نبيل مروة – موسيقي لبناني
هل البشر كلهم وبفئاتهم العمرية المختلفة يستطيعون أن يكونوا عازفين موسيقيين ولاعبين مهرة على آلآلات الموسيقية؟ هل الجميع ينطلقون من مُعطيات أوَّليّة متساوية في اكتساب مهارات العزف؟ وما هي هذه المُعطيات الضرورية؟ وهل هذه جينيّة أم مُكتسبة؟
من النادر أن نجد شخصاً لم يرغب ولو مرّة واحدة في حياته بأن يعزف على آلة موسيقية. ففي هذا النوع من النشاط الإنساني الأليف والجذّاب، ثمة فتنة وغموض.
يقف العازف الموسيقيّ وسط الدائرة، دائرة المستمعين، لاعباً على آلته الموسيقية، نافخاً، ناقراً أو مُغَنِّياً. يبدو لنا كأنه “ساحر” لطيف أو “عفريت” جميل محبوب. فيأسر المستمعين في دائرته الخاصة، دائرة الدهشة ويستحوذ على مشاعرهم. في الدائرة الآسرة تفيض المشاعر والخيالات، وعبرها قد يتوهم المستمع نفسه عازفاً ساحراً ولاعباً عفريتاً، فيقع في غواية اللعب.
قد يجوز اعتبار الحالة الجنينية لولادة الرغبة العارمة في أن نصبح عازفين موسيقيين تكمن في هذه الدائرة الاولى، دائرة الغواية… غواية السحر وفتنة اللعب.
ولكن ما أرغب في قوله هنا أبعد من هذه الدائرة التي قد تبدو فرضية فيها القليل من الدِقة والكثير من الخيال. لذا فسؤالي هو:
هل البشر كلهم وبفئاتهم العمرية المختلفة يستطيعون أن يكونوا عازفين موسيقيين ولاعبين مهرة على آلآلات الموسيقية؟ هل الجميع ينطلقون من مُعطيات أوَّليّة متساوية في اكتساب مهارات العزف؟ وما هي هذه المُعطيات الضرورية؟ وهل هذه جينيّة أم مُكتسبة؟
في البدء كانت الأذن
يُجْمِع الموسيقيون بكل فروع اختصاصاتهم على ضرورة توَفُّر شرطين أساسيّين يشكّلان معاً مُعْطيان لا غنى عنهما للشروع في عملية تعلّم الموسيقى نظريةً وأداءً. وهذان الشرطان هما:
الأذن الموسيقية (ear of music) والإحساس السليم بالإيقاع (sense of rhythm). ويعني هذا أنْ يمتلك المرء إحساساً دقيقاً بدرجة النغمة وأنماط الإيقاع المتغيّرة كما بقدرته على محاكاة الصوت بدقة متناهية.
وبناء على هذا الإجماع، ترسخت على مدى قرون من الزمن قاعدة ثابتة في المعاهد الموسيقية الابتدائية لاختيار الراغبين في اكتساب مهارات العزف على آلة موسيقية محددة، وهي عبارة عن اختبار سريع للتحقق من وجود الأذن الموسيقية والإحساس بالإيقاع.
مارغريت والصَمَمْ النغَمي
ولكن في السنوات العشرين الأخيرة، ركّزت مجموعة من الباحثين في علم النفس وعلم الأعصاب والدماغ على دراسة ظاهرة تعَرُّف الأطفال في سنينهم الأولى إلى الأصوات، وطريقة تمييزهم إياها، مترافقة مع أنماط إيقاعية محددة. وقد خلصوا في نتائجهم الى ترجيح فرضية أنّ كل البشر منذ ولادتهم توجد داخلهم معطيات طبيعية وسليمة في مجال الإحساس بأنماط إيقاعية بسيطة، وقدرتهم على تمييز نغمات تُثير مشاعر الفرح أو الحزن.
في المقابل، لم يوافق علماء الهندسة الجينية كلياً على هذه النتائج. بل سعوا في مراكز أبحاثهم إلى ملاحقة "الجينيوم" المسؤول عن ظاهرة السمع المُطلق (absolute ear) في السلالات العائلية التي تضم موسييقين محترفين أو هواة، إلى أن توصلوا إلى نتيجة تفيد بأن المعطيات الأولية للأذن الموسيقية والإحساس السليم بالإيقاع هما نمطان وراثيان ليسا متوفّرين عند جميع البشر. لذا فقد تصح تسمية هذين المُعطيين بالموهبة الخام أو الاستعداد الفطري لاكتساب مهارات العزف الموسيقي.
وبفضل تطور علوم الهندسة الجينية، استطاع الأطباء أن يُحددوا "الجينيوم" المسؤول عن ظاهرة “العجز في الإدراك الموسيقي” (congenital amusia) والمسبب لمرض "الصمم النغَمي" (tonal deafness). عوارض هذا الخلل الوراثي تنحصر في كون الشخص لا يستطيع أن يُفَرق بين الصوت الصحيح من الصوت النشاز، كما لا يستطيع أن يحدد علو ]درجة ارتفاع[ النغمة الموسيقية (tone pitch) أو انخفاضها. وتؤكد الإحصاءات أن نسبة انتشار هذا الخلل الجيني هي واحد من عشرين شخصًا .