وبينما يدّعي فنانوا الحداثة العبثية انهم يجربون في بحور الفن الحديث، فإن حقيقة الأمر هو هزيمتهم الشنعاء لافتقادهم لتشكيلة الموهبة والحِرَفية والمعرفة والذوق الجمالي والصبر. يضاف إلى ذلك إفسادهم وإغرائهم ببيع لوحاتهم بأسعار مرتفعة لاتستحق عُشْر معشار حقيقتها. وذلك إن استحقت.
وما الأثرياء الذين يُفرض عليهم شراء منتجات فنون الحداثة العبثية، أو انهم يقتنونها بفرح وزهو الجاهل، أو كوجاهة اجتماعية زائفة، أو تشبها بالمثقفين وأصحاب الذوق الرفيع والأحاسيس الجمالية الراقية... فما هذا الا مَسْخَرَة مُقُنَّعة باستغلال تواضع وسذاجة وبساطة وغفلة الناس، المدعوم بضجيج مزامير الاعلام وتضليله وعناوينه المثيرة وهالاته المزوَّرة. أما المتاحف المتواطئة مع فناني العبث فإنها تقتني منتجاتهم من باب المجازاة بالإذلال بالمال مقابل تخلي فنان العبث عن انسانيته و وطنيته وشرفه. وتُحفظ منتجات فنون الحداثة العبثية في مخازن المتاحف لإمتاع ومسرّة الجدران. كما تُعرض بين حين وآخر فخرا وتذكيرا بها وتكريما لعوراتها.
كتبت ( سوزي شكري، تشكيليون: " قطاع الفنون " ضحية الشللية والأهواء الشخصية، روز اليوسف، القاهرة، العدد 1791، 04/05/ 2011 )، عن مستقبل صناعة الثقافة في مصر. حيث يرى الدكتور صبري منصور: " ان ادارة قطاع الفنون التشكيلية على مدار سنوات فسدت وفشلت بسبب ان موظف يدير الفن والفنانين، وأيضا بسبب الإدارة والقيادة الفردية، فلن تنجح أي مؤسسة تدار بعقلية فرد واحد له اهواء خاصة وديكتاتورية فكرية، ولا يوجد شيء إيجابي يحسب لقطاع الفنون، باستثناء بعض الفعاليات، التي ضاعت ملامحها من كثرة تواجد المنتفعين منها. فالقطاع في السنوات الأخيرة وقع في يد منافقين وهم " شلة " من مدعي الفن، ومن هم على علاقات بجهات أجنبية، هذه الشلة المحدودة الذكاء، المعدومة الفن همشت هوية الفن المصري، وروجت للنموذج الغربي، واستبعدت الفنان الحقيقي والموهوبين، ونجح من هذه الشلة بعض الفنانين المتميزين غير التابعين لفعاليات القطاع، فلا بد ان نعيد النظر الآن في شكل قيادات كل وزارة الثقافة، وتكوين لجان استشارية لتحديد الفعاليات وما يترتب على كل فعالية من هدف وقيمة. "
والمضحك المبكي، بل الخطير في الأمر هو تواصل مسرحية رقصة فقاعة فنون الحداثة العبثية في أوربا والولايات المتحدة، وانسحاب ذلك الى المواقع المُتْخَمَة والمُتَوَرِّمَة والمُتْرعة بالمال السهل لامتصاصه، كما هو الحال في قطر ودبي وأبو ظبي وسواها. إذ لايزال الكثير مما يقدمه فنان الحداثة العبثية هو: فن من أجل الفن، وتجريب من أجل التجريب، وتجديد من أجل التجديد، وشكل من أجل الشكل، ولاموضوع من أجل اللاموضوع، وغموض من أجل الغموض، وسطحية من أجل السطحية، وألوان من أجل الألوان، ولا معنى من أجل اللامعنى، ولاشيء من أجل اللاشيء.... إذ ان منتجات فنون الحداثة العبثية خالية تماما ليس من أي حيوية للتعبير الإبداعي فحسب، بل من أي إشارات وإيماءات مفهومة أو محسوسة. ولا شك فهي جزء من تسييس الثقافة والفنون بفرض اتجاهات لامسؤولة، ومبتذلة، ومكرّرة، ومملة، ومنحطة، تهدف لتدمير الثقافات الأصيلة لشعوب العالم.
