ريتشارد جي بجز ستيفنس
أستاذ بكلية الطب - جامعة كونيتيكت
مع ظهور خريطة جديدة تكشف عن المناطق الأكثر تأثرًا بالتلوث الضوئي الناتج عن الأضواء الكهربائية في المدن أثناء الليل، يبحث أحد الخبراء عما قد تحدثه كل هذه الأضواء من آثار على صحتنا الذهنية والبدنية.
أبرزت دورية "ساينس أدفانسيس" في الأيام القليلة الماضية صدور الأطلس الشامل الجديد الذي يكشف عن تأثير الأضواء الصناعية في السماء ليلًا في العالم، والذي أعدته مجموعة من العلماء البارزين بقيادة فابيو فالتشي، الإيطالي الجنسية. ويعد هذا العمل إنجازا جديرا بالاهتمام في مجال التلوث الضوئي.
وقد ظهر أول أطلس للإضاءة الصناعية للسماء ليلا في العالم سنة 2001، ولكنه استند إلى نظام قياس بالأقمار الصناعية أقل دقة. أما الأطلس الجديد الذي صدر مؤخرا فيوفر قياسا أكثر وضوحا بمراحل.
ويقيس أطلس التلوث الضوئي ما يعرف باسم "الوهج السماوي الصناعي"، أي انتشار الضوء المنعكس من الإضاءة الكهربائية على الأرض في الجو، في جميع أنحاء العالم. وينتج الوهج السماوي عن التلوث الضوئي، أو الإضاءة الكهربائية المفرطة أثناء الليل.
ولكن على عكس تلوث المياة، الذي يشير إلى ما يلحق بالمياه نفسها من تلوث، فإن التلوث الضوئي هو في جوهره تلوث السماء في الليل بسبب الإضاءة الكهربائية المفرطة.
ما هو حجم المشكلة؟
ومن بين المعايير التي استُنِد إليها في تحديد إلى أي مدى حُجبت عنا رؤية السماء ليلا، تشير تقديرات فالشي وزملائه إلى أن ثلث البشر لم يعد بمقدروهم أن يروا درب التبانة بسبب الوهج السماوي.
لا يؤثر التلوث الضوئي على إمكانية رصد النجوم فحسب، بل يشير فالشي وزملاؤه إلى أنه يؤثر أيضًا على البيئة والصحة العامة
والمتضرر الأكبر من الوهج السماوي هو الدول الصناعية الكبرى، إذ أن 60 في المئة من الأوروبيين و80 في المئة من سكان أمريكا الشمالية لم يعد بمقدورهم أن يروا درب التبانة ليلًا.
لكن التلوث الضوئي لا يؤثر على إمكانية رصد النجوم فحسب، بل يشير فالشي وزملاؤه إلى أنه يؤثر أيضًا على البيئة والصحة العامة. ونظرًا لكوني مختص في علم الأوبئة، وقد عكفت لعقود على دراسة ما قد يخلفه الضوء الكهربائي من آثار على الصحة، فقد شغل هذا الأمر اهتمامي بشكل كبير.
ويستخدم أطلس التلوث الضوئي قياسات ضوئية مأخوذة من القمر الصناعي التابع للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، "سومي"، الذي يدور في مدار يبعد 800 كيلومتر عن الأرض ويلتقط صورا للأرض ليلا.
ويستشعر القمر الصناعي "سومي" كثافة أي مصدر ضوء يقوم برصده، ويحدد موقعه على الخريطة. ثم تُحول هذه القياسات، عبر أساليب معقدة لصياغة نماذج عبر الكمبيوتر، إلى خرائط ملونة لكل منطقة في العالم تبين مستوى الوهج السماوي فوق المدن والبلدات والمناطق الريفية المجاورة.
وبينما تبدو الخرائط جذّابة وتروق للناظر، إلا أن الرسالة التي تنقلها لا تبشر بالخير. إذ كلما زاد الوهج السماوي، بات من الصعب رؤية النجوم في السماء ليلًا. فعلى سبيل المثال، إذا وقفت في ميدان تايمز سكوير، في قلب مدينة نيويورك، عند منتصف الليل، لن ترصد إلا عددا قليلا من النجوم في السماء، إن وُجِدت من الأصل.
ويقول ناشرو الأطلس الجديد إن المناطق التي تظهر على الخريطة باللون الأحمر، لا يخيّم عليها الظلام ليلًا، لأن سطوع السماء مساءً في هذه المناطق يجعلها أشبه بالغسق الزائف.
وفي الواقع، يلاحظ فالشي وزملاؤه أن: "البلد التي سُجلت فيها أعلى نسبة تلوث ضوئي هي سنغافورة، حيث يعيش سكانها تحت سماء ساطعة للغاية مساءً إلى درجة أن أعينهم لم تعد تستطيع التأقلم كليًا مع الرؤية الليلة عندما يحلّ الظلام".
ما زالت الآثار الصحية لمصادر الضوء داخل هذه المدن مساءً، وما تسببه من وهج سماوي محل بحث مكثف
كما أنه في المناطق الأكثر تأثرا بالتلوث الضوئي من المدن الكبرى في أوروبا والأمريكتين وآسيا، تكفي مستويات الضوء في الشوارع، في بعض الأحيان، لمنع أو تأخير التغيرات التي تطرأ على وظائف أعضاء الجسم في أوقات المساء المعتادة والتي من المفترض أن تبدأ مع غروب الشمس تقريبا.
ولكن ما زالت الآثار الصحية لمصادر الضوء داخل هذه المدن مساءً، وما تسببه من وهج سماوي محل بحث مكثف، ولم تُقدر عواقبها كليا بعد.
وقد بدأت المجتمعات النامية أيضًا تستخدم الإضاءة الكهربائية مساءً، ومن ثم، بدأ التلوث الضوئي ينتشر في نطاقها بمعدل سريع للغاية. وأؤكد أن هذا يمثل تغيرًا هائلًا في البيئة.
ولا تكمن مشكلة الوهج السماوي في المدن الكبرى والمناطق الحضرية فحسب، بل يشير ناشرو الأطلس الجديد إلى أن منطقة "ديث فالي" الصحراوية شرقي ولاية كاليفورنيا مثلًا تسطع فيها السماء ليلًا بسبب الأضواء القادمة من لاس فيغاس، ولوس أنجليس، ومن ثم فلا تخلو المنطقة من التلوث الضوئي.
الوهج السماوي لا يمثل مشكلة في المناطق الحضرية وحدها، بل امتد أيضًا إلى منطقة "ديث فالي" الصحراوية في كاليفورينا بسبب الأضواء الصناعية القادمة من لاس فيغاس ولوس أنجليس
إن البشر، كشأن سائر الكائنات الحية التي تعيش على كوكب الأرض، لديهم إيقاع يومي داخلي يسمى الساعة البيولوجية، وهي عبارة عن دورة داخل الجسم تتحكم في أنماط النوم والاستيقاظ، وأوقات الشعور بالجوع، وإنتاج الهرمونات، ودرجة حرارة الجسم فضلًا عن طائفة عريضة من العمليات الفسيولوجية الأخرى.
وتستمر هذه الدورة لمدة 24 ساعة تقريبًا، ويعد الضوء ولا سيما ضوء الشمس، والظلام، علامتين مهمتين لحفظ استمرارية وتوازن هذه الدورة.
ربما يكون الوهج السماوي الذي ذُكر في أطلس التلوث الضوئي الجديد أقل من المعدل الذي قد يؤثر تأثيرا مباشرا على الساعة البيولوجية للجسم، والذي يقاس بمدى تثبيط الضوء لإفراز هرمون الميلاتونين المسؤول عن تنظيم الإيقاع الحيوي لدورات النوم والاستيقاظ.
بيد أن الوهج السماوي الذي يقيسه أطلس التلوث الضوئي الجديد هو انعكاس جوي للأضواء الكهربائية في البيئة الملاصقة للبشر.
وتكفي مصادر الضوء التي تحيط بسكان هذه المناطق في الكثير من الحالات لإحداث خلل في الساعة البيولوجية للجسم، وذلك يشمل الإنارة داخل المنازل، والمباني التجارية، وبعض أنواع أنظمة الإنارة في الشوارع.
