أول الكلام :
كان الباعث لكتابة هذه الفرزة حتى قبل أن يختمر عجينها عدة أمور، منها يوم عاشوراء والممارسات التي تم نقلها والتي اتخذت طابعا ثورياً ساخناً متحدية سلطة الإسلام السياسي وحلفائها الذيول والميليشيات المجرمة.. وأرى هذه الممارسات لطقوس محرم ليست جديدة بل هي امتداد للإرث النضالي لشعبنا ضد الأنظمة الدكتاتورية الغاشمة المتعاقبة على حكم العراق وأكثرها طراً حكم البعث الذي قمع جموع الجماهير المتجهة مشياً إلى كربلاء في أربعينية الحسين متحدية قرار الحظر، بشكل وحشي استخدمت فيه الأسلحة الخفيفة والثقيلة لأناس من أهل النجف عُزّل بما عرف بواقعة خان النص في فبراير/شباط عام 1977 حيث ثم إعدام وقتل عشرة من المنتفضين.. والواقعة معروفة..
وحيث كنت أكتب سلسلة من فرزات "فيسبوكيات" تجاوزت التسعين، أرصد وأستوحي ما يعنّ من خواطر لمتابعتي نشاط من أعرف ولا أعرف من مختلف المستويات الثقافية والمشارب السياسية والشؤون الحياتية.. مما يُعد صورة صادقة لواقعنا العراقي والعربي وتطوراته وردة فعله على مجريات الأحداث، وعلى أساليب التفكير وانعكاساتها على العلاقات الإجتماعية والأخلاقية بين الناس مما يشكل دافعاً هاما للوقوف عليها.. كل هذا جعلني أكتب هذه الفرزة، ومما شجعني على ذلك تفاعل الأصدقاء مشكورين مع الفرزة السابقة !!
***
أتذكر في مؤلفات الدكتور علي الوردي التي وصف فيها الفرد والمجتمع العراقي بالشخصية المزدوجة، بناء على دراسته لتاريخ العراق والتراث العربي متأثراً بنظرية ابن خلدون في العصبية ومنهج الجاحظ العقلاني النقدي، والغريب أن يكون ابن رشد غائباً أو شبه غائب وهو صاحب إعمال العقل.. كل هذا مع الإستفادة من الإتجاهات الحديثة في دراسته لعلم الإجتماع في أمريكا.. على أن الوردي لم يقدم دراسات منهجية علمية ميدانيه مشفوعة بالأحصاء والإستجواب والإستفتاء ..الخ مما يتطلبه منهج البحث العلمي، فما كتبه عبارة عن رصد الحالة الإجتماعية العراقية من المنطلقات آنفة الذكر، بل نجده يجهل المنهج الماركسي حتى بما يتعلق بعلم الإجتماع ما أوقعة بأخطاء أقرها في زيارته لمقر "طريق الشعب" ومناقشته مع المثقف صادق البلادي الذي استقبله هناك..
ما أريد قوله أن أحكام الوردي بنيت على عراق الخمسينات وتاريخياً عن العراق في العصر العثماني وما تناوبته من أحداث سياسية وجوائح طبيعية من أوبئة لاسيما الطاعون ومن فيضانات سببت له كوارث ناهيك عن الحروب التي ابتلعت المجندين بمئات الألوف بين العثمانيين والصفويين والروس وحرب القرم التي عرفها العراقيون بدقة الغربية "السفربرلك" !!
من هذا المنطلق تمنيت حقاً أن يكون الدكتور علي الوردي حياً لوجد أمامه مساحة واسعة جداً من العراقيين من مختلف الفئات العمرية من الجنسين ومن مختلف المستويات الثقافية ومن مختلف المشارب السياسية والأدبية وبلغة عربية تارة عامية تقترب من السوقية في تعابيرها المتدنية والنابية ومن المستوى الفصيح الذي لا يفصح إلا عن مستو متدن في الأخلاق وخشونة التعابير بلغة عرجاء.. وبين من يمتلك لغة مفهومة جزلة معبرة تغطي على الأخطاء .. وترى الأفكار من دينية متعصبة إلى لبرالية إلى إلحادية.. وترى ازدواجية الجاهل الذي يتصور نفسه بلغ من العلم والثقافة مديات عالية ولا ينظر للآخرين إلّا أنهم جهلاء، وترى المثقفين فيهم المثقف والموهوب تراه بمنتهى اللين إذا ناقشته وبمنتى التهذيب، وترى المثقف اليابس المتعجرف.. ولكنك ترى الذي لايرى إلى غيره إلّا من عَل.. وترى الفارغ الذي ليس له ما يتباهى به سوى العدد الكبير من المعجبين لأنه حاز شهرة ولمع نجمه فأكمل الرصيد ومن مظاهر هؤلاء أن يطلب صداقتك ثم تكتشف أنه أكمل النصاب 5000 وأخرهم إعلامية في (واع) ناعمة الوجه تطلب صداقتك لتريك مالديها من مواهب وتنبهها فلا ترد، وتنبهه فلايرد ..
ومن العينات هي الخشونة، يأتيك من يختلف معك ويريد أن يقول رأياً مغايراً فترى لغة خشناء تفتقد للياقة.. وتحاول أن ترد بلسان ناعم فيفهم أن النعومة بالحديث والتهذيب دلالة على الضعف !! وحين تريه موطن الخطأ بقوة الدليل لايتراجع ولا يعتذر، لماذا ؟! هذا التباهي والتفاخر الفارغ شائع جدا !!
في مجتمعاتنا يربى الطفل بخداع الوالدين لابنهم من حيث لايدرون، فيتصورون أن أبنهم أذكى الأطفال.. فإذا كبر وخرج للمجتمع سوف يعيش حالة الإحباط حين يفهم أنه ليس الأذكى ! يربى الطفل مدلالاً من قبل والديه تلبى كل احتياجاته، وحين يكبر ويرى أن المجتمع لا يلبي كل احتياجاته سينكفىء على الذات..
علموه أن يتكلم بصوت عال لأنه رجل ولا ينبغي أن يكون خفيض الصوت خجولا مثل البنات، فتكون الخشونة ميسماً له، وعلموه أن الإعتذار دلالة الضعف ولاينبغي التراجع والإعتذار لأن هذا دلالة الضعف.. هذه هي القيم البدوية التي تنتج حالة الإزدواجية .. فهو بدوي يستخدم التكنلوجيا ومعطياتها !!
مرة دخلت لموقع عشيرة كبيرة لها أفخاذ .. فالصراع في وجهات النظر بأصل هذه الفخذ ومضاربه وتلك الحمولة ومضاربها ونسبها، ودبّ الإختلاف بين أولاد الحمائل وحمى وطيسه، ولقد سمعت من البذاءة وفحش الكلام ما لم أسمعه من ذي قبل.. وعرفت أن أكثر الأنساب هي محض ادعاءآت !
هل أراني أركز على السلبيات وأغفل عن الإيجابيات ؟ لا يا سيدي، لم أغفل قط، فلي من الصداقات الكثيرة لأناس مبعث الإعتزاز لتهذيبهم وتحضرهم.. إنما الصفات الإيجابية هي المحصلة التي ينبغي للأنسان أن يمتلكها ويتحلى بها، إنما السلبيات ما يمكن كشفها لنقدها.. ضمن المبدأ ذاته يمجد السياسي هذه الأيام، ويُذكر من العهود الماضية ساسة يوصفون بأنهم نزيهون ! وهنا يطيب لي أن أعلق: إن السياسي لابد أن يكون نزيها أي هو شرط ملازم له ولا أدل من أن "سياسة" و "أخلاق" في الأغريقية لها جذر واحد ! وفي العربية ساس الخيل أي أحسن ركوبها والتعامل معها ويسمى سائساً، وقال ابن زريق :
أُعطيتُ ملكاً فلم أُحسِن سياستَهُ – كذاك من لايسوسُ الملكَ يخلعُهُ
أمس قرأت لصديق عزيز شنّ هجوماً على "مثقفين" يكتبون عن كبار من أدباء ومفكرين وراح يذكر اسماء انتهى به المطاف بتروتسكي ، والغريب أنه ذكر آخرهم كاوكسكي!! وعزّ على ذاكرتي المتواضعة أن تعرف من هو هذا ؟ فإن كان المفكر الماركسي والمثقف الذي نهل من ماركس وأنجلز مباشرة حتى عُد ثالثهما، فهو بالضرورة كارل كاوتسكي الذي اختلف مع لينين وتبنى رأيا مفاده إن الاشتراكية لايمكن أن تبنى في روسيا لأنها ستكون دكتاتورية ! فشن عليه لينين هجوما وسلقه بلسان حاد !
تمنيت من هذا الصديق أن يفصح عن معنى الهجوم وهل يعيّر من يكتب عن الثقافة ويذكر المثقفين الكبار؟ أتذكر المثل المصري: عيّروا الورد قالوله خدك أحمر! تقول أنهم تجاوزوا حتى شكا لك استاذ فلسفة.. طيب لماذا لم يرد الأستاذ ؟ وطيب إذا ترى أنهم مغرورون وتجاوزوا على الكبار، هنا ايكون السؤال: كيف ؟ وهل الكبار في حصن حصين لأنهم معصومون ؟
لماذا هذه العقلية الدينية التي تقول: المرجعية خط أحمر؟ ولا نتفق معها قط.. فهل المثقفون خط أحمر في عالم تزدحم فيه الخطوط الحمر.. ؟
وامصيبتاه !!
في الحادي والثلاثين من آب 2020