المألوف اليومي والمألوف الشعري في شعر محمد بن إبراهيم
عن منشورات سامبير، صدر للباحث المغربي الدكتور قاسم الحسيني كتابا جديدا حول المنجز الشعري لعلم من الأعلام الذين صنعوا شعرية القصيدة المغربية أيام التواجد الاستعماري، وهو محمد بن إبراهيم، ويحمل هذا الكتاب الذي أخذ على عاتقه رهان اقتحام هذا المنجز وفك مغاليقه ورموزه، عنونة تدل على عمق الدراسة وأهميتها "شاعر الحمراء بين المألوف اليومي والمألوف الشعري"، وهي دراسة أكاديمية تستغور العوالم الشعرية المبطنة عند شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم وتغازل فيه الإشراقات الجميلة والدقيقة، والتي تستدعي من الدارس لهذا المتن اعتماد وسائل تحليلية وتفكيكية قادرة على التأويل والتمثل واستخلاص الصور الحياتية في الديوان، إذ في الأخير ليس الشعر كونا طوباويا يحتمل التخييل فحسب، بل فيه من الحياة الرقراقة والمؤشرات الواقعية ما يجعله أهلا لأن يعاش ويستضمر ويكون وثيقة لمحيطه وشاهدا على عصره.
ومنذ البداية حدد الباحث قاسم الحسيني طبيعة اشتغاله على الديوان، إذ أكد على أنه سيقتحم النصوص مباشرة دون وسائط متخذا عالمها دليلا للدراسة والتناول، وقمرا ينير طرق افتضاض المعاني واجتراحها، قاطعا مع كل الدراسات التي أنجزت حول الشاعر وشعره، لا لأنها ليست في المستوى المطلوب، ولكن لإيمانه العميق بأن النصوص والمنجزات الإبداعية وحدها قادرة على كشف أسرارها الخبيئة إذا أحسن استنطاق مكنوناتها بعيدا عن الأحكام المسبقة التي تروج لها الإشاعات والأباطيل المضللة، لهذا أراد الدكتور قاسم أن يجعلها قراءة بكرا في الديوان، كما ظهر في آخر حلة له، وبدون خلفيات ولا مسبقات، فقد عبر الباحث عن رغبته في التخلص من كل التراكمات والرواسب القرائية التي قد توجه الدراسة وتتحكم في مسارها، ليقتحم المنجز الشعري بأيادي بيضاء، مسلحا بأدوات التحليل اللازمة لجعل النصوص تتململ لتقول ما تخبئه بين أضلعها من عوالم شاعر الحمراء.
إن الهدف الذي يتغياه هنا هو أن يعبر الشعر، كما ورد في "روض الزيتون"، عن عصره، لا أن يعبر العصر عن شعره، وهي رؤية ناضجة تحرر النصوص من الشوائب والهنات التي تلحق بها عنوة، يقول الدكتور قاسم الحسيني في تقديمه لهذا الكتاب "إنني حين أقدمت على هذه الدراسة، انطلقت من "روض الزيتون" اتجهت إليه بعيدا عن الوساطة سعيا وراء الكشف عن عالم صاحبه المليء بالمتناقضات على المستويين الموضوعي والذاتي: في تعامله مع العالم الخارجي اجتماعيا وسياقيا وثقافيا، وفي النظر إلى ذاته في بعدها النفسي والديني والحيوي بشكل عام."
ولعل الشيء الذي حفز الباحث على تناول شعر محمد بن إبراهيم هو صدور ديوانه كاملا في حلة أنيقة موسوما بـ"روض الزيتون"، حيث تأتى لشمل المادة الشعرية أن يجتمع بين دفتي كتاب واحد، بكثير من الدقة والموثوقية والتمحيص، مما جعل أرضية البحث الصلبة تتوفر لكل من يريد الإبحار في عالم شاعر الحمراء، ويشكل هذا العمل -ربما- العتبة الأولى التي يمكن أن تقود إلى إنصاف الرجل وإعطائه المكانة التي يستحق في زمنه الإبداعي، ويعود الفضل في جمع هذه المادة الشعرية الهامة وتوثيقها والتأكد من مدى انتسابها للشاعر، للدكتور شوقي بنبين الذي لم يكتف بذلك، بل ذلل الصعاب وسهل الطرق أمام الباحث لتناول هذا المنجز الشعري الثر، وذلك بوضع شروح وهوامش، يقول الدكتور قاسم الحسيني "يجب في البدء، وأنا أخط كلمات هذا التقديم، أن أعترف بفضل الأستاذ الزميل أحمد شوقي بنبين الذي أنار طريق العمل في هذه الدراسة بتلك الإضاءات التي وضعها في هوامش الديوان، فشكلت بالنسبة لي مرجعا بالغ الأهمية، إذ لولاها لما استقامت جوانب من هذه الدراسة، لان المعلومات التي كان يضعها في تلك الهوامش غير متوافرة في أي مصدر أو مرجع، كما أن أهمية ما وضعه عائدة إلى علاقة الأديب العلامة والد أحمد شوقي بنبين متعه الله بالعافية، وأطراف أخرى من أصدقاء شاعر الحمراء أو ممن عاشرهم".
