لست أدري أيّ منظّمة أو جمعيّة حقوق إنسان تبّنت الدّعوى بالضّبط. في شيكاغو غير مجموعة تكافح لتحقيق مطامح نبيلة، وتثبيت مكاسب إنسانيّة متشعّبة. لذا لم أفاجأ ذات يوم مضى، بورود رسالة الكترونيّة تطلب مني الذّهاب الي مركز شيكاغو، للمشاركة في مظاهرة احتجاجاً على ابادة العزّل في غزّة. مركز شيكاغو يعجبني، سواء أكان هناك سبب، أم لا. أكان الوقت صيفاً أم شتاءً، ربيعاً أم خريفاً. أسواق مركزيّة شاسعة لا تحصى، تعرض كل ّشيء من الحذاء حتى القبعة، ومن لوحات فنيّة تشبع ميولاً سامية إلى أطعمة من شتى بقاع الأرض تشبع المعدة. عمارات شاهقة تناطح السّحاب، تتبارى في ارتفاعاتها حتى لتكاد تتجاوز الغيوم. لذا وجدت نفسي من دون أن أشعر، في مركز شدّ ما يريح أعصابي، نهر جميل يتلوى كأفعى، وقناطر بديعة ذوات تصميم يبهر النّظر، وشوارع نظيفة تغري المرء بالتّمدّد عليها لولا برودة شيكاغو ورياحها القطبيّة القارسة. الدّنيا باردة، درجة الحرارة تحت الصّفر المئويّ بدرجتين ثنتين، لكنّ درجة برودة الرّيح عشرة تحت الصّفر. ينثّ الثّلج بهدوء لكن من دون انقطاع. وأنا بأعوامي السّبعين أتحرّك ببطء لا أحسد علىه. وعندما وصلت مركز المدينة كاد وقت الاحتجاج أن ينتهي. لكنّي وجدت عدداً هائلاً من النّاس، يرفعون شعارات تتعاطف مع الفلسطينيّين في قطاع غزة.
الى قبل شهر من ذلك الوقت كنت أعتقد أن حدوث مثل هذه المظاهرة شيء أشبه بالمستحيل. قطاع غزّة، يدار من قبل حماس، وحماس منظمّة ارهابيّة في نظر سلطات الولايات المتّحدة. وكلّ من يعيش تحت سلطة ارهابيّة ارهابيّ حتى لو كان في بطن أمه. غير أنّ المعجزة حدثت، وحدث التّغيير. هذه هي الدّنيا، تتغيّر دائماً نحو الأحسن. تجمّع الآلاف في مركز شيكاغو وفي مدن أخري، ليظهروا للعالم أنّ كثيراً من المثقفين في الولايات المتّحدة يحترمون حقوق الانسان، يحترمون القانون الدّولي، ليعلنوا احتجاجهم على العنف، على الارهاب الحقيقيّ، على قتل الأبرياء، على الابادة الجماعيّة التي لا مبرّر لها مطلقا، والتي ترفضها القوانين كافّة، أرضيّة أم سماويّة أم قبليّة.
إذن لماذا تحدث؟ هذا ما تساءلته اللافتات المرفوعة.
معظم المتظاهرين شباب، طلّاب مدارس، جامعات، لم يتجاوزوا منتصف العمر. ووجود الشّباب في احتجاج كهذا علامة صحيّة، فلطالما كوّن الشّباب والطّلاب رأس حربة اخترقت الممنوعات وأرست لَبنات التّغيير.
ثم لست أدري لماذا التّفت الي اليمين، رأيت من هو أسنّ منّي، ربما بخمس سنوات، أمريكيّ أصيل، ذو عيون زرق، نظرات صافية، ابتسامة واسعة معبأة بآمال غد مشرق، اقتربت منه، سالتّه: لماذا تشارك في المظاهرة وأنت بهذا السّن؟ كاد يضحك: وأنت لماذا تشارك؟
قلت له أنا عربيّ، وأشعر بضرورة المساهمة.
- حتى أنا.
- أنت عربيّ؟
- لا، لكنّ الضّرورة نفسها تدفعني الي المجيء. عندما كنت شاباً وقرأت ما حدث للهنود الحمر، أحسست بخجل شديد من أجدادي الذّين أبادوهم، فالأرض تسع الجميع. وها أنذا أشترك بهذه التّظاهرة كي لا يحسّ أحفادي يوماً ما بالخجل منّي.