مباركون هم اولئك الذي يمتزج دمهم ورأيهم ، بحيث لا يكونون بوقا يعزف عليه القدر بأصابعه ما يريد
" هاملت "
1
عمان
7-8-2002
كأني رأيته بين الأوابد الرومانية في »الساحة الهاشمية« بوسط عمّون أو عمّان: رجل راهي القامة، يرتدي دشداشة بيضاء مبقعة بدمٍ عبيط، حاسر الرأس، موثوق اليدين الى الخلف، معصوب العينين، لكنه كان يعيط، كما الحلاج لحظة صلبه:
طوبى لمن يتذكرني بعد القارعة.
إنه صديقنا عزيز السيد جاسم، الروائي، الصحافي، المناضل الإشكالي في حياته كما في اختفائه الفريد.
كما ظهر فجأة بين عمودين رومانيين في »الساحة الهاشمية« اختفى فجأة.
لكن الذي أعلن عن نفسه من دون أي ضجيج هو صوت »مسعود العمارتلي«، منبعثاً من كوّة صغيرة تحولت الى معرض لأشرطة »كاسيت« تطلق ما عُرف وما لم يُعرف من أصوات المطربين والمغنين العراقيين، الأحياء منهم والأموات.
مسعود العمارتلي في القمة دوماً. في حياته الشخصية، مثلما هو في غنائه. فهذا (الرجل) كما يعرفه كثيرون خارج العراق، هو في الواقع (امرأة) من (وصايف) قبيلة (البومحمد) التي تقطن أهوار العمارة، تلك المدينة الجنوبية السومرية التي اسمها (ميسان) كما يروي العلامة اليهودي صموئيل كريمر وغيره من الأساتيذ الثقات في »السومريات«.
والغناء في العمارة، كما في الناصرية أيضاً، له أهله الذين يُعرف بهم. فهناك »جبار ونيسة« و»حضيري أبو عزيز« و»داخل حسن« و»السيد محمد« و»جويسم« و»كرير« و»إخوان الريف« و»صديقة الملاّية« و»زهور حسين« و»وحيدة خليل«.. و.. وحتى »عفيفة اسكندر« تلك الفتاة اليونانية التي تسمّت باسم »عفيفة« وخلبت ألباب وعقول تجار الأرز وصيادي السمك وطلاب المدارس وبعض الروحانيين.
مرض أحدهم ذات يوم، فطلب من ابنه أن يغني ويغني حتى يبرأ من سقمه.. فعل الولد ذلك، ولم يتوقف عن الغناء حتى عاد والده معافى.
وحضرت المنيّة أحدهم، فطلب من ابنه أن يواصل الغناء بعدما يسلم روحه، ثم يتبع جنازته مغنياً الى القبر، ولا يتوقف إلا بعدما يُهال التراب على لحده. ونفّذ الولد وصية أبيه.
وكان أحدهم يجلس على بساط في صدر المجلس، والأقوام كلها على بسط قبالته، ثم يبدأ بالغناء، ويتعلق الجمهور بذلك الرجل الذي يأخذ بتكسير آلات الإيقاع على يافوخه.
ورأيت »سلمان المنكوب« أو »ابن الملوك« كما يسمي نفسه، بعباءته، ولباسه العباسي التقليدي، ومسدسه الحربي مملوء رصاصاً، وجاهز للإطلاق، فقد كان هذا »العماري« مطلوباً في ثأر. وابن أمه، هو الذي لا يبكي عندما يستمع الى سلمان!
حتى الغجرية »سوريّة حسين« تكتسب مهابة خاصة، عندما تغني للناس، فتذكر حالها المهاجرة، كما طيور الأهوار، بحثاً عن الأمان والرضا والحب.
ومن أجل الحب، الحب السومري الصافي، الحب الذي يطهّر البشر، ويسمو بهم الى ذرى لا يصل إليها إلا أقطاب المتصوفة، تحولت »مسعودة« السمراء الى »مسعود« العمارتلي، بعدما وقعت في حب »علي« ابن أحد أكبر شيوخ منطقة الأهوار.
عندما يغني مسعود، يستقيل الألم من صفاته، ويتكرس صوتاً. حتى الجسد يختزل صفاته الفسيولوجية، ويستحيل الى: آه.. آه.. آه، ثم يبدأ القلب يحكي قصة اللوعة والفراق وتقطيع الجسد من أجل »علي«.