وقد قسم الدكتور قاسم الحسيني كتابه هذا، إلى فصلين مع مقدمة وخاتمة، حيث تنبه الباحث إلى أن شعر شاعر الحمراء، بغناه وتعدد مواده وعمقه أيضا، يتيح للقارئ طرح تساؤلات هامة تورطه في المحكي الشعري وتشده إليه، إذ ليس شعر محمد بن إبراهيم مجرد ممارسة عابرة للكلام، بل إنه استغوار عميق لقضايا العصر واستيعاب لها وفق رؤية فنية عميقة وناضجة، وهو- أي شاعر الحمراء- إذ يستضمر قضايا اليومي في تجربته الشعرية، فإنه يفتح رؤاه على آفاق مشرعة لتمثل الحياة وإعادة بنائها وفق صوغ فني لا يخلو من جمالية ورؤى فكرية.
ولم يختر الباحث موضوع "المألوف اليومي والمألوف الشعري" بمحض الصدفة، بل تولد لديه هذا الاختيار انطلاقا من تمثل عميق للظواهر والقضايا النصية، وبعد تواصل حميمي مع عوالم النصوص، ومعاشرة عميقة لديوان "روض الزيتون" اتضح له أن الشاعر كان دقيق الملاحظة، ذكي الاقتناص للحظات الشعرية، شديد الالتقاط لأسئلة اليومي النابض بالحياة، وهو، في هذا، لم يكن ناسخا ولا حادسا، بل كان مستقرئا للواقع، مستوعبا لأسئلته الملحاحة، متأملا لقضاياه وفق تصور فني مقتدر.
ويرى الدكتور قاسم الحسيني أن شاعر الحمراء كان ماهرا في الجمع بين اتجاهين متناقضين، كلاهما كان يحفزه عالم يضج بالحركية والعلاقات الساخنة مع الواقع والشخصيات والأحداث التي عايشها الشاعر بتوثب: اتجاه ينحو منحى تراجيديا يهيمن عليه الحزن واليأس والأسى، واتجاه كوميدي تتخلله الفكاهة والدعابة والعبثية، وقد هيأ هذا للشاعر كتابة تاريخ للذات وللآخر شعريا وبلغة قصصية رائعة يغلب عليها الطابع الشعبي، وهذا ليس غريبا، فالشاعر لم يكن معزولا عن عوالمه ومحيطه ووطنه، بل كان شديد الاستحضار لهذه العناصر مجتمعة داخل التجربة الشعرية وخارجها، في الوطن وخارجه.
لقد بدل الباحث جهدا مضاعفا حينما انصرف إلى إبراز الظواهر النصية التي تتضمن اليومي المألوف، وتتبع كيفية تحولها إلى ظاهرة نصية تحفل بكثير من الإثارة والقيم الجمالية، إذ كان يقف على الشاهد الشعري ويشرح أبعاده الواقعية التي لها امتدادات في اليومي، ثم يعالج، بحنكة، كيفية تمظهرها فنيا، وهي عملية قرائية صعبة تتطلب حذقا نقديا ورؤيا فنية وحسا جماليا، وأكثر من ذلك، تستلزم امتلاك حس إبداعي كبير، ولعل توفر هذه الشروط في الباحث هو ما جعل عمله التحليلي لهذه الظاهرة يتمتع بالكثير من النجاح والتفوق، وقد زاد من جمالية العمل ما قام به المؤلف من تفكيك وتحليل تطبيقيين لنماذج شعرية كثيرة من ديوان "روض الزيتون"، وهكذا أتيح لنا، من خلال هذه الدراسة الهامة والموضوعية، أن نتعرف على العناصر المشَكلة لشعرية هذا الروض، وكيفية اشتغال العملية الإبداعية فيه، ولاحظنا، مع الباحث، كيف أن الحضور الوقائعي اليومي المعاش لم يكن عارضا بل أساسيا، ولم يكن الغرض منه احتفاليا، بل كان نابعا عن اقتناع قوي باللحظة والحدث، وناجما عن انسجام حميمي مع عناصر عالمه الحياتي والشعري.
إن مثل هذه القراءات العميقة والتناولات الموضوعية لمنجزات شعرائنا القدامى منهم والمحدثين، وحدها الكفيلة بنزع الغبن والغبار عن الكثير من الجوانب المتعلقة بشعرية القصيدة المغربية عبر العصور. وهي القادرة على خلخلة الرؤى الجاهزة ووجهات النظر المغلفة بالإيديولوجيا، وهي التي يمكن للنص أن يمنح، بين حضرتها، ذاته ويتجرد من عليائه، ويمكن أن يكون مطواعا أكثر من أية لحظة، لأنه ببساطة يحس بالأمان المسلوب. فلكي يتهيأ لنا أن نعرف ذواتنا بشفافية ووضوح علينا أن نستفيد من مثل هذه التناولات النصية التي تتجرد، ما أمكن، من الذاتية وتحرص على أن يكون الحضور للنص قبل أي اعتبار آخر.