13/08/2008
"الأشياء التي تنساها، تظهر لك في الأحلام".
(دانتي)
حدثني غريب المتروك، فقال: لم تصدق عيناي المشهد، فبعد خمس وعشرين سنة، ها أنا في بغداد، طيلة تلك السنوات كنت أدخلها في أحلامي، خائفاً كأن ثمة من يطلق الرصاص على رأسي. ولوضوح المشهد تخيلت اني احلم مرة اخرى، أو اني أعيد قراءة قصيدة الشاعر الروسي الكسندر بلوك: "الاثنا عشر"، التي كتبها سنة 1918.
كنت في يوم صائف. تحريتُ الجريدة التي أحملها، فوجدت تاريخها يعود الى 14 تموز 1958. وها أنا أقف في "ساحة التحرير"، وشاهدت "جواد سليم" يذرع الساحة جيئة وذهاباً، وهو يشير الى تفاصيل عمله الخالد: "نصب الحرية"، وكأنه اكتمل تماماً.
رأيت أعضاء "مجلس الحكم العراقي" الحالي، وفرزت منهم اثنين: "ابراهيم الجعفري" و"حميد مجيد موسى". وكان الباقون من أعضاء المجلس يجلسون على أرائك وثيرة، وفي مقدمة مجلس هؤلاء جميعاً جلس السفير بول بريمر، والى جانبه رجل بلباس عسكري يشبه "الدكتاتور".
في ارباض المشهد، على الأرض وفوق "نصب الحرية"، ثمة جنود بملابس الميدان مدججون بالأسلحة. لم أجد مشقة في معرفة جنسياتهم: امريكيون، وأمامهم لافتة بيضاء من قماش كتب عليها: "جئنا محررين.. لا فاتحين".
فجأة، وكما يحدث في الأحلام، امتلأت "ساحة التحرير" بحشود هائلة من الناس. كلهم من الأموات. كانوا في هيئات متعبة. بعضهم كأنه قد أنزل تواً من منصة الإعدام. آخرون لا تزال دماؤهم حارة. فئة ثالثة كأن أذرعهم ورؤوسهم أعيدت الى أجسادهم الآن. قوم آخرون لم يستطيعوا استعادة أعينهم بعد. وكل واحد من الناس يحمل "يافطة" على صدره، تبين اسمه وتاريخ موته، قتلاً أو إعداماً، أو دفناً وهو حي.
نعم، وكما يحدث في الأحلام، شاهدت شيخ الأسطورة السومرية: "كلكامش" والى جانبه صديقه "انكيدو"، يرفعان علماً يقول: "هنا ولد التاريخ".
ثم ملأت صورة المشهد هيئة السيد محمد باقر الصدر، حاسر الرأس، والى جانبه الشيخ امجد الزهاوي، يحملان لافتة كتب عليها: "لا شيعية، ولا سنية،.. وحدة اسلامية".
ورأيت رجلاً بملابس عسكرية، يتقدم نحو مقدمة المشهد، وحيداً عرفته في الحال: "عبدالكريم قاسم". أردت التقدم نحوه، لأقول له: يا حضرة "الزعيم"، ها أنت ترى ماذا فعلوا بناس "مدينة الثورة"، لكنه أشار إليّ بالصمت.
كان "الزعيم" يرفع راية حمراء خطّ عليها شعار بلون أبيض: "العراق للعراقيين". ورأيت الجموع من كل المدن الفلاحية العراقية التي استوطنت "مدينة الثورة" تهتف خلفه: "كل الشعب ويّاك.. يا منقذ الثورة".
بعد ذلك برز "يوسف سلمان يوسف" و"نجم البقّال" يحملان شعاراً كتب عليه: "عاشت الطبقة العاملة العراقية". ثم شاهدت الضابط "ناظم الطبقجلي" و"عبدالجبار عبدالله المندائي" يسيران متجاورين، وكان "المندائي" يتخذ من "ألبرت اينشتاين" هيئة له.
في آخر الصورة، من جهتها السماوية، رأيت محمد مهدي الجواهري، يلقي قصيدته الشهيرة: "يوم الشهيد"، بينما وقف الى جانبه عبدالوهاب البياتي يطيّر في الفضاء رقعاً من قصيدته ذائعة الصيت: "الذي يأتي ولا يأتي".
وحيداً، وشامخاً، وأشيب الرأس، وبنت العنادل اعشاشها عند صدره، شاهدت عزيز السيد جاسم يحمل لافتتين. الأولى منشورة وكتب على أديمها: "يا أحفاد سلطة الحق".
تقدم "السيد" حتى صار بين "الزعيم" و"محمد باقر الصدر" و"أمجد الزهاوي" ونشر اللافتة الثانية: "ايها المحتلون اخرجوا من بلادنا".
عند ذلك هبّ أعضاء "مجلس الحكم" واقفين، وقد عقدت ألسنتهم الدهشة، حصلت مفاجأة أيقظتني من حلمي مرعوباً.