تقول ( د. زينب عبد العزيز، لعبة الفن الحديث بين الصهيونية - الماسونية وأمريكا، القاهرة 1990 ص. 16 - 17 ): " وبما أن الشكل بمثابة اللغة التي يصاغ بها حوار المضمون، فلا بد له من متابعة كل متغيرات ذلك المضمون الذي يعبر عنه. فالشكل والمضمون هما في الواقع قطبان لوحدة واحدة ولايمكن فصلهما، كالروح والجسد بالنسبة للإنسان. إذ إن فصل أحدهما عن الآخر يؤدي الى عنصرين مختلفين غير ذلك الكائن النابض بالحياة. إن وحدة الشكل والمضمون؛ هي ضرورة حيوية لابد منها لتمتد جذور العمل الفني إلى أعماق الواقع الإجتماعي وتعبّر عنه. وإلغاء المضمون بذلك العمد في الفن الحديث يؤدي به بلا شك الى مجرد حقل تجارب جريا وراء اختلاق بدع جديدة من الأشكال الزخرفية. فإلغاء المضمون أو هدمه يؤدي حتما إلى إلغاء أو هدم الشكل دون تحقيق أي إضافة. والأمثلة على ذلك لاحصر لها. ولقد تم فصل الشكل عن المضمون في الفن الحديث عمدا ومع سبق الإصرار بغية تحقيق مخطط تدميري بعينه كما سيتضح فيما بعد. "
وبذلك لا يتحقق العمل الفني المتوازن والمفيد والجميل إلا بتقديم موضوع يخرجه الفنان المبدع الأصيل بما يعكس موهبته وحِرَفِيَّتِه وذوقه. وقد كان هذا هدف ومنجز الفنان عبر العصور، حتى تم فرض " الفن للفن " الذي أبعد وعزل حشدا ضخما من خيرة الفنانين عن وظيفية الفن الإجتماعية والثقافية والفنية والجمالية.
وإذا كان لكل ظاهرة ايجابياتها وسلبياتها، فما هي ياترى مزايا فنون الحداثة العبثية ؟ وماذا يغنم المتلقي من معاني ومعارف ومسرّات منتجات فنون الحداثة العبثية إن كان هناك شيئا من ذلك ؟ وما علاقة فنان الحداثة العبثية باحتياجات الجمهور ؟ بل هل يحترم ذكاء ومعرفة وذوق المتلقي الذي يزور معارض لايفهم منها شيئا ولا يتفاعل مع معروضاتها ؟ . فما هو الإيجابي إذن في منتجات فنون الحداثة العبثية ؟
واذا كان فنان العبث يمارس " العادة التجريبية " منذ عشرات السنين ولم يصل بعد الى نتائج مفيدة وجميلة، وضيَّع الزمن والطاقة والموهبة على نفسه وجيله ومجتمعه وتراكم ثقافته؛ فليجرب هو وذاته حتى يصل، إنْ وصل، الى نتائج معقولة يعرضها على الناس. لكن الواقع الذي أفْرَزَته تجارب فنان الحداثة العبثية باسم الفن هو انتهاج الطريق السهل الذي عبّده له أصحاب القرار السياسي - الثقافي - الفني - المالي، والحكومات التي يعمل إعلامها على تسطيح عقول الجماهير وتغييب وعيها الثقافي، وشراء الأنظمة العميلة وأسيادهم لذمم فناني الحداثة العبثية وترويضهم للتهريج في سيرك الثقافة الاستعمارية، يعلّمونهم ويدرّبونهم على حيل القفز في الفضاء، ويرفعونهم كلما سقطوا: في المجتمع وعلى الارض، ليس رحمة بسُمعتهم ولا بعظامهم، بل لضمان استمرار استخدامهم أدوات رخيصة وطيِّعة لعزل فاعلية الفن الهادف والجميل في تطوير المجتمع، وتكريس تواصل تخلف وتبعية المسلمين السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية والجمالية للغرب.
ومثلما يبيح فنان الحداثة العبثية لنفسه تمرير هذه المؤامرة الاستعمارية بعرض عبثه على الزوار، فان الناس يرفضون ويستهجنون بفطرتهم وتلقائيتهم هذا المنتوج التافه والأناني، الذي يحوِّل الفن الى نرجسية " الفنان "؛ ويؤدي الى اشاعة درجات متفاوتة من الفوضى والقباحة في التقاليد الثقافية والفنية والجمالية في المجتمع.
www.al-jadir-collect.org.uk
jadir959@yahoo.co.uk