أول الكلام :
يشُبُّ الطفل ويرى وجوهاً حوله يُحبونه ويحبهم ثم يكبر ليتعرف على وجوه خارج العائلة قد يألفهم بعد تردد أو يخشاهم، هو لا يحب المعلم إن أمسك بعصاه وبوجه صارم ليخبر تلاميذه الصغار: العصا لمن عصى ! هو يحب معلما أخراً ودودا حانياً لا يضرب وإنما يبتسم وحيث يُخطىء التلميذ يصبر عليه ولا يُحرجه حتى يقوده الى ما هو صحيح... هو ينظر إلى الشرطي بحياد، ثم يتعرف لاحقاً أنه قد يكون مكروها، وهو أداة قمع عند الحاجة، وهو مرتش !! هو يحب الحمّال ويتمنى أن يُعطى أكثر مما يستحق.. هو يحب المرأة الجميلة لكن لايود أن يراها ثانية حين يكتشف أنها تزرق الأبر في إليته ! هو يسمع عن بائعة الهوى ويسمع بالحرامي وينظر لهما بصورة ذهنية مرتابة، لكنه يتمنى بعد أن كبر أن يرى بائعة الهوى وأن يرى الحرامي، بماذا يشبهون البشر وبماذا يختلفون عنهم !! هو يحب المَلِك ويحب كل من يحبه، وينفر من نوري السعيد نفوراً ويحب كل من ينفر منه !
ترتسم هذه الصور النمطية للبشر في أذهاننا، والسؤال : هل يترتب عليها حالة عاطفية أو سلوكية في تفاعلنا مع الناس ! لماذا نحن نحب الأطفال! لماذا نتعاطف مع المعوق أو أصحاب الإحتياجات الخاصة، نقود الكفيف إلى حيث يريد..؟ قد تبدو أسئلة ساذجة، هل هي كذلك ؟
***
ولكن السؤال هو: هل هناك كيمياء بشرية مسؤولة عن التجاذب والتنافر بين البشر؟؟
يُعتبر علم النفس وشقيقه الأصغر علم الإجتماع من أحدث العلوم الإنسانية، الأول يختص بالفرد والثاني بالجماعة وبينهم كثير من التداخل حتى نشأ علم وسيط بينهما هو علم النفس الاجتماعي.. واكتنفت الأول كثير من التصورات وخالطه كثير من الأوهام حتى انسلخ انسلاخات هامة عن طريق التجريب وتطور ووقف على قدمية كعلم رغم النظريات المتضاربة أو المثيرة للجدل مثل أبحاث فرويد عن الأحلام وتفسيرها والدخول إلى نظرية اللاشعور وتفسيرها لكثير من الظواهر والدوافع وأهمية التفسير الجنسي كدافع هام ...الخ .
ولكن أعظم ما واكب علم النفس هو مظهر الوجه والقسمات فكان ينظر للوجه الصارم الذي يوحي إلى العدوانية، ومظهر الوجه الوادع المسالم الذي يوحي إلى الطيبة .. وأغرب من ذلك موحيات تكوين الرأس وتشبيهها بالحيوانات : فذا يشبه الثعلب ماكر، وذلك يشبه الغول وذاك يشبه الحنفيش وذلك مثل الخنزير... لقد سقطت هذه اللإعتبارات من علم النفس بعد أن لعبت دوراً كبيرا في تجريم أناس أبرياء في مراكز الشرطة من خلال موحيات الوجه وما يكتنفها من انفعالات نتيجة الخوف!
واستفاد علم الجريمة من علم النفس ونظرياته العلمية وخاصة نظرية الدوافع.. ولنرجع إلى " كيمياء البشر"..ولكن يطيب لي أن أرويَ ما رواه صديق لي متخصص بعلم النفس يقول : دعيت إلى وليمة فيها ناس من عامة الشعب، وقدّمني صاحب الدعوة إليهم مفتخراً بأنني أستاذ في الجامعة بعلم النفس فكانت النتيجة عكسية، وساد بعض الحذر ورغم أنني حاولت أن أضفي شيئاً من المرح حتى لعبت الاقداح وأزاحت الخجل، فقال لي أحد وجهائهم : يعني حضرتك إذا تنظر للإنسان أو سمعت شيئاً قليلاً من كلامه راح تعرف ماهية دواخله ؟!!
في مطلع القرن العشرين أصبح مصطلح الكيمياء البشرية متداولا من قبل العالم الألماني "دي غوتييه" الذي حاول أن ينظم جدولا لمدركات التجاذب والتنافر بين البشر، ما حفّز المهندس "فايربرن" لتأليف كتاب يحمل عنوان "الكيمياء البشرية"، مسهبا في أن الجسم البشري فيه من المواد الكيميائية الكثير ما يجعله يخضع لتأثيراتها.. ثم تتابعت الدراسات التي تماثل العلاقات الإجتماعية بين البشر في التجمعات السكنية وكذلك في العمل بعلم الكيمياء مما أشاع مصطلح "كيمياء البشر"!
الكيمياء علم خصائص المواد وتراكيبها وتفاعلاتها أي علم يستمد مصداقيته من المختبر الذي هو محك أي علم محض.. وما يصطلح عليه ب "كيمياء البشر" هو اعتبارات عاطفية تخضع لعلم النفس ونظرية الدوافع والميول..
فأنا أرى رجلاً مثلاً زميلاً لي فإن لمست فيه تشابها مع أخي في الشكل بنيت عليه تصوراً ذهنياً ثم عاطفياً.. وترى بنتٌ يتيمة أستاذاً لها يُشبه والدها في مرحه وحنانه فتنجذب له وقد ينجذب لها وفي كلتا الحالتين إن بدر منه خطأ فالخطأ مغفور، وقد قال المثل العربي : وكل ما يفعل المحبوب محبوبُ.. وقال المثل العرفي : ضرب الحبيب أكل زبيب.. والعكس هو الصحيح حين نرى سيدة مديرة محترمة في واجبها، فإن كانت لها ملامح زوجة الأب القاسية فينتابنا نفور !!
نحن نحب الأطفال ونداعبهم وهم صغار نحاول أن نُضحكهم فيستجيبون ونطرَب لضحك الأطفال، لماذا ؟ لأن نسب وجههم لا تشبه نسب وجه الكبار وهي وسيلة دفاع الطفل، ناهيك عن ضعفه فهو لايؤذي بنضارته وضحكته وحين يناغي تخفق لهم القلوب، نحب صغار القطط والجراء والحُمْلان.. وشفيعنا ما قاله الشاعر:
"أحب كلَّ صغير حتى صغارَ العقارب" !
أحب الناس بشكل لا يصدق منذ طفولتي، فأنا لا أريد للضيوف أن يغادروا، لم أضرب أبداً ترباً لي.. حين التقي الناس وأجالسهم أتوسم فيهم خيراً أود لو أكلمهم.. هل أنا أخضع لعلم زائف اسمه " الكيمياء البشرية".. كثيرا ما يبرر الإنسان عنصريته ونفورة ملتجئاً الى عدم التوافق الكيميائي !!
بالتأكيد أنا مثل غيري أميل لبعض الأصدقاء بقوة ولكنني لا أكره الآخرين قط حتى وإن نفرت لسبب وجيه.. فالناس فيهم المزعج وفيهم المرهف، وفيهم العبوس وفيهم البشوش وفيهم المهذار وفيهم المتزن، نعم يؤسرني بعض من الناس وليس كل الناس ولا أدري من هو المطرب المغربي (أظنه عبد الوهاب الدكالي) الذى غنّى : ما انا إلا بشر- عندي قلب ونظر!!
في جامعة بغداد أحببت طلاب الجنوب وأحببت الطلاب الأكراد ووجدت بين الإثنين مشتركات قوية رغم التباعد الجغرافي وفرق اللغة الأم : هي الطيبة والصدق والأمانة، تعلمت من الأكراد لغتهم وتراثهم الغنائي وتعرفت على شعرائهم، وأحببت طلاب السليمانية لتحضرهم وثقافتهم.. وأحببت أبناء الموصل.. وأحببت التركمان وكانت لي صداقة طيبة مع بعضهم.. ولي أصدقاء من تكريت أعتز بهم وأحدهم جلا لي صورة تروتسكي بعد أن كانت مضببه في ذهني رغم أعجابي به.. وأحببت أصدقاء من هيت ومن عنه.. ومنذ الروضة كان لي صديق يهودي حتى بعد هزيمة حزيران 67 كان صديقا صدوقا وأظنه من آخر من غادروا العراق.. ولي أصدقاء من الصابئة ومن المسيحين مازالت علاقتي بهم وطيدة ولي أصدقاء أصدقكم لا أعرف إن كانوا سنة أو شيعة !! وأحبب من عرفت من الزميلات في الجامعة وعشقت ..
وأحببت وأحببت ومازلت أحب وأظل أحب ما دام العجين لم يختمر بعد !
إن حبي عابر ل "كيمياء البشر" بشتى تلاوينها!
السادس والعشرون من آب 2020
الثامن من شهر محرم الحرام 1442