"لا تيأس مطلقاً. بُثَّ عطرك، بعد، أكثر"
(هينري ميشو)
كثيرون جداً أولئك الذين يتكلمون حول أصدقائهم، ويكثرون من الحديث في الصداقة: إنهم يبدون أكثر فهماً من أفلاطون، وأبعد نظراً من الأحنف بن قيس، وأكثر شاعرية من ديك الجن، وأكثر تسامياً من برديائيف!
لكنهم - في حقيقة أمرهم - فنانون في خسارة صداقاتهم، وفقدان أنفسهم.
هؤلاء لا يعرفون، أن الشجرة كالإنسان، تتهذب في الرفقة، ولا يعرفون الصداقة البطولية، ولا بطولات الصداقة، لأنهم عايشوا رعب "الآخر"، وعاشوا الخوف من أنفسهم، وتماهوا مع "جلادهم" الوطني، فكانوا القاتل والضحية، الرفيق والخائن، الصديق والعدو في آن.
كتب ديل كارنيجي في كتابه الشهير: "كيف تكسب الأصدقاء؟" ما يلي: "ينبغي لنا أن نبتهج برفقة أمثالنا، إذا شئنا أن يبتهجوا برفقتنا". وهذا قول يحتاج تفسيراً وتأويلاً وإحاطة عقلية.
ثمة من يدّعي صداقتك وهو كالسلحفاة، إنه يتحصن داخل درعه منك، وهو يريك أنه يمد إليك رقبته، بينما هو يطعنك. هذا النوع من البشر، تجد له في "رسائل إخوان الصفا" ذكراً كثيراً.
غير أن هذا النموذج، لا يقرأ، وهو إن قرأ لا يفقه، وهذا عورة والعياذ بالله.
وهناك من يقول إنه صديقك، لأنه يحتاجك. وما إن يتصور أنه يعرف كلمتين في قاموسك، أو جملتين في خطابك، أو شخصيتين من معارفك، يستبدلك بآخر.
هو "مشروع للاستبدال في لحظة مقبلة، وعلى نفسها جنت براقش".
هذا النموذج هو نتاج عملية سفاح بين وحشين على نمط ألعاب أفلام الرعب، والعياذ بالله.
وفي القطب المقابل، الصحيح، يوجد الذي عناه أفلاطون، وبشر به برديائيف، فأنت وهو جسدان في نفس واحدة، وأنت وهو في حالة من التسامي المتصاعد، حالة طاهرة تلد حالة طاهرة أخرى، تسام يلد تسامياً.
وهذه هي نعمة إلهية.
وهي بين يديك، وخلفك، وعلى يمينك أو شمالك. لكنك - يا ابن آدم - منشغل عن النور بأنابيب العتمة، وزواغير تتصور أنها نوافذ مشرعة للشمس.
إن كاتباً حقيقياً، هو وحده الذي يمنحك ما عرفه من نعم الله. لأنه - كما يقول فرانسوا مورياك - هو الذي يشبه الحق أكثر ما يمكن.
فدعنا في أجواء هذا الحق، حتى يبين الله أمراً كان مفعولاً.
جمعة اللامي
www.juma-allami.com
juma_allami@yahoo.com