أكثر من هذا، مسعود يُنادي علي »علاّوي« الذي لم تنجب أم مثله، رجلاً يقدر على إدخال الأنس الى قلب هذه الصبيّة التي ميّزها لونها الأسمر عن البقية، وحال وضعها الاجتماعي بينها وبين حبيب العمر: علاّوي!
لا رجل، لا امرأة، يعرف، أو تعرف الجغرافيا الأخلاقية للهجة العراقية الجنوبية، لهجة الأهوار الميسانية تحديداً، إلا وينوح عندما يستمع الى »مسعود العمارتلي« وهو يعرض جراحه في كلمات.
كلمات، كلمات، يا مسعود.
ذات مرة، سمعت أمي تردد إحدى أغانيه:
»بيْن الجرفْ والمايْ، بطّة وْصِدِتْني،
تِكْسِرْ جْناحي ليْش، يلما رِدْتنيْ.
ويْلي يُمّهْ«!
لكن هذا الحزن المشتعل ضيْماً، يستحيل فرحاً عندما يغنيه محب أو عاشق يعيش خارج وطنه. رأيت هذه الحالة على صفاء قلّ نظيره مع مظفر النواب في »نقرة السلمان« و»مخيم فلسطين« بدمشق.
ورأيتها، أيضاً، بل لمستها مع عزيز السيد جاسم، قبل أن ينتهي العقد السابع من القرن الماضي: كان صديق مشترك، يُعيد على مسامعنا بعضاً من أعاجيب »مسعود« في حبيب العمر: »علي«. قال عزيز بعدما سكت المغني: عندما تأتي منيتي، أريدك أن تنشد خلف جنازتي، أغنيتنا الجميلة.
صرختُ بكل ما لديّ من جبل: يا أمي لا تبكي عليّ، أنا المناضل يا....، وتجمع حولي نفر من الفضوليين في »الساحة الهاشمية«، يرنون باستغراب الى رجل جاوز الخمسين بقليل، يباري »جلجامش« في حزنه على »انكيدو«.
وقفت منذهلاً: رأيت صديق العمر، الروائي، الصحافي، المناضل، عزيز السيد جاسم، يشير اليّ بأصابع منزوعة الأظافر، بين عمودين رومانيين في »الساحة الهاشمية«.
وكان صوت »مسعود العمارتلي« يأتي من بعيد، كأنه شخيب دم:
آه.. آه.. آه...
******
2
عمان
8-8-2002
انتبذ عليّ السوداني، قرنة عند هاوية أسفل »بيت الشعر« المطل على »الساحة الهاشمية« في عمّون، فقلت: أترك »علاّوي« كما يناديه حسب الشيخ جعفر، لأراقب طيراً صغيراً ينقر على غصن رطيب بمنقاره.
جاءني صوت رصين، هامساً رفيعاً، ثم علا وعلا، حتى صار صداه يتجاوز الآفاق: »حاسبْ نفسك في كل خطوة، وراقب الله في كل نَفَس، واستعمل لله عقلك في ترك التدبير، واستعنْ بالله على صروف المقادير«.
كأنه صوت يخرج من ناقوس ضخم. تعرّفت إلى مُنشئه وقائله الآن. أما المنشئ فهو: الحارث بن أسد المحاسبيّ. وأما القوّال صاحب الصوت فهو: عزيز السيد جاسم.
تكوّرت »الساحة الهاشمية« على نفسها، فصارت كرة صغيرة في راحة كفّي اليمنى، وتفرّق الناس أشتاتاً أشتاتاً، فجلست إلى صاحبي، أطارحه في تصاريف معراجه الروحي، وأستزيده تسآلاً حول ما آلت إليه أحواله، بعدما تلقفته الغيابات، واستفردته الوُجُر المدنية، وتفرق عنه صحاب السوق، وتركه أصدقاء المنفعة، وشمت به الذين أنقذهم من خوف وعوَز ومخمصة، ذات يوم.
قال: »إن الله لم يحتجب عن خلقه. إنما الخلق احتجبوا عنهُ بحبّ الدنيا«.
قلت: هذه لأبي بكر الشبلي.
