أشابَ الرأسَ أني كُلّ يومٍ
أرى لي خالةً وسطَ الرّجالِ
(السّليك بن السَّلكَة)
تلقيت رسالة دامية من طبيبة عيون عراقية، أعادت الى ذاكرتي كثيراً من صور العراقيين والعراقيات، قبل "الحصار المزدوج" على الشعب العراقي، وفي الأثناء التي كان العراق يتعرض الى "التدمير العسكري الممنهج" بطائرات "الحلفاء" وصواريخهم، وما رافق ذلك من هجرات الى خارج العراق، تتكرر هذه الأيام أيضاً.
أعرف هذه الطبيبة العراقية معرفة جيدة، وأعرف والدها، الطيّار السابق في الجيش العراقي، وأعرف المستشفى الذي انتدبها للعمل ضمن طاقمه. وهنا كان على هذه الطبيبة أن تختار بين موقفين.
وهي اختارت - فعلاً - ما يليق بها، وما تفرضه عليها تقاليد العلماء، وما يمكن أن يثيره سلوك مقصود لإذلال مواطنة عربية، تعرف أن أهلها في الجوزاء، رغم تقلبات الزمن.
قالت لي تلك السيدة العراقية: كنت في وضع يشبه وَضعَ "السَّلكة"، حين قتل ولدها "السَّليك"، واستعبدها بنو جلدتها.
عندها تذكرت حالة الوبال والويل التي كانت تنوء تحتها "السَّلكة" بعدما قُتل ولدها الشاعر على أيدي نفر من رجال "الخثاعمة" في القصة المعروفة التي تروي حصار "السّليك" بخيلِ اثنين من قبيلة "خثعم"، هما: "شِبل بن قِلادة" و"أنس بن مُدرك".
لم تفقد "سلكةُ" السَّليك فقط، بل خسرت رجلاً نذر نفسه لمناصرة كل من يتعرض للاسترقاق البشري. فلقد اختار "السّليك بن السَّلكة"، والذي هو "السّليك بن عُمير السعدي التميمي"، أن يكون في صف جيش المظلومين والمقهورين والمحرومين من عباد الله، بعدما أراد بعض البشر استعبادهم واسترقاقهم بسرقة جهودهم، والتنعم بكدهم وعرقهم.
وهكذا سكن "السَّليك بن عُمير" الصحراء، وتصادق مع الوحش، واطمأنّ الى المقهورين والمهمّشين من "الأغربة السود"، وسلّ سيفه، وشهر رمحه، في وجه كل من لا ينصف الناس والعباد، من جور بعض الناس.
وكان "السّليك" يعرف أن منيته في صعلكته، لكنه لا خيار له سوى هذا الخيار:
وما نِلتُها حتّى تصعْلكتُ حِقبةً
وكنتُ لأسباب المنيةِ أعرفُ
وقالت الطبيبة العراقية، الاستشارية المتمرسة في رسالتها: "يا أخي.. لقد أسْدِفَتْ عيون أخوتي". وكانت تريد القول بذلك، إن أخواني وأخواتي، قد اظلمّتْ عيونهم من الجوع، وإنها راحلة الى أرض غير عربية.
منذ هجرات العراقيين بعد 14 تموز/يوليو ،1958 عمل بعض العرب على استيعاب نخبهم في أعمال تدرُّ عليه ذهباً، ولاتقدم لهم سوى الخبز اليومي الكفاف. بينما عمل آخرون على إضافة الذلّ الى الخبز الكفاف، كأنه موصى من قبل تلك القوى التي تريد تحويل العراقيين الى أخوال "السّليك بن السّلكة".
جمعة اللامي
www.juma-allami.com
juma_allami@yahoo.com
تنويه :