وبذلك فان من عوامل تكريس تخلف وتبعية المستعمرات، ومنها عالم العرب والمسلمين، هو انتشار فنون الحداثة العبثية الرديئة والمنحطة والخالية من أي روح ومعنى وقيمة . ويسري ذلك على الغناء والرقص والتمثيل المُتَّسِم بالسطحية، والرسم والنحت العبثي، والمصاغ الحداثوي، وتصنيع النجوم والمشاهير، وإشغال آلات الاعلام بهم وبأعمالهم الهابطة وبأخبارهم التافهة وسلوكهم المنحرف لجذب الاهتمام على طريقة " خالِف تُعْرَف ". وهي أدوات تستخدمها النخب الغربية الاستعمارية وموظفيهم لتهميش الشعوب، وتحدي ومحو هويتهم الأصيلة، وضرب تراثهم الثقافي التاريخي ومنع تراكمه، والتطاول على قدسية القيم الفنية - الجمالية المتوارثة لمئات وآلاف السنين، وعزل دور الإنتاج الفني الواقعي المعاصر في تطوير المجتمع .
هكذا تمَّ فرض نظرية الفن للفن بمفهوم ان الفن لايمثل غير الفن ولا يؤدي إلا إليه. وبأن المنتوج الفني يجب أن لايعكس أي فكرة أو معنى، بل يستعرض ذاته فقط . أي انه فن تجريدي ومجرد وشكلي ولانفعي .
وكم من معرض حضرته لأعمال من فنون الحداثة العبثية فوجدتها متطرفة للغاية . أما أحاديث منتجيها فهي مليئة بعبارات غير مفهومة لأحد من الزوار، وبالتأكيد فهي غير مفهومة حتى بالنسبة لأصحابها العارضين - المتحدثين المتغطرسين. لكن الغريب هو صمت خبراء ونقّاد الفن المقتدرين معرفيا، ومنهم هؤلاء الذين يقدِّمون فنون الحداثة العبثية في معارض ومتاحف عالمية رفيعة، وهم يبصرون تفاهة اللوحات ويستمعون إلى هراء مُنتجيها؛ الذين يَفِدُون من أربع أركان الأرض " بدعوة كريمة ".
علما بأن الفن الحقيقي ليس بحاجة إلى شرح وتفسير وتبرير لأنه يحمل رسالته النورانية من خلال بهاء وإشعاع صورته الفنية .
وإذا ماسأل زائر عن معنى وهدف ومغزى، فإن فنان العبث يسارع اما بالحذلقة المجّة وتقديم أعذار أقبح من الذنوب، أو انه يرمي السائل بالجهل والرطانة. وما هذا السلوك المُستهجَن الا إصرار على خطأ، وإمعان في نفث سموم القبح في المجتمع، ودعوة لنوع من " خصخصة " الفن، بمعنى أن ليس هكذا إنتاج بمقدور كل فنان .
وبهذا الصدد أتذكر من مطلع ثمانينات القرن الماضي أجواء حالتين من فنون العبث في أحد البلدان العربية: الأول لبائع انتيكات فرنسي مقيم وهو السيد ( ب )، الذي قرر إضافة الفن لمهنته التجارية لما يدرّه عليه هذا النشاط من أموال. فكان يصنع مئات اللوحات بمقياس واحد، ويعمل لديه نجّار لشد قماش اللوحات وصناعة الإطارات الموحدة كذلك. ثم يقوم السيد ( ب ) بإسقاط ملامح صورة فوتوغرافية ما لأحد مشاهد البلد على قماش كل مجموعة منها بواسطة جهاز ضوئي، ويؤكد بالقلم الرصاص على خطوطها، ثم يقوم بتلوينها وإعطائها إسماً وتوقيعها وعرضها للبيع. وكان المهم بالثري الذي يقتني إحدى هذه اللوحات أن يعلقها في غرفة الضيوف مفتخراً بأنها من عمل الرسام الفرنسي ( ب )؛ الذي كان بدوره يعمل على إثارة نار الغيرة بين الأثرياء مما يجعل بعضهم يلهف ويلهث وراء صاحبنا " الفنان " للحصول على إحدى منتجاته وتعليقها في صالونه. وبمرور الزمن صدّق السيد ( ب ) بأنه فنان كبير فطلب من أحد الصحفيين وضع كتاب عنه، وأفرد فيه صفحة لشكل توقيعه على لوحاته محذرا من مغبة تزويرها واستغلال إسمه لتسويق أعماله !