قام »السيّد« ورفع ذراعيه نحو السماء، كأنما يُباهل، حتى لقد رأيتُ بياض إبطيه، وأنشد يقول:
فلو أنّ لي في كل يوم وليلةٍ
ثمانين بحراً من دموعٍ تدفّقُ
لأفنيتها حتى ابتدأتُ بغيرها
وهذا قليل للفتى حين يعشقُ
وكان عزيز السيد جاسم، في حياته في هذه الدنيا، عاشقاً للحقيقة، هائماً في الحق، صدوقاً مع الله، صادقاً مع نفسه، متأبطاً كفنه، هازئاً من شراسة السلطة، محتجباً عن السلطان، مجاوراً للفقر، مقبلاً على محاسبة النفس، متوسلاً أصعب الطرق وأكثرها وعورة ليملأ ساحات مدينته بتلك الفيوضات القلبية التي تجيء إليه من حيث لا يحتسب، مصاولاً تلك القدرات الدنيوية التي صعدت من الريف لتغزو المدينة فتجعلها مثل بعرات تيس.
وهذا هو الذي جعله بين شدقي قوتين جاهلتين وغادرتين: السلطة التي لا تعرف سوى الامتثال لاشتراطات مصادرة الحريات وإلغاء كل ما هو »آخر« بالنسبة لها. و»السلطة المؤجلة« الأخرى التي لا ترى إلا صورتها في المرآة. وهكذا كتب عليه قدر العداء المشترك من هاتين السلطتين، مثلما اختار هو أن يقاتل من موطئ قدميه خندقين أيضاً.
قتله الفريقان وهو حيّ، في نميمة الإعلام الداخلي، ثم دفنوه في مكان سريّ لا يهتدي إليه إلا حفارو قبور تخصصوا في تغييب الناس، لمجرد أنهم يمتلكون عقلاً ناقداً، ونفساً راضية مرضية، وخلقاً ينتمي إلى »متصوفة بغداد« الذين أعاد إحياء ذكراهم في سفر يحمل العنوان ذاته.
وعندما كتب كتابه الراقي: »علي ــ سلطة الحق« كان النّطع قد استكمل عدته واستعداده، وسيق الرجل الناسك إلى جُبّ في الخامس عشر من أيار/مايو سنة ،1991 ولايزال فيه إلى يومنا هذا، محبوساً أو مقتولاً.
سمعته يقول لي، بلسان المحاسبيّ: »مضت عليّ ثلاثون سنة، لم أسمع فيها شيئاً إلا من رأسي. ثم دارت عليّ ثلاثون سنة أخرى، لم أسمع فيها شيئاً إلا من الله«.
طوبى للفقراء.
قلتُ: لا تثريب عليك. هذه الدنيا قماشة خلقه، يا سُعد من داس عليها بمداسه.
انتبهتُ. كانت »الساحة الهاشمية« شبه خالية من الناس، ولم يكن إلى جانبي سوى علي السوداني، الذي مال نحوي قائلاً: يبكي علينا، اللحظة، الشطّان: دجلة والفرات.
من بعيد، رأيت البياتي، يتأبط يُـمنى عزيز السيد جاسم، ويذوبان كما يذوب السكر في الماء، في شبر ماء بين الماء والماء.
*******
3
الشارقة .
27 ـ 3 ـ 2003
في يوم من صيف سنة ،1971 تعرفت الى »الموسوي« في بغداد: في مطعم »سرجون«، في الحديقة الخلفية لهذا المنزل اليهودي الذي تحول الى مطعم بغدادي، التقيت عزيز السيد جاسم، للمرة الأولى.
ومنذ ذلك اليوم، وحتى توديعي له سنة ،1979 انعقدت بيننا صداقة عمر، لم تهزها تباينات سياسية بيننا، ولم تفلّ لبناتها قرابة 11 سنة من الانقطاع، ولا هزّها غيابه، أو تغييبه، منذ سنة ،1991 بل الذي حدث أن تلك التباينات وهذه الحادثات جعلت منه أقرب إليّ من أقرب وُلدي إليّ.
كان ابن »القرية العراقية« في كل تقاليدها وتراثها وأخلاقها، يثريه في ثرائه الأخلاقي صعوده في أرومته الى الإمام القتيل موسى الكاظم، وانكباب على الفكر وثوابت الأخلاق، منذ أن كان طفلاً صبياً حتى تجاوزه سن الحلم.
