وطولُ مُقام المرءِ في الحيِّ مُخلَقٌ – لديباجتيه فاغتربْ تتجددِ
فإني رأيتُ الشمس زِيدت مَحبّةً – إلى الناسِ أنْ ليست عليهم بسرمدِ
وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي يريد ببيتيه- الطويل- أن يحبذ السفر إلى الناس، فهو لا يريد أن يطرق معنىً متداولاً عن فائدة السفر الذي يغني عن الكتب، بل وهو المبتكر للمعاني يريد أنك باغترابك سيشتاق إليك أصدقاؤك ومحبوك، كما الشمس التي تغيب أو تحجبها الغيوم والسحب فيفرح الناس بشروقها وانبلاجها وقد قالت العرب: زُر غَبّاً تزدد حُبّاً.. ولكن أبا تمام لا يُخبر عن شوق المغترب إلى دياره وأهله في هذين البيتين لعل حجته تكمن في بيتين آخرين –الكامل- افُتُتِن بهما الناس وما زالا يترددان على الشفاه:
نقّل فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى – ما الحبُّ إلا للحبيب الأولِ
كم منزِلٍ في الأرضِ يألفُه الفتى – وحنينُه أبداً لأول مَنزلِ
وأبو أبو تمام هو أول من خرج على عمود الشعر وشق عصا الطاعة وجعل القصيدة ذات وحدة موضوعية متماسكة مبنىً ومعنى، ولم تأته المعاني عفو خاطر وإنْ جاءته وقبِلها سيزوِّقُها بالبيان والبديع وما إلى ذلك من المُحسنات اللفظية جناساً وطباقاً، ما يعسّر الفهم على سامعيه أحيانا... وهو يبدأ بالمعاني بلا مقدمات بل يدخل في معمعمة المعاني منذ الاستهلالات وتستمر حتى الخواتم ولا أدلّ على ذلك من قصيدته البسيطية في واقعة عمّورية ذات المطلع الصارخ :
السيفُ أصدقُ إنباءً من الكُتُبِ – في حَدّه الحَدُ بين الْجِدِّ واللَّعِبِ
( وهذا البيت سمعته وأنا صغير لأول مرة من الزعيم عبد الكريم قاسم في إحدى خطبه واستقر في الذاكرة ) .
أبو تمام بالإضافة إلى كونه شاعراً كبيراً فهو رحّالة أحبّ السفر وطوى الأرض مُشرِّقاً ومُغرِّبا ! وذات مرّة وهو في خراسان عند حاكمها للخليفة المأمون وأعني به القائد العسكري المرموق عبد الله بن الطاهر الخراساني ( ت230 ) الذي مدحه فلم يلق عنده حظوة، فقفل راجعاً وإذ هو في أطراف همذان سقط الثلج ثقيلاً وحوصر بسببه ففتح له مضيّفُه خزائن مكتبته وأكبّ يقرأ ويدوّن ما يختار فتكونت عنده حصيلة هامة انضافت إلى حافظته الغنية السابقة من أشعار العرب جمعها في ديوان قوامه عشرة أبواب، وحيث شغل ثلث ما تحصل عليه من باب الحماسة سمّى كتابه باسمها ( ديوان الحماسة ) إضافة إلى أبواب أخرى من مديح وهجاء وغزل ورثاء،، وحين حذا حذوه آخرون أصبحت تسمى ( حماسة أبي تمام ) ... فالفضل هنا يعود بولادتها لرحلته وللثلج !
وبعد نحو قرن ونيّف سيتكرر المشهد ذاتُه مع شاعر آخر عظيم الشأن هو الآخر رحّالة، شرقّ وغرّب في أطراف الأرض، يمدح هذا ويهجو ذاك ثم ينقلب على ممدوحه هاجياً كأقذع ما يكون الهجاءّ، وسجل ما شاهد في رحلاته شعراً وأعني به أبا الطيب المتنبي ( 303-354 ) ...