ولذا، تبين الخرائط أيضا الأماكن التي يسبب فيها الضوء في المساء بجميع أشكاله أكبر قدر من الاضطرابات في ساعاتنا البيولوجية، سواء داخل المباني أو لأولئك الذين يقضون المساء في الخارج.
وقد تطورت هذه العمليات الفسيولوجية (أي التغيرات التي تطرأ على وظائف جسم الإنسان) التي تحدث خلال 24 ساعة تقريبًا، على مدار مليارات الأعوام. ولم تدخل الكهرباء حياة البشر إلا منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولم تتح على نطاق واسع في الدول الصناعية إلا منذ القرن العشرين.
وعلى الرغم من أن هذا الوقت قد يبدو طويلًا، إلا إنه نقطة في بحر عمليات التطور التي يمر بها الإنسان. وقد بدأنا نفهم لتونا الآثار الصحية التي يحدثها الضوء الصناعي على العمليات الفسيولوجية التي تحدث على مدار 24 ساعة تقريبًا.
ومع زيادة الإضاءة مساءً، زاد فهمنا للعمليات الفسيولوجية التي تحدث على مدار اليوم، وكيف يمكن أن يؤدي الضوء في الظلام إلى اختلال وظائف أعضاء الجسم.
وقد أثيرت شكوك مؤخرًا حول العلاقة بين اضطرابات الساعة البيولوجية وبعض الأمراض الخطيرة مثل الأرق والسمنة ومرض السكر وبعض الأنواع من الأورام السرطانية والاضطرابات المزاجية.
أثيرت شكوك مؤخرًا أن بعض الأمراض الخطيرة قد تكون ناتجة عن اضطرابات الساعة البيولوجية.
وتعد الإضاءة الكهربائية في الأوقات غير الملائمة، ولا سيما في المساء، أقوى المؤثرات البيئية التي قد يؤدي التعرض لها إلى اضطراب الساعة البيولوجية للإنسان.
بالإضافة إلى أن التلوث الضوئي له تبعات خطيرة على البيئة، منها نفوق بعض الطيور المهاجرة والثدييات البحرية.
وكما تسببت التكنولوجيا في مشكلة التلوث الضوئي، بعد اختراع المصباح الكهربائي، فإن تكنولوجيا العلوم الحيوية هي التي توضح لنا الآن ما هي أشكال الضوء الأكثر والأقل ضررا بساعاتنا البيولوجية، وما هي الأوقات الأكثر والأقل ضررا من اليوم التي يمكن استخدام الضوء الكهربائي فيها.
ويستعان بهذه المعلومات حاليا لإنتاج مصادر ضوء مناسبة لأوقات معينة من اليوم. فمن الأفضل استخدام ضوء ساطع ذي محتوى مرتفع من الضوء الأزرق، مثل المصباح الفلورسنت المدمج في الصباح، وضوء خافت ذي محتوى منخفض من الضوء الأزرق، مثل المصباح المتوهج ذو الجهد الكهربائي المنخفض، بداية من وقت الغسق، على أن تُغلق جميع شاشات أجهزة الكمبيوتر اللوحي والهواتف الذكية ذات الضوء الأزرق الساطع، ويستعاض عنها بالكتب الورقية في وقت المساء.
وسيكون من بين النتائج العديدة لهذا العمل تصميم نظام إنارة الشوارع. إذ يخضع في الوقت الحالي تغيير أنظمة إنارة الشوارع في مجتمعات بأكملها، مثل لوس أنجليس ونيويورك، إلى مصابيح "إل إي دي" (ليد)، للبحث والتحقيق، لأن هذا النوع من الإضاءة ينتج أطوال موجات خاصة بالضوء الأزرق، وهي الأكثر ضررا على العمليات الفسيولوجية التي تحدث أثناء المساء وعلى سلامة الإيقاع اليومي.
وربما آن الأوان لنعيد النظر في أنظمة إنارة الشوارع، فإن سلامة الكوكب لا تقل أهمية عن ترشيد استهلاك الطاقة.