أما المثال الآخر فهو عن الرسام المعروف ( م. أ. )، الذي حضرتُ يوما أحد معارضه التي يقيمها عادة في القاعة الوطنية الرئيسة في العاصمة. فوجدته بالصدفة واقفا وسط ثلاث طالبات جامعيات يسألنه عن إحدى لوحاته المكسوة بلون رمادي قاتم لاغير. وكان الحديث على الشكل التالي:
- مامعنى هذه اللوحة أستاذ ( م. ) ؟ فأجابها: تصوّريها كما شئتِ؛
- لكني لاأستطيع تصوّر شيء ما لأن اللوحة خالية من أي موضوع أو إشارة، كما انها لاتقرِّب أو توحي لي بشيء ؟ فأجابها: افترضي انها مبنى، أو ناطحة سحاب، أو حقل .
- لكنها ليست كذلك، وحتى لو كانت كما تقول فإنها لاتعني لي شيئا ؟ فأجابها: لكن هل تلاحظين هذا اللون الرمادي الداكن ؟ لقد حضّرته في طاسة خاصة وبصعوبة بالغة ولمدة خمسة أيام، وإذا بقطة الدار تقلب الطاسة ويضيع كل جهدي في تهيئة هذا اللون، فَلَكِي أن تتصوري مدى المعاناة التي مررتُ بها لتنفيذ هذه اللوحة؛
- لكن كل هذا لايعنيني أنا الزائرة المتلقية والحريصة على معرفة ماذا تريد أن تقوله في معرضك ومن خلال لوحاتك ؟ فأجابها: هل تريدين الحقيقة، فأنا نفسي لاأعرف ماذا أريد أن أقول ولا عن ماذا أعبر لكني أترك ذلك للمشاهد!
وهذا الحوار " الطريف "، الذي يتحدث عن الخامة اللونية وكأنها الموضوع والوظيفة والشكل والتقنية... هو طابعي في عمومياته لمستوى فناني الحداثة العبثية.
كما تجدر الإشارة إلى ان السيد ( م. أ. ) إيّاه، كان من أهم فناني تلك الفترة في البلاد، ومن أكثرهم شهرة، وتباع لوحاته بأسعار مرتفعة. حتى ان هناك فيلما وثائقيا " صنعوه " له من هواء حار فارغ يُظْهِره وهو يتجول في الحارات الشعبية والأسواق على انها كانت وراء " إلهامه " و " تفرده " الفني !. وبالتأكيد فإن السيد ( م. أ. ) يعرف جيدا قدر نفسه، كما يعرف أنه بدوره ضحيّة من " لعب " به وبإسمه ليحقق ألأرباح بدون جهد إلا من الفهلوة.
وعلى هذه التنويعات يكتب الفنان المصري الكبير ( حسن سليمان، الفنان في المجتمع الإستهلاكي، مجلة الهلال، القاهرة أبريل 1999 ) عن نماذج غريبة من فناني الحداثة العبثية، منهم: "... فنانون يغطون السطح بأي ألوان أو أي شخوص، وتقدم الصورة على انها تعبر عن " صبرا وشاتيلا " ثم يقدم نفس العمل بعد ذلك على أنه " انتصار العروبة "، ثم تغير أجزاء من العمل ويقدم للبينالي، وأخيرا تسمع أنه أضاف له بضع بقع وسماه " انتصار الإرادة في توشكي ". إن الشعارات لاتصنع فنا. "
"... ولا نجد إلا نادرا الفنان الذي يؤصل تجربته بارتباطه بكل ماحوله، فينتج فنا هو ابن بيئته، حتى ولو كان تجريديا. "
"... إن كل مانجده في المجتمع الإستهلاكي غير المنتج هو محاكاة لأشكال دون فهم المنطق الذي أدى لمثل هذا الشكل أو المضمون، أو فهم أن أي شكل هو نتيجة لعوامل ووظائف تصبح ضرورة حتمية لإيجاد هذا الشكل. ويصبح مدّعي الفن مريضا نفسيا يكذب على نفسه أكثر مما هو يكذب على الآخرين ".
