خواطري (3)/ أيام الفقر

2021-08-22

أخي لم يدخل المدرسة أصلا، وعمل في الأعمال المختلفة الدونيّة في صغره .
غسل السيّارات، حمل حاجيات النساء في السوق، عمل كمنظّف في الشركات الخاصّة، فلم يفته عمل درّعليه بعض الريالات الرخيصة إلّا وزاوله .

وفي ليلة من ليالي الفقر تلك، وقبل أن نغفو، سألني هامساً :
ألا تريد أن تصبح ثرياً تملك نقوداً كثيرة تشتري بها ما يحلو لك من أطعمة لذيذة وألعاب جميلة وملابس أنيقة ؟
قلت بعجلة واهتمام : بلى .
قال : رافقني عند الصباح إذن، لتحقّق أمنيتك .

استيقظنا غبشة، وبعد أن ذهب أبونا إلى عمله الذي لا يكاد دخله اليومي يكفينا لسدّ رمقنا، خرجنا دون علم أمّنا وركضنا حتّى وصلنا إلى نقطة لا يبلغنا صوتها مهما نادت . ثمّ تمشّينا إلى حيث لا أدري، لنحقّق حلمنا الوردي.. الفلوس، الأطعمة اللذيذة والملابس الجديدة والألعاب، كتلك التي عند أبناء الحضر .

قادني أخى إلى دوّار يسمّيه الفلكة وهو مكان يقف فيه الكادحون ينتظرون رزقهم .
لم تشرق الشمس بعد، لكنّ الضوء ملأ الدوّار؛ وصرت أرى العمال بملابسهم الرثّة وكوفيّاتهم الملفوفة على رؤوسهم .
وجوههم تشبه وجه أبي، الشمس لم تقصّر في حرقها، ولا تستطيعُ أن تميّز الأبيض بينهم من الأسمر، كلّهم يبدون سمراً .

بينما كانت عيناي تتفحّصان الرجال والمكان بغربة وخوف، وقفت سيّارة؛ وهرع نحوها الرجال، وركض أخي نحو السيّارة هو الثاني، وصرخت أنا هلعًاً .
رجع أخي والذهول يكسو وجهه :
- ما بك أيّها الجبان ؟
-  تركتني وحيداً !
-  إذا استمررت بجبنك وصراخك مثل البنيّات الصغيرات، فلم نحصل على عمل؛ تحلّى بالشجاعة! وضربني على رأسي ضربة أخ .

وسرحت في أفكاري، وما هي الشجاعة ؟!
تذكرت أمّي وأخي الصغير وأختي، اشتقت إليهم وكأنّي مفارقهم لعشرات السنين.. لم أكن أبلغ السابعة بعد، لكنّني حاولت أن أتحلّى بالشجاعة التي أوصّاني بها أخي، أتحلّى بها وما أعرف ما هي .

وقفت سيّارة أخرى، ركضت نحوها ركض الطفولة مسرعاً، والتفتُّ ورائي لأرى لا يغلبني أحد من أولئك الكادحين إليها .
وركض أخي خلفي حتّى بلغني :
إلى أين طائر أنت ؟! هذه سيّارة أجرة .

انتظرنا طويلاً؛ جعت، عطشت، عجزت، ضقت...
جاء رجل يبحث عن عاملين رخيصين، ومن يوافق على أجرة رخيصة غيرنا ؟!
أخذنا بسيّارته، لا أتذكّر بالضبط هل كانت أوّل مرّة أركب فيها السيّارة، أو كنت قد ركبت من قبل .
نسيت الجوع والعطش وما شابههما، وأصبحت أتفرّج على المحلّات بعينين تلمعان من شدّة الفرح... جولة في سيّارة وبعدها الثروة وتحقيق الأحلام .
أدخلنا الرجل الضخم في مخزن مظلم فيه بقايا إسمنت، كأنّه هباء نزل بعد عاصفة ثمّ استقر على أرضية المخزن .
أمرنا أن نجمع الإسمنت ونعبّئه في أكياس، ورمى نحونا الأكياس من الخارج .
ثمّ زأر باستعلاء :
سأرجع لكما بعد حين لأرى كم من الأكياس ملأتما !

خلعنا نعلينا عند الباب وبدأتُ قبل أخي أجمع الإسمنت المبعثر بيديّ الصغيرتين، وأخذ أخي بالقرب منّي يجمع ويعبّئ بمسحاة .
لم نملأ الكثير بعدُ وبدأنا نحس بضيق في الصدر واختناق في النفس بسبب الغبار والحرّ الشديد، لكنّنا لم نستسلم؛ نظرنا إلى بعضنا ثمّ استمررنا .
واستمرّ الحرّ الشديد يبلّل ملابسنا الملوّنة بألوان باهتة . أردنا أن نرتاح قليلا لكنّنا خفنا من الرجل الضخم، فاستمررنا بالكدح حتّى كادت الروح تبلغ التراقي .
لم نستطع الاستمرار، فدنا مني أخي ثمّ همس بأذني بحذر شديد :
اخرج وتحسّس من الرجل .
خرجت أتمشّى على أطراف أصابعي، نظرت إلى اليمين ثمّ وباحتراس إلى الشمال، لم أرَ أحداً، فأشرت إلى أخي أن الشارع آمن. ركض نحوي مسرعا فمسك يدي وطرنا شاردين .
نركض ونلتفت وراءنا إلى أن ابتعدنا بقدر الأمان .

وصلنا إلى صريفتنا، كانت أمّي تبحث عنّي وتسأل أترابي؛ وصلنا بسلامة، لكنّني لم أسلم من العقوبة . 
ولم يفارقني الذعر من خوف ذلك الرجل طيلة أسبوع أو أكثر، كنت أظنّ أنّه ما برح يبحث عنّا ليؤاخذنا، أو ليقتصّ منّا، أو يرجعنا إلى ذلك المخزن الخانق لنكمل تعبئة الأكياس. فلم أخرج لألعب مع الأطفال، أو أن أتفرّج على الفلك التي تنطلق من ميناء عبّادان مشحونة بالنفط مواخر إلى حيث لا ندري. كنّا نتسلى بأمواجها وهي تسلم علينا بأبواقها.. أو ربّما تسخر منّا ونحن نلوّح لها !

1- الصريفة: كوخ من قصب

 

سعيد مقدّم أبو شروق

 مدرس فرع رياضيات

يسكن  الأهواز

نشر قصصه في العديد من المواقع

نُشرت له مجموعة من القصص القصيرة جدا

saeed135057@gmail.com

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved