" انظروا إلى القمم ..
انها من دون تعقيد ! "
(ديغول)
ثمة تناظر ، لا بل تطابق ، ما بين الفرنسي اندريه مالرو ، والكولومبي جارسيا ماركيز ، في نظرتهما إلى الثقافة والأدب والحياة ، جوهرها : حرية الانسان.
في الأدب - الرواية تحديدا- جاءت اليهما "نوبل" تحبو رغم افخاخ الديمقراطيات الاوروبية ، وصلادة وقسوة " جمهوريات الموز " في امريكا اللاتينية .
كانت رواية " الوضع البشري " لمالرو ، بحثا عميقا في الروح الشرقية الصينية ، وهو في الثلاثين من عمره ، بينما كانت " مائة عام في العزلة " لماركيز ، اشارة الى طيران الروح الانسانية المحاصرة بالكبت ومنظومات فرق الاعدام السرية.
وضع مالرو ، الحياة الغربية ، الرخية ، لكن المهجورة من الأخلاق المسيحية ، على منضدة تشريح غير غربية . وجال - عموديا وافقيا - في الروح الشرقية الصينية ، فصار " الموت الاخوي " على الطريقة الصينية ، إنابة عن الأشواق البشرية في وحدة المصير الانساني.
ومن ثراء تجربته في أوروبا ، وفي أسبانيا بالأخص ، صاغ ماركيز في " مائة عام من العزلة " نظرية اخلاقية لا حدود لشواطئها وضفافها ، تترجم لها بقية أعماله الأدبية : الأوطان الحرة لا يشيدها إلا مواطنون احرار.
اما في حركة الحياة ، فهناك تشابه مدهش بين هذين الرجلين المتباعدين في جغرافيا الأوطان ، والمتحدين في نظرتهما إلى الكرامة البشرية والحرية الانسانية.
ذهب مالرو إلى الصين ، وعاش تجربة الحرب بين الشيوعيين والوطنيين الصينيين ، وقدم للبشرية ثقافة المستقبل : امثولة " الموت الأخوي " بالسيانور . وتجربة الغاء " الآخر " ثقافيا وسياسيا وجسديا باعتباره أحد الافعال الحرة ، بينما خاض حربا لا هوادة او تراجع فيها مع الشيوعيين الفرنسيين ، وضد سارتر أيضا ، في قضية " المعتقلات السوفيتية " مقدما ستالين بوصفه الوجه الآخر لادولف هتلر
وحتى عندما استوزره الجنرال ديجول في أول وزارة ل " الجمهورية الخامسة " وزيرا مسؤولا في الشؤون الثقافية ، كان مالرو يعيد طرح تثقيف " السياسي " في الجنرال ديجول ، ليقدم " الثقافي " بكونه الحصافة والجسارة والهيبة الروحية الانسانية ، في انظمة ليبرالية هجرها المسيح.
كانت اوروبا الملوثة باتساخات حربين مهلكتين ، تخرج من بين أردان مالرو ، حالة انسانية مبتغاة ، لا يرومها ولا يتوجه اليها ، ولا يدعو اليها ، إلا القديسون والمصلحون الكبار .
اما جارسيا ماركيز ، هذا الكائن الانساني المحروس بأرواح أجداده ، والذي حاول العسكر في كولومبيا ، وطنه ، وبقية " جمهوريات الموز " تحويله إلى مشجب تتجمع أسلحة الثوريين المشترون عنده ، او " الوجه الجميل " لانظمة هرمه ، متآكلة ، فقدت اهليتها في الحياة والعيش .. فإنه كان يردد مع الجنرال ديجول من الاذاعة البريطانية قبل تحرير فرنسا من الاحتلال النازي :" لن أخرج عن صمتي ... إلا حين يكون الوطن مهددا ".
في بداية عقد السبعينات من القرن الماضي ، وعندما عرضت عليه الحكومة الكولومبية منصبا دبلوماسيا فخريا يدر عليه مالا كثيرا ، وهو الذي كان يعيش مع زوجته " مرسيدس " عند الحافات القصية لأبعد حالات العوز والفاقه والجوع ، فإنه قال قولته الشهيرة : " أستطيع ان أخدم وطني ، من دون أن اخدم حكومته ، أختلف مع النظام برمته ، اخالفه مخالفة كلية ، بكل جوانب تركيبه البالي الذي مر عليه الزمن ".
وقال ماركيز أيضا : أستطيع خدمة وطني بترفّعي ، وبان اتابع الكتابة مترفعاً!
كان ماركيز يدرك تمام الادراك ، ان حكومة كولومبيا التي تقتل الطلاب ، وتنفي المثقفين والادباء والفنانين . وتمارس سطوات العنف والابادة على كل من يخالفها الرأي والاعتقاد ، حكومة لا يجب مصافحة ممثليها ، ولا الترحيب بمثقفيها وكلاب حراستها.
بهذا الترفع في الكتابة ، وبهذا الارتباط بالاشواق الانسانية ، كان ماركيز يعيد كتابة تلك المدونة الشرقية القائلة : " يحكى أن صائدا كان يطارد سرب عصافير للايقاع بأفراد السرب ، وكانت عينا الصائد تذرفان دمعاً ، فقال عصفور لجاره : ألا تراه يبكي ؟ فرد عليه الجار : لا تنظر إلى عينه ... ولكن انظر إلى يديه...!!
إن هذه المدونة الشرقية ، ولو بصورة وطريقة غير مباشرة ، او من دون أن يتعرفا إلى منشنها أو قائلها ، وجدت لها تعبيرا مدهشا لدى مالرو وماركيز ، يتمثل في رصدهما وفضحهما لكل حالات الالغاء القسري لحرية البشر في مجتمعات كوكبنا الأرضي هذا.
غير ان الديكتاتور يظل ديكتاتورا.... سواء رفع المنجل والفأس ، او الصليب المعقوف ، او الهلال !
كيف ، ـ إذاً ـ تتحول هذه الاشتياقات الأخلاقية الكبرى ، لدى مالرو وماركيز ، على سبيل المثال لا الحصر ، إذا ما اختار احدهما ان يتحول إلى كاتب ، او مراسل صحافي ميداني ؟
من بين ما قرأت لمالرو في هذا الميدان ، مقابلة صحافية اجراها مع الزعيم الصيني الراحل " شو - ان - لاي " فإذا به يعيد تركيب " شو " كما في مشهد " التنور الوطني " الذي كان ينتظر أجساد الشيوعيين الصينيين في " الوضع البشري " !
ومن بين ما قرات لماركيز مقابلة صحافية مع صحافي امريكي يحترم نفسه كثيرا ، فوجدت ان الكاتب الصحافي المرتبط بضميره المهني والأخلاقي يتناظر ، لا بل يتشابه مع المبدع الروائي ولو كان من طراز ماركيز .
ألم يقل ماركيز ـ ذات يوم ـ انظروا الى القمم .. انها من دون تعقيد ؟!
جمعة اللامي
امارة الشارقة
12-7-1981