ويضيف حسن سليمان قائلا: " تعم بين مدعي الفن نزعة أن الفن لعبة ولا وظيفة له، تسلية يتسلى بها الناس. لكن في الحقيقة هم واهمون، وبهذا عزلوا الفن كلية عن المجاميع التي يجب أن يكون الفن بالنسبة لهم ضرورة وحتمية لايمكن العيش بدونه . وتعم أيضا مقولة " يجب تشجيع اللعبة الحلوة " وهكذا فالفن لعبة، وكل الألعاب " حلوة "، والكل يجب أن يشجع بعضه ويتغاضى عن النقد . وهم بهذا يريدون أن يحموا أنفسهم ببعدهم عن وظيفة الفن الحقيقية . كثيرون أصبحوا " هزء " تسيطر عليهم الميول الاستعراضية . الكل يساق الى تصرفات تأخذ عليه، كأنه مشدود الى الخطأ، مشدود الى حافة هاوية، مشدود الى عار يجمع الكل . كأنما توجد قوى غامضة غرضها مسخرة الكل . هل نتصور مثلا أن يوجد فنان بضمان " الشلة " أو العائلة أو السلطة !! لافرق بين ماترسمه زوجة أحد رجال الأعمال تدعي أنها فنانة، وبين بقع يضعها فنان أصبح من قيم القرن العشرين الخالدة. أليس الأمر كله " شخبطة ". المشكلة هي غياب الوعي وعمى البصيرة. والفنان الحقيقي هنا عليه ألا ينسى أنه بتأكيد وظيفة الفن السليم وضرورته والإصرار عليه هو الخلاص الوحيد له. "
ومن ذلك التيه والتشويه دوران معظم المنخرطين في تيار " الحروفية " الذين يتمترسون خلف الحروف العربية في فنون الحداثة العبثية. فيقدِّمون الحرف العربي بأشكال تائهة ومنتزعة من كلماتها، ومقتطعة من معانيها ومغازيها، وخارجة عن إطار روح الزخارف الكتابية العربية والاسلامية المفيدة بنصوصها والجميلة بإخراجها. وذلك بتأويل " الحروفية " " فلسفيا " باسم الروحانية والصوفية. والايحاء زورا وجهلا بعصرنة الفن الاسلامي وتحديثه؛ بما لايفرِّق ولا يميِّز بين هدفيَّة وأصالة وجمالية التجريد الاسلامي، وبين عبثية وعدمية التجريد الغربي . فكلا المَنْحَنيْن والمفهوميْن المتباينَيْن كليا ينخرطان في ذهن فنان الحداثة العبثية تحت كلمة " تجريد "!
بينما كانت الزخارف الكتابية الإسلامية ابتكارا عربيا بامتياز، ظَهَرَ وتطوَّر وتراكَمَ، ولا يزال، كإرث ثقافي - فني - جمالي بحافز إلهام الاسلام، ونشوء وانتشار ثقافة المسلمين، وتميُّز الصورة الفنية الاسلامية . وقد طوَّر الفنان المسلم حروف وخطوط الكتابة العربية الى فن - علم - صورة: فهناك تصاميما رياضية وراء مظهر الحروف وتركيب الزخارف الكتابية المتوازنة بابداعاتها التعبيرية وتنويعاتها المتعددة: العربية، والفارسية، والتركية العثمانية، والكردية، والبشتوية، والأردو، والملايوية، والسواحيلية، وغيرها، التي أفرزت فناً تشكيلياً إسلامياً متميزاً سواء كلوحات قائمة بذاتها، أم لتزيين العمائر وتوشيح شتى صنوف المصنوعات الفنية والمسكوكات والأختام.
www.al-jadir-collect.org.uk
jadir959@yahoo.co.uk