في
عام 1993 كنت أعمل في تقديم وإعداد البرامج في هيئة الأذاعة البريطانية، استدعاني مديري إلى مكتبه، وضع أمامي فنجاناً من القهوة أحضره خصيصاً لي من "كانتين" بوش هاوس، وقال بابتسامة أوسع من المعتاد: " سلوى، هناك برنامج إذاعي جديد أريدك أن تتولي إعداده وتقديمه". لم يكن في الأمر غرابة فقد اعتدت تقديم البرامج الجديدة، التي لم يسبق تقديمها من قبل، لكنه حين بدأ يشرح لي طبيعة هذا البرنامج الجديد أصبت بالذهول. كان برنامجاً من عشرين دقيقة في عشرين حلقة، عن الثقافة الجنسية سينجز بتمويل من منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة. كان علي أن أتحدث عن المشاكل الجنسية المختلفة من مرض الأيدز، الذي كان الحديث عنه يملأ الأسماع، إلى العنّة، والمثلية الجنسية، وهو تعبير كان في وقتها جديداً وغير مستعمل كبديل لتعبير "الشذوذ الجنسي"، لأنه تعبير علمي يخلو من الأحكام الأخلاقية. كانت المرة الأولى التي تقدم فيها وسيلة أعلام عربية برنامجاً عن الثقافة الجنسية. وضعت أمام الأمر الواقع ووافقت. فقد كنت موظفة علي إنجاز ما يطلب مني. تطلب إعداد البرنامج أن أزور خمس دول عربية، تونس والمغرب والبحرين ومصر والاردن. جمعت عشرات المقابلات الإذاعية مع أطباء واختصاصيين نفسيين واجتماعيين وسجلت أحاديث مع الناس العاديين من فئات عمرية مختلفة حول موضوعة الجنس وأمراضه ومشاكله الاجتماعية والنفسية. في مصر أجريت مقابلات كثيرة عن موضوع ختان المرأة، الذي خصصت له حلقتان من البرنامج لما له من أثر سلبي على حياة المرأة وصحتها.
كان هناك إجماع بين الأطباء والمتخصصين في علم الاجتماع على أن ختان الفتيات شيء غير إنساني بالمرة، قالت لي إحدى الطبيبات التي تعمل في مستشفى القصر العيني في القاهرة، إنها تسعف كل يوم عدة حالات من النزف الحاد لفتيات أجريت لهن هذه العملية الوحشية التي تؤدي في أحوال كثيرة إلى العقم. حدثني الاختصاصيون الاجتماعيون وأخص بالذكر، الدكتورة صفية صفوت المتخصصة في تاريخ مصر القديم، عن تاريخ هذه العادة التي تعود إلى مصر الفرعونية وكيف ارتبطت بعبادة آمون الذي كان خفياً كما يعني اسمه، ولا يمكن إدراكه. وكان سر غموضه، هو كماله المطلق، بحيث ظل منفصلاً عن الكون المخلوق، مرتبطاً بالهواء كقوة خفية، مما سهل له الترقي إلى مراتب إلهية عليا، وأصبح هو الإله الأوحد والأعلى، فاعتبر خالقاً لنفسه، أي انه لم يولد من امرأة ولا يحتاج لها فظهرت فكرة ختان المرأة. كان السبب الرئيسي لهذه الفكرة، هو إلغاء وجود المراة كشريك للرجل في العملية الجنسية، لتصبح مجرد وعاء يحمل ويلد الأطفال دون أن يكون لها أي علاقة بالإه الرئيسي آمون. أي أن ختان الإناث جاء أصلاً لتقليل من شأن المرأة في زمن سحيق في القدم ولا علاقة له بالاسلام.
اليوم بعد ما يقرب من العشرين عاماً ما زال الجدال يدور حول ختان المرأة وربط هذا التشويه لجسدها بتعاليم الدين وتبرير الختان بأنه تجميل للمرأة وصيانة لها من الانزلاق في هاوية المغريات، وانتشر في بلاد عربية لم يكن معروفاً فيها، كالعراق، حتى صار من مشاكل الفتيات في عصرنا. وثارت مؤخراً ضجة في مصر بعد الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة الجديدة، حول موضوع ختان المرأة حين نشرت مقابلة مطولة في جريدة "التحرير" المصرية، مع مستشار الرئيس المصري لحقوق المرأة، الدكتورة أميمة كامل، قالت فيها إن "المرأة التي لم يتم ختانها إيمانها ناقص" و "إن الختان لم يجرم قانونياً وأن هذه العملية مجرد عملية تجميلية" ، و "أنها ستخاطب الرئيس بأن لا يبيح عملية الختان إلا بعد سن البلوغ". لكني حين بحثت عن مزيد من التفاصيل عن الوزيرة المصرية الجديدة وجدت أنها عادت وأنكرت كل ما ورد على لسانها في موضوع ختان المرأة.
