لكل شخص نمط حياة، نمط مكتسب عبر التربية والدراسة والعلاقات العامة وتطوير المعرفة والقدرات العقلية. ولكن حين يتبوأ شخص ما مركز سياسي، أو اجتماعي أو إداري، وله إسقاطاته المؤثرة على محيطه القريب والبعيد، على حياة مرؤوسيه وعائلاتهم، على حياة مجتمع كامل بكباره وصغاره، بقيمه، بأخلاقياته، بمستوى تعرضه للمشاكل المترتبة على النهج، وبمستوى التخطيط بعيد المدى لضمان استقراره ونموه،عندها من المنطق انه لا بد من تقييم جديد لأثر النمط الذاتي على الشعب، أو مجموعة شعوب، أو على العالم بكامله. هنا يصبح نمط الحياة الخاص محكوما بعوامل مختلفة، أكثر امتدادا من الرغبات الشخصية، وأكثر عمقا من الرؤية المباشرة. وأكثر خطرا على الآخرين من القرارات الفردية. هكذا المنطق. ولكن المنطق لا يملك الوسائل لتمرير نفسه لدى بعض الأشخاص، المتحكمون بالقرارات والمصائر.. لذا ليس بالصدفة وجود مؤسسات ومعاهد ومسئولين متخصصين في جميع مجالات الحياة لإدارة الحكم بطريقة عقلانية، وليس حسب نمط شخصي، الذي كان المميز الذي ساد ويسود العالم العربي وحكامه.
هناك قيم أخلاقية، تسمى في علم الأخلاق ب " العقلانية" (RATIONALISM) لها دورها في إدارة دفة الحكم والتخطيط وعدم ترك القرارات لعقلية منفردة، لأن المسؤولية تشمل حيوات الجمهور ومصائره في دولهم ودول عديدة أخرى تتأثر بالقرارات والخطوات التي ينفذها نظام ما.
صحيح انه لا يوجد مبدأ أخلاقي كلي. والأخلاق مثل كل شيء هي نسبية وتتغير مع التغيرات التاريخية، مع اتساع المعرفة، وتطور العلوم، وتطور المجتمع، وتطور الإنسان نفسه.
فقط في الدين كل شيء ثابت غير متحول. وهنا تكمن إشكالية الدين، كل الأديان، في زمننا الراهن، عصر العلوم كما يطلق عليه، الذي لا يتوقف تسارعه وقفزاته التطويرية المذهلة في كل المقاييس. حتى لو لم يبرز الفرق بين الاتجاهين، الديني والعلمي على السطح، ولكن في لحظة مواتية سيكون فاصلا بين الدول في المستوى الأول، وبين نوعين من الناس على الصعيد الاجتماعي، نوع يعرف كيف يبني نمط حياة ملائم لعصره، وهذا لا يعني شرطا تخليه عن الإيمان الديني، ونمط يعيش حالة الاغتراب بكل ضغطها، لدرجة انعزاله عن واقعه، وبقائه غريبا عن مجتمعه وعن عصره.
في الفلسفة تسمى هذه الظاهرة بالظاهرة الإيمانية (fideism) وتعريفها الفلسفي أن الإيمان الديني يصبح أهم من المعارف العلمية، وله دوره في تحديد مسار الناس أو شعب ما. وهذا يبرز في تصرفات شخصية ومناهج عامة، بل وفي أنظمة دول. والمأساة حين يكون رئيس حكومة دولة متقدمة علميا وتكنولوجيا، متأثرا حتى النخاع بما نشأ عليه من نمط حياة وعقائد شكلت شخصيته، ولا يستطيع رغم مسئوليات السلطة، أن يتخلص مما نشأ عليه. وهذه الظاهرة الكلاسيكية يمثلها على أكمل وجه رئيس حكومة إسرائيل بيبي نتنياهو. أي يريد العالمان بنفس الوقت. وبالمقابل نجد أن العالم العربي ، وإيران كدولة تطرح سياسة معادية لإسرائيل وربما تشكل الخطر الأساسي عليها في الشرق الأوسط ، ينشغل قادتها ومواطنيها مثل قادة ومواطني العالم العربي، بأكثريتهم الساحقة، بمسائل "ايمانية" فوقية تماما، على حساب قضايا مصيرية. والمطلع على مواقع الانترنت العربية وما ينشر فيها من مواضيع، يجد أن ظاهرة "الإيمانية" تشكل عائقا بالغ الخطورة على مصير الثورات العربية، وعلى مستقبل المجتمعات العربية وشعوبها، وعلى تطور الإنسان العربي كفرد، وعلى العقل العربي عموما. وقبلها شكلت عاملا في استمرار سيطرة أنظمة الفساد التي سقطت والتي ستسقط لاحقا، ومن الواضح أن الاستبداد والفساد في أنظمة الحكم، يجد في "الإيمانية" غطاء ممتازا.بل يجعلها نبراسا لنظامه.
هذا العامل يستحوذ حتى اليوم على حصة الأسد في التفكير الجماعي العربي. ومن هنا ضعف العالم العربي العلمي والتقني وانعكاساته السلبية على الواقع العربي برمته، سياسيا واجتماعيا وأمنيا وعسكريا. ومن أمثلة "الإيمانية" النقاشات المتواصلة حول أسئلة غيبية، مثل : هل يدخل الجنة غير المسلمون؟ وهل يبيح الإسلام الجماع مع الجثة الجديدة؟ وهل على العاملة بين ذكور أن ترضعهم لتصبح محرمة عليهم (فتوى إرضاع الكبير)؟ وغير ذلك الكثير من الغيبيات، بينما القضايا الملحة، عن مصير المجتمع ومصير المواطنين وحرياتهم الشخصية وتطور اقتصاد دولهم، وكرامتهم الوطنية والشخصية، والخدمات الاجتماعية والطبية والرفاهية .. الخ ، هي مسائل ثانوية لا تشغل المجتمعات العربية، بدرجة من الحماس والاتساع المشابه للحوار حول المواضيع الغيبية.
القصور ليس في العقل، إنما في النظام الذي يروج الغيبيات لضمان استمرار استبداده.
الزمن لا يتوقف لينتظر . بعد أكثر من ستة عقود من انقلابات عسكرية بشرت بالحرية والإشتراكية والوحدة والعدالة الاجتماعية، ولم تنجز فعليا إلا القمع والتخلف، حدث الانفجار الثوري (الربيع العربي) يأسا من الواقع العربي برمته.
إذا كان الحل أن نسلم القوى "الإيمانية"، مهما تسمت واختلفت شكلا، ومهما وعدت بعقلانية، زمام الحكم، فكأننا لم نغير شيئا. الخطر ليس مباشرا أو فوريا. إنما عبر مناهج تبدأ باحتلال الواجهة السياسية رويدا رويدا وتقود المجتمع إلى حالة "إيمانية" ستشكل تراجعا عن كل مكتسبات إسقاط أنظمة الفساد. وقد يتحول الربيع العربي إلى خريف جديد لا يمكن معرفة نهايته. والأخطر ماذا سيتبقى للعالم العربي إذا دخل بخريف جديد؟ إذا كانت الفجوة اليوم مع الدول المتقدمة صناعيا وعلميا تقاس بعشرات السنين من التطور، بعد الخريف القادم ، ستقاس الفجوة بمئات السنين.هنا لا مجال للتأجيل!!
بعض الفلاسفة يطرحون مقولة الوعي الأخلاقي للدلالة على نمط حياة مبني على المفاهيم المترابطة فيما بينها. وبلا شك لا يمكن تجاهل دور الفرد، قد يكون دوره سلبيا، وقد يكون إيجابيا.
حاولوا تطبيق هذه المقدمة السريعة على الواقع السياسي في دول عديدة. بالطبع ستجدون تفاوتات وتشابهات لا يمكن حصرها بجانب معين.
المضحك أن رئيس حكومة دولة متقدمة علميا مثل إسرائيل، مرتبط حتى النخاع ب "إيمانية غيبية" ليس من الصعب كشفها والتيقن منها. ومن الجانب الآخر، العالم العربي، يجري الحفاظ على ضعفه العلمي عبر ترويج "إيمانية" غيبية.
هذه الأفكار راودتني وأنا أسمع وأقرأ ما نشر عن التهديد الإسرائيلي الرسمي بضرب إيران لتدمير مشروعها النووي.
يبرز واضحا أن رئيس الحكومة يُحكم نمط حياته الخاص الذي نقله معه من تربيته اليمينية المتطرفة منذ صغره، ليس فقط بما يخص إيران، بل أيضا بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وأيضا بما يتعلق بالعدالة الاجتماعية. وجهة نظري أن مطالب المجتمعات البشرية متماثلة.
نتنياهو يتحدث وينشغل بالموضوع الإيراني ، ولا يلتفت للقضية الحارقة التي تشكل سجنا للإسرائيليين أنفسهم، وهو "سجن الاحتلال" للشعب اليهودي في إسرائيل، وليس فقط للشعب الفلسطيني. وهذا السجن بات مقلقا لأوساط واسعة جدا من الشعب اليهودي، وبرز أيضا في مظاهرات الهبة الاجتماعية نقدا حادا لتوظيف الميزانيات للبناء في المستوطنات في المناطق الفلسطينية المحتلة، ورفعت شعارات تطالب بالبناء داخل الخط الأخطر للمواطنين في إسرائيل الذين يعانون من ضائقة سكنية، ومن عدم قدرة على شراء المنازل التي تبنى لأصحاب الدخل المرتفع ، وأصحاب الملايين أمثال وزير الدفاع ايهود براك.
رئيس الحكومة يعتمد على فريق من المستشارين، ونظرة عابرة تثبت أن كل مستشاريه هم من التيار الديني اليميني المتطرف. أي نسخة طبق الأصل للنمط الفكري الذي تثقف عليه في صغره ونقله معه كاملا إلى مكتب رئيس الحكومة.
من هنا رؤيتي البسيطة أن نتنياهو لن يغير شيئا من نمط حياته وتفكيره، من كرسي رئاسة الحكومة. حتى بيغن عندما وصل إلى كرسي رئاسة الحكومة فهم المسائل بشكل مختلف. شارون أيضا واجه نفس المعضلة. وايهود اولمرت تحرك باتجاه الفلسطينيين أيضا، إما نتنياهو فلا يبدو إلا انه يزداد تمسكا بالعقلية التي جاء بها إلى كرسي رئاسة الحكومة. حتى لو اعترضت مختلف الأوساط السياسية والأمنية على نمط تفكيره..
إن مستقبل المواطنين في إسرائيل ، بظل حكومة يمينية متطرفة، هم أشبه برهائن لسياسة مغامرة. قد يعرف نتنياهو ووزير دفاعه براك كيف يشعلون فتيل حرب ضد إيران مثلا، ولكنهم بالتأكيد لن يعرفوا كيف ينهونها. ولن يعرفوا نتائج هذه الحرب التدميرية عليهم وعلى العالم قاطبة. وقد حذر خبراء من إن إيران قد تضرب حقول النفط في السعودية مثلا وتشعلها، ولا يمكن السيطرة على نارها وإطفائها إلا بجهود دولية صعبة قد تستغرق عقد ونصف العقد من السنين. وتخيلوا أن حقول نفط الشرق الأوسط قد تشتعل كلها. ربما سيصبح لتر البنزين (5) أضعاف سعره اليوم. كيف سينعكس ذلك على اقتصاديات العالم؟
وماذا مع مصير(100) ألف جندي أمريكي في العراق؟ ومصير الأسطول الأمريكي في الخليج؟ وما ينزل من ضربات على الجبهات الداخلية لدول عديدة ومنها إسرائيل؟
إيران كما نفهم من وسائل الإعلام تملك قدرات عسكرية كبيرة، وإرادة لم تكن قائمة في أي نظام عربي. حتى حرب السادات (1973) ، كانت محدده بمنطق ساداتي يطمح إلى تحريك القضية وإعادة العلاقات مع الولايات المتحدة، وليس التحرير، وكل المعلومات تشير أن تحرير سيناء كان ممكنا، أو على الأقل كانت هناك إمكانيات عسكرية لم تستغل، وفوت السادات الفرصة لتحقيق انجاز عسكري أكثر عمقا، بسبب نمط العقلية التي انطلق منها.
لست من مؤيدي نظام الملالي في إيران، ولا أرى أنهم بإنتاج السلاح النووي ، يخدمون قضايا المجتمع الإيراني، أو الأمن الإيراني. أو القضايا العربية وخاصة قضية فلسطين، بل يسببون ضررا كبيرا للقضية الفلسطينية بتصريحاتهم المنفلتة، وبدعم قوى انفصالية تتلقى أوامرها منهم.
ولكني أرى أيضا أن مشكلة نظام الملالي وإنتاجهم للسلاح النووي لن تحلها الضربات العسكرية الإسرائيلية، حتى بمشاركة أمريكية ودولية. وهذا واضح من تحليلات الخبراء المختلفين.
كل هذه الأحداث والتوقعات ضجت بها الصحافة الإسرائيلية والدولية في الأيام الأخيرة، ورافقت ذلك تجربة لصاروخ إسرائيلي جديد عابر للقارات ، يكشف لأول مرة أن إسرائيل تملك هذا النوع من الصواريخ ،مداه بين (4000 - 6500) كيلو متر، وقادر على حمل السلاح النووي أيضا، ربما يطلق من الغواصات المتواجدة بعيدا (ربما في مياه الأطلسي) ردا على الضربات الإيرانية المضادة، وكانت هناك أخبار نشرها معهد بريطاني عن تطوير إسرائيل لقدراتها النووية.وذلك إلى جانب تمرينات طيران إسرائيلية في قواعد عسكرية في ايطاليا لمهاجمة أهداف بعيدة، بمرافقة طائرة تزويد وقود للطائرات في الجو. وتمرينات في إسرائيل للجبهة الداخلية حول سقوط صواريخ ، واستمرار الحوار السياسي في إسرائيل حول الحرب ضد إيران، الذي كشفته مصادر حكومية، ثم بدأت تنتقد انتشار هذا الحوار وترى به خطرا أمنيا على خططها..
هل بالصدفة أن كل هذه التطورات برزت في أسبوع واحد؟
من ناحية أخرى جاء رد حكومة إسرائيل على قبول فلسطين عضوة كاملة في منظمة اليونسكو، بإعلان الحكومة عن "عقاب جديد" للفلسطينيين ( وهو عقاب للمواطنين في إسرائيل أيضا) ، ببناء (2000) وحدة سكنية جديدة في القدس المحتلة.
إذن ما يحكم إسرائيل اليوم، هو نمط عقلي لم يتغير، بل يناور بثرثرة لا قيمة لها. حتى قوى يمينية عقلانية باتت ترى الخطر من سياسة نتنياهو وليبرمان وبراك. من الموضوع الفلسطيني ومن الموضوع الإيراني ومن الموضوع الاجتماعي.
قادة الجيش والمخابرات بكل أذرعها، الجدد والقدماء، حذروا بوضوح كامل من قرار سياسي للقيام بعملية عسكرية إسرائيلية ضد إيران. الرد كان مهاجمة بعض الشخصيات الأمنية وإظهارهم كشخصيات غير مسئولة، مثل مائير دجان رئيس الموساد السابق، الذي قال بوضوح: "إن مهاجمة إيران هو أكثر شيء غبي سمعته" والصحافة الإسرائيلية تتحدث أن قادة الجيش متحفظون من موضوع الحرب على إيران. وإنهم طالبوا الحكومة بنهج عقلاني مع السلطة الفلسطينية،بتجديد المفاوضات وإطلاق سراح أسرى لهم أهمية، وضم أراض جديدة للسلطة الفلسطينية لتعزيز مكانتها. ويعلقون أهمية كبيرة على نجاح السلطة بالضبط الأمني في الضفة الغربية. أي أنهم على نقيض كامل من أساليب تعامل السلطة السياسية في إسرائيل مع الفلسطينيين.
نتنياهو مندفع بلا كوابح. تلك هي قناعاته. باستطاعته أن يتحدث عن العدالة الاجتماعية ودولتين لشعبين، وإفشال إيران من الحصول على السلاح النووي وأن يواصل التغطية على سياسته غير الاجتماعية بلجان يتلاعب بتوصياتها. وان يواصل سياسته الرأسمالية الخنزيرية كما توصف في الشارع اليهودي. ورغم كل تصريحاته أو خطوات حكومته السطحية للظهور بأنه استجاب لبعض المطالب الشعبية التي طرحتها الانتفاضة الاجتماعية، في التلخيص الأخير لن يُحدث نتنياهو أي تغيير جوهري لأنه يناقض نمط حياته، خططه، تفكيره وتطلعاته، ووزراء حكومته ، وعلى رأسهم وزير خارجيته ليبرمان، ومستشاريه.
من هنا أرى أن المهمة العاجلة الدفع لانتفاضة سياسية تنسق مع الانتفاضة الاجتماعية، ودمجهما معا.
لم يعد معنى للمطالب الاجتماعية، بعزلها عن المطالب السياسية . وهذا صحيح أيضا للربيع العربي إذا شاء ثوار ميادين التحرير أن يكون التحول ربيعيا وليس خريفيا. كما يلوح الخطر في تونس وليبيا.. وفي مصر لم يتضح بعد الاتجاه.
السياسة والمجتمع هما توأمان سياميان.هذه قاعدة لا يمكن نقضها.
هذا تثبته سياسة نتنياهو المغامرة بالقضايا الأكثر إلحاحا. القضية الفلسطينية وقضية النووي الإيراني، وقضية العدالة الاجتماعية.
العلاقة شرطية بينهما. الحلول بيد رئيس الحكومة . ولكن رئيس حكومة لا يغير نمط حياته ونمط تفكيره ونمط ما نشأ عليه من تربية يمينية متطرفة، لن يقود إلى تغيير سياسي، عسكري واجتماعي.
الانتفاضة الاجتماعية هي ظاهرة نادرة في المجتمع الإسرائيلي، وايجابياتها كثيرة وعلى رأسها أن النظام لم يعد قادرا على تضليل الجماهير بفزاعات الأمن والخطر العربي والخطر الإيراني ، وخطر قيام دولة فلسطينية. وبات واضحا ، انه بدون انتفاضة سياسية ملتحمة مع الانتفاضة الاجتماعية لن نرى إلا ثرثرة وخداع وطحن ماء ومحاولات متكررة للالتفاف على الغضب الشعبي من الواقع الاجتماعي المتردي.
nabiloudeh@gmail.com