني؛ وتسدّ عليهم منافذ الفن الهادف. وذلك للهبوط بأذواق المجتمعات، ومنع الفن الجميل من تقديم دوره في تطوير المجتمع وسعادة الناس. خاصة وقد أصبحت السلسلة متماسكة وكأنها مغلقة: سياسة استعمارية مفروضة - ثقافة مسطّحة - فن حديث عبثي - إعلام كاذب - تجارة - أرباح.
ومما يشير إليه الكاتب المصري الأستاذ ( ابراهيم عيسى، الفن جاسوسا، أخبار الأدب، القاهرة 30 يوليو 2000 ): " ... أستطيع أن أعود هنا أيضا الى الدور الأمريكي الشرس والجنوني الذي كان وراء ارتفاع قيمة اللوحات السريالية والتجريدية في سوق الفن الدولي، حيث صار في حكم المؤكد أن المخابرات الأمريكية كانت تشارك في شراء هذه اللوحات والمزايدة عليها في المزادات الشهيرة من أجل إعلاء قيمتها، وقيمة فنانيها.. بل إن أحد ضباط المخابرات الأمريكية المنوط به هذه المهمة كان يصرح لأصدقائه أن هذه اللوحة التي دفع من مال المخابرات ملايين الدولارات ثمنا لها لاتستحق أن يعلقها في دورة مياه بيته. "
وبذلك فإن منتجات فنون الحداثة العبثية لاقيمة فنية وجمالية لها. ويجب ألا تُعرض في المتاحف والمعارض ودور المزاد. وألا تُدقُ لها طبول الإعلام ومزاميره . كما يجب ألا تباع بسعر قماشة اللوحة، أو أنبوب اللون، أو الإطار، ولا حتى بعشرات " الفلسات ".
وتباً للنخب الإستعمارية الغربية التي لم تتوقف يوما عن استهداف وإفساد الأخيار من المثقفين المتميزين الأصلاء والفنانين النبلاء لإسقاطهم في أتون التبعية والعمالة. ثم يجعلون من هؤلاء الساسة والمثقفين والفنانين وأمثالهم فعّالين لما يريدون؛ وعلى أفعالهم لايُسألون. نعم، فهم الساسة المستبدون، والمثقفون والفنانون العدميون.
وإلا فأي فنان هذا الذي تخلو منتجاته تماما من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية والفنية والجمالية والذوقية للتراث الثقافي الإنساني ؟ ولثقافة بلده ؟ ولذاكرة فنون مجتمعات المسلمين وتاريخية تطورها وروائع تراكمها ؟
نتساءل، وستتساءل أجيال المستقبل: ماذا تضيف الاختيارات البشعة لفناني الحداثة العبثية الى معارف وأذواق وجماليات الفن والمجتمع والثقافة والحياة ؟ أمن هذا الهراء يتم التجريب للابداع الفني ؟ ثم أين الفن ودوره ؟ وأين الفنان وموهبته ؟ واين الصنعة وتقنيتها ؟ وأين الكَوْن والخَلْق والطبيعة والوطن والمجتمع والانسان ونشاطه وأفراحه وأتراحه من كل هذه الفوضى والعدمية والإستهتار ؟
وهل يخطر ببال المتلهفين لزيارة المتاحف والمعارض على انها مؤسسات محترمة تبث المعرفة والفائدة والجمال، ويلتقي فيها الابداع بالمتعة؛ انهم لن يحصدوا سوى الخيبة و" كسر الخيال " ؛عنما يكتشفون ان في هذه المؤسسات الثقافية - الفنية المهمّة " تتساكن " جنبا الى جنب: روائع الفنون العالمية، و " تحفا " مزوّرة ، وحشوا قبيحا ومنفِّرا وصادما ومبتذلا من منتجات فنون الحداثة العبثية ؟
www.al-jadir-collect.org.uk
jadir959@yahoo.co.uk