"إنَّ ما يجعلك عظيماً هو ألا تستطيع أن تنتهي"
(جوته الديوان الشرقي للشاعر الغربي)
في العاشر من فبراير/ شباط ،1881 يموت دستويفسكي، فتمنح الأقدار العليَّة روسيا عمراً جديداً.
وفي سنة ،1844 يكتب دستويفسكي، وهو في الرابعة والعشرين، تلك الرواية الأولى: "أناس بؤساء"، التي يتلقفها "نيكراسوف"، ومن بعده ناقد روسيا العظيم: بييلنسكي؛ ليتم تطويب هذا الشاب السلافي، ذي الوجه الفلاحي، والعينين الغامضتين، بكونه روح روسيا.
وبين الميلاد الأدبي العاصف، والموت الأكثر عصفاً، سنوات من العوز والفقر والإبعاد، والاقتراب من طلقة الإعدام، ومشاريع الزواج، والبحث الذي لا نظير له، في عالم تلك الأيام، عن النموذج الروسي ل "المسيح السلافي".
يصف مكسيم جوركي ساعة تشييع دستويفسكي في موسكو كما لو أنها ذروة قيام مخلص جديد: حتى بائعات الهوى نزلن من غرفهن الصغيرة، واختلطن بالأشراف والأسياد والضباط والسوقة.
ويكتب ستيفان ننسفايج نصاً بليغاً ومؤثراً للغاية، وهو يصف لحظة موت هذا المبدع: "وتسري رعدة في أرجاء روسيا؛ لحظة من الحزن الصامت. ولكن السيل العارم يفيض بعد ذلك. فمن أقصى المدن ترحل في وقت واحد، ولكن من دون اتفاق؛ وفود توليه الشرف الأخير. ومن أرجاء المدينة التي تضم آلاف البيوت يفيض بعد فوات الأوان حب الجماهير الوجدي مُزبداً متقدماً".
.. "فالناس جميعاً يريدون أن يروا الميت الذي نسوه طوال حياة بأسرها. ويغلي "شارع الحدّاد" الذي وضع فيه دستويفسكي على النعش، أسود من ازدحام البشر".
في ميلاده، كما في موته، كان هذا "الأسود الملعون" الذي احتقره لينين، روح بلاده، مثلما هو الآن رجل النور البهيّ الذي يشع من خلال أكثر شخصياته بؤساً وفقراً والتباساً.
صنع دستويفسكي حياته، كما قدره، بعزلته الخاصة. لم تصنعه منظمة سياسية. لم تطلقه طائفة دينية. لم يتصادق مع الامبراطور؛ ولم يصاحب رؤساء الأحزاب. كان يكتب كأنما يوحى إليه، ويعيش كما لو أنه مائت الآن.
حيٌّ وهو على الجنازة. والذين مشوا خلفه، خلفه تماماً، أموات رغم حركاتهم الميكانيكية. ولأنه حي في حياته وموته وأعماله، تغيرت روسيا بعد موته الجسدي بثلاثة أسابيع.
أين منه المومياوات