هذا التكوين الثقافي ــ الأخلاقي، هو الذي سيمنحه ــ لاحقاً ــ امتياز الاختبار الأكثر صدقاً مع نفسه، بكونه ماركسياً ضليعاً في نظرية الثورة، ومتمرساً في ثقافة الحرية، رغم العناوين الظاهرة للعيان على أساس تبويبه كسياسي قومي اشتراكي.
هذا التكوين ذاته، أيضاً، سيجعل منه حاسماً مع الأحزاب السياسية خارج السلطة، ومع السلطة في عزّ تمركزها، من خلال كتبه في الرواية والنقد الأدبي ومعضلة الحرية في مفهومها العربي.
إن كتابه »الثوري اللاثوري« ليس نقداً وكشفاً لسلوك المناضل السياسي قبل وفي أثناء وجوده في إطارات السلطة الحاكمة فقط، بل وتعميم هذا السلوك بإرجاعه الى منابته الطبقية والاجتماعية: إن الثقافة هي التي ستضيء حافات وكوامن هذا المخلوق السياسي، سواء كان يسارياً أو محافظاً أو ليبرالياً.
وسيرتفع هذا الكشف، الى مستواه الثقافي الفريد، كما عبر عنه المناضل السوداني الشفيع أحمد الشيخ، في كتابه الذي سد مجالاً واسعاً في الفكر العربي المعاصر: »الحرية والثورة الناقصة«.
وهكذا كانت كتبه التي تجاوزت الثلاثين عنواناً، محاورات مع النفس، ومناظرات مع »الآخر« السياسي والحزبي، ومصاولات مع »أصحاب القرار« في السلطة الحكومية. وفي الوقت عينه مضيفاً من منجم الحياة والتجربة الميدانية الواقعية، الى السطح والعمق الثقافي، ما يجعل الفكر أكثر غنى وثراء، وتعالياً في الوقت عينه.
إن أفكاره هي خططه المحروزة بين دفّاتها. أما كتاباته التي تستثيرها عذاباته الشخصية، وتوقدها هياماته بالتوحد مع فكرة العدالة والحق، فستجعل منه صيداً سهلاً من قبل خصومه.
وهكذا، ما إن ظهر كتابه الذي أعاد انتشاره على صعيد عربي واسع النطاق: »علي بن أبي طالب.. سلطة الحق« حتى وجد نفسه، كما هو موقف »الحلاج« البغدادي، في سجنه، وقبيل صلبه، وفي أثناء عملية الصلب، وبعد قتله كذلك.
ومن أجل ذلك، وكأنه كان يعرف مسبقاً، أين تقوده قدماه، اجترح كتاباً في »متصوفة بغداد« يشبه الثبت كثيراً، لكن مقدمته في كيفية »تأسيس« و»نشوء« و»نمو« مدينة بغداد، كمركز للسلطة السياسية، ومحور للحركة الثقافية، سيكشف أوراقه جمعاء، أمام السياسي المتربص به.
وهو لم يخذل ذلك المتربص الوغد، بل كان يغريه بالمضي قدماً في تقريبه من النطع: إن فكرة الاستشهاد، التي تندفع عميقاً في ثقافة عزيز السيد جاسم، وتتبوأ ذروتها في أرومة هذا الرجل، هي التي ستجعل من »تغييبه« في مايو / ايار سنة ،1991 كياناً فكرياً وأخلاقياً كأنه نُذِرَ للموت بقرار مسبق منه.
إننا حيال مثقف استثنائي، وإنسان سويّ، يريد أن يختار طريقة موته بأفعاله الثقافية، كما اختار عمق حياته السياسية وحافاتها وتجلياتها بإرادته الحرة، مع معرفته غير القابلة للتراجع، بأنه صائر الى الموت، بل الموت في أشد صوره، وأكثرها عسفاً.
عرفت هذا من تجربة يومية مشتركة معه. وعرفته كذلك من مرويات بعض أصدقائنا المشتركين، وفي مقدمتهم الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتي.
كانت خططه أن يتشرف بحمل صفة المفكر ــ الإنسان. هذا المخلوق الذي يعرف عزيز السيد جاسم »الموسوي«، إنه المستخلف في الأرض، والذي اختار الأمانة الإلهية، وقبل بحملها، بينما عجزت عنها السماوات والأرضين.
ولذلك مات شهيداً، وهو حيّ!
جمعة اللامي
الشارقة ـ ميسان
www.juma-allami.com