توسم المتنبي خيراً بالأمير العربي بدر بن عمّار بن إسماعيل الأسدي صاحب طبرية فشدّ الرحال إليه وحيث هو في جبال لبنان هطل الثلج ثقيلاً في شتاء 327ه فأوحى له بقصيدة كاملية من أجمل قصائد المتنبي بل أحسبها من حور الشعر العربي العين :
أمِنَ ازديارَكِ في الدُّجى الرُّقُّباءُ – إذ حيثُ كنتِ من الظلامِ ضياءُ
إلى أن يقول :
وعِقاب لُبنانٍ وكيف بقَطْعِها - وهُوَ الشتاءُ وصيفهنّ شتاءُ
لبَس الثلوجُ بها عليَّ مَسالكي – فكأنها ببياضِها سَوْداءُ
وكذا الكريمُ إذا أقام ببَلدةٍ – سال النُّضارُ بها وقامَ الماءُ
ولولا الرحلة وهطْل الثلج الذي حاصر شاعرنا لما ولِدت هذه الخريدة.!
كل هذه الخواطر داهمتني وأنا أنتظر في ميناء جيجو الجزيرة الكورية لآخذ الباخرة إلى مدينة واندو...
***
دلفت من بويبة خاصة للأجانب وكنت الوحيد غير الآسيوي، تحركت الباخرة الموسومة باللؤلؤة الحمراء انزلقت في موعدها في الثالثة والنصف عصراً على صفحة الماء وانسابت وئيدة؛ واستمتعت بمشاهدة السيارات الكثيرة وبحمولات ثقيلة وكان عدد الركاب قليلاً نسبياً بعد تقليص الرحلات عقب حادثة الغرق التي ذكرناها.. الجو جميل والمناظر خلاّبه حيث تظهر من بحر الماء جزر شاهقة ضيقة تكللت ذؤاباتها بأشجار .. وقوارب الصيادين تدل أن البحر غني بالثروة السمكية توقفنا مرة في إحدى هذه الجزر ثم واصلت رحلتها؛ كان مشهد الغروب آسراً جلست خلال الرحلة أدون ما جال في خاطري عن ابي تمام والمتنبي.. وصلنا على السابعة والنصف.. أعطيت العنوان لسائق التكسي وأخبرني أن الأوتيل خارج المدينة مطل على البحر ويبعد خمسة عشر كيلومتراً حدست أن المناظر جميلة حيث تتلألأ الأضواء على صفحة البحر فتبدو كأشباح متراقصة على الماء... المدينة صغيرة والأوتيل صيفي صغير سجل رواده الغربيون والآسيويون رسومهم وكلماتهم على أحد الجدران بمختلف اللغات والأسماء! لم يكن في الأوتيل سوى نزيلتين شابتين كوريتين لم تتكلما أي لغة أجنبية .. جلسنا في المطبخ نتناول العشاء، عليً أن أسافر في الغد الباكر الى ميناء بوسان! أشارتا بأنهما يستطيعان أن يوصلاني بسيارتهما في الصباح الى مجمع السيارات إن نهضتُ مبكراً هكذا فهمت !
من أجمل المفاجآت حين ينهض المسافر ليكتشف ما يحيط به وهل يتطابق الواقع مع مخيلة الأمس ! .. رأيت البحر جميلاً والصيادون يلقون شباكهم أويجمعون صيدهم... خرجت أنتظر الباص وقد دلني رجل الى حيث أريد وكان غاية في اللطف أراد أن يدفع عني أجرة الباص فاعتذرت !
وصلت بوسان بطريق برّي بحوالي خمس ساعات على مرحلتين.. وبوسان هي ثاني أهمّ المدن الكورية وهي ميناؤها الأكبر هي عروس البحر ومفخرة الكوريين لمن يودع عند المغادرة إلى اليابان أو للقادم من اليابان عبر الأرخبيل.. قررت وفق خطتي أن أعبر من خلالها الأرخبيل بعد ثلاث ليال فإن طابت لي مُقاماً ستكون مستقري لليالٍ أخَر.. فندقي يقع قبالة المحطة المركزية في أهم موقع حيث المدينة الصينية والمطاعم والأسواق التي تعج بالفواكه والأسماك وثمار البحر، وعلى خلاف أي مكان آخر في كوريا كان طعامها الألذ وناسها الأكثر طيبة، فيها أناس من كل القارات والمدينة الصينية حافظت على طابعها المعماري الصيني لكنها أصبحت روسية تزدحم باللحم الابيض الروسي حيث يُنادى على المارّة بمختلف اللغات حسب سحنة المار وللتخمين والخبرة دور كبير!!
لم أعاودِ المرور بالمدينة الصينية رغم أن هناك مطاعم ومحلات تجارية محترمة، فضلت أن آكل السمك وأشرب السوجو المشروب الوطني الكوري اللذيذ والرخيص وفيه انواع شتى، وهو فاتح شهية أيضا !
وإذا وُصِفت مدينةٌ حالمة فستكون بلا شك بوسان، هي مدينة الجولات المائية وهي مدينة الباركات وأهمها بارك يونغدوسان الذي يحتوي على أشجار نادرة ويتوسط البارك الذي يتبوء تلال وسط المدينة برج مسمى باسم البارك وفي الحديقة تماثيل لأبطال كوريا الذين صدّوا الغزوات البحرية، كما تجد فيه سياج العشاق الذي يحتوي على أقفال العشاق الذين تعاهدوا على الإخلاص وديمومة الحب الخالد؛ وعدد الأقفال هو الأعلى في العالم ولكنني لا أعلم كم من هذه الأقفال التي لا تحصى عدداً بقي أصحابها أوفياء مخلصين للحب الخالد! من البرج ترى بانوراما المدينة والجسور المتحركة والجسور التي تنفتح بأوقات محددة لعبور البواخر.. أما المتاحف المتخصصة فهي عديدة، بوسان ذات معابد تاريخية قليلة فالكنائس لها هي الأخرى نصيب.. وعندما تسأل الناس عن الدين ستجدهم في الأعم الأغلب ملحدين أو لا دينيين!! ولكوني مزمع السفر ذهبت إلى الميناء مشياً عبر المحطة، ودهشت لهذا الميناء لسعته وحسن تنظيمه وما توفر عليه من مطاعم ومشارب قطعت إلى فوكوكا اليابانية على الجانب المقابل للأرخبيل حيث كان في نيّتي أن أزور ناغازاكي وأرجع الى هيروشيما التي اشتقت إلى سحرها.. وحسناً فعلت حين لم أحجز في أوتيل، ذلك أن الرحلات أرجئت بسبب المد لمرتين! وإذ ذهبتُ الى الشركة لأُلغي الرحلة وأسترجع المبلغ المدفوع، وإذا بعاصفة هبت مع أمطار خلعت المظلة فاضطررت لإطلاقها فحلّقت كأنها ريشة في مهب الريح! وقد فعل غيري مثلَ ما فعلت؛ رجعت الى الأوتيل متعباً انتابتني حمى خفيفة وسعال!! ذهبت لأجدد الحجز فلم أجد مكاناً.. قررت السفر الى مدينة قريبة من سيؤل وهي أوساني وحصلت على حجز في أوتيل ممتاز وبسعر معقول لثلاثة ليال، وهكذا قضيت نحو أربع ساعات في حافلة أوصلتني الى مدينة قريبة وأكملت ما تبقى بالتكسي... وصلت متعباً فقد اعترتني رعداتٌ ورجفات وشيء بين الحمى والبرودة فاعتمدت سوائل ساخنة وعصائر باردة وبقيت لا أخرج من الأوتيل إلا لَماما.. المدينة صغيرة وجميلة تشبه المدن التي يصفها أج. سي. أندرسن في عالمه القصصي، هي صغيرة وذات طابع كوري تقليدي قديم في كل شيء وحسبتُ أنني وحدي الأجنبي وإذا أفاجأ بالأوربيين متوسطي العمر من الجنسين ينشدون الهدوء ويرومون تمضية عدة أيام على طريقة الحياة الكورية فقد ملّ الغربيون أماكنهم الغربية وانجذبوا لسحر الشرق !
بدأت أستعيد عافيتي بعضَها لا كلَّها، فقد كنت أحسب نفسي متوهماً أنني مازلت ذلك الشاب الرياضي فقد كانت ملابسي خفيفة لا تتلائم مع المناخ الربيعي الكوري المتقلب، فرجعت بقناعتي الى كهولتي واشتريت ما يدفئني من الملابس مردداً قول أخي خزاعة ( الطويل ) :
لقد عجبت سلمى وذاك عجيبُ – رأت بي شيبا عجّلته خطوبُ
وما شيبتني كبرة غير أنني – بدهر به رأس الفطيم يشيبُ
لله درّك يا دعبل وهو يخاطب سلماه نفسها ( الكامل ) :
لا تعجبي ياسلم من رجلٍ – ضحِك المشيبُ برأسه فبكى!
وللموضوع صلة
ملاحظة: لم أنشر الصور لكي أوفر للنص الكتابي مجالاً أوسع ومن يروم فسأنشر في موقعي على الفيس بوك صوراً تعزز النص..
خالد جواد شبيل
رام كم هنغ 31 تموز/يوليو 2016