وسواء أكانت وزيرة شؤون المرأة المصرية تشجع ختان الإناث أم لا، فالمشكلة الحقيقية هي العودة للحديث من جديد في موضوع من المفروض أن الزمن تجاوزه منذ عقود؟ لم لا زلنا في القرن الحادي والعشرين نكرر أفكاراً رُفضت وهُوجمت في خمسينيات القرن الماضي، خاصة وأن ختان الإناث، يعتبر في مصر، جريمة يعاقب عليها القانون منذ عام 2008 بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد عن سنتين أو بغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تتجاوز خمسة آلاف جنيه مصري. كما أن علماء الدين أكدوا رفضهم لختان الإناث. فالدكتور محمد سليم العوا، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أكد أن ختان الإناث ليس ممارسة دينية بل يتعارض تماماً مع تعاليم الإسلام. أما أنها مجرد عملية "تجميل" كما يقول البعض، فهناك آلاف الفتيات حول العالم العربي يتمنين الخلاص من أنف كبير، أو أثر جرح غائر، أو تشويه في الفم أوالعينين، ومع ذلك لا يفكر أحد بإجراء عملية تجميل تعيد لهن بعضاً من ثقتهن المفقودة بالنفس. فلم تشوه الفتيات الصغيرات في " سن البلوغ"؟
المرأة حول العالم تكافح من أجل أن تكون لها مكانتها في المجتمع وأن تدخل ميادين العمل التي ظلت حكراً على الرجل وأن تحصل على أعلى درجات العلم وتنال الجوائز التقديرية المهمة في حين نحاول في عالمنا العربي إشغال المرأة بطول حجابها وتغطية نفسها كي لا يغتصبها الرجال والعبث بجسدها بحجة حمايتها من الانزلاق إلى الرذيلة، رغم أن المرأة في العالم العربي عاشت الكثير من الصعاب، من الحروب وظلم وعسف الحكام وقسوة الرجال في حياتها، وذاقت لوعة فقدان فلذات الأكباد ووحشة الترمل وذل اليتم والفقر والعوز والحرمان، ومع ذلك، بقيت قوية صامدة معطاءة مبدعة. ربت الاجيال، وعملت، ووجدت لنفسها مكاناً في مجتمعها وامتهنت كل مهن الرجال ونجحت بتميز.
المؤسف أن من يظلم المرأة في مجتمعاتنا العربية ليس الرجل وحده، وإنما المرأة التي تجد نفسها في موقع الآمر الناهي، تفرض الحجاب والختان على النساء وتصر على أنها أقل من زميلها الرجل. قد تكون الدوافع التشبث بما لديها من سلطة وقد يكون الخوف من أن تستمتع بكونها امرأة ناجحة في عملها، تشبه نساء ناجحات سافرات ملأن الدنيا بعلمهن وفنهن وإبداعهن في كل الدول العربية. نساء كن متراضيات مع مجتمعاتهن أخذن حظهن من العلم والحرية وفرص العمل. نساء عصريات جميلات واثقات من أنفسهن ومن احترام مجتمعاتهن لقدراتهن، لم يحتجن للاختفاء خلف لفائف القماش ولا للتتعرى ولا لعمليات تجميل مفتعلة.
أنا كنت من جيل تلك النسوه حين قمت باعداد وتقديم برنامج هيئة الإذاعة البريطانية "عن الجنس بصراحة" في مطلع تسعينيات القرن الماضي. ونجح البرنامج وكان رد المستمعين ثلاثة عشرة ألف رسالة انهالت على البرنامج تطلب النصح وتبدي الإعجاب. ومازلت حتى اليوم أعتز بأني عملت على ذلك البرنامج الصعب ونجحت في تقديم عمل يليق بي كسيدة عصرية تكمل مسيرة المرأة المبهرة التي بدات منذ أواسط القرن الماضي.
عن رابطة المرأة العراقية