تشُدني (السوافح ماء النعيم ) للروائي البحريني فريد رمضان
فهي من الروايات المائية التي يهمني مواصلة الكتابة عنها، ولي في ذلك تجارب نقدية منشورة في المواقع الثقافية، فالماءُ يمتلك شخصية ً رئيسة ً في الرواية.. في (السوافح) : بسب ِ ما أقترفته ُ مِن شعرٍ وسط أترابها على جرف نهر العشار . انتقل والد خاتون إلى كربلاء ليرمي ابنته زوجة ً إلى شخص ٍ بأر شخصيته من خلال صناعته ِشباك مقدس . والماء هو مساج الأنفس المرهقة، لا يهم إن كانت المياهُ مالحة بحرية، أو حلوة مثل مياه العشار في البصرة أو الفرات في كربلاء، في الحالتين : الماء له فاعلية المساج على الذاكرة (جلس الغريبُ، يسرح البصرَ المحيّر في الخليج / السياب/ غريب على الخليج) والماء ذو حدين : في البحر ضيّع إسماعيل مفاتيح حياته . وشغفي برواية السوافح سببه الثاني، أنها من الروايات التي تطلق عليها قراءتي : الرواية المشطورة... ولي مع هذا الصنف محاولات نقدية : إذن رواية السوافح مزدوجة البهجة بالنسبة لي .
(*)
توقفتُ عميقا مع شخصية إسماعيل : فهو من الشخصيات المشطورة، يتمازج فيها البهيمية وتعنيف المرأة والتعلق الصوفي بآل بيت النبوة عليهم السلام . وهو لا يتعلق بسجاياهم اللطيفة وحنوهم على النساء، وأحقاق العدل . لم تجد قراءتي تعريفا يليق بإسماعيل، غير ما نصفُ به نحن أهل البصرة هكذا رجل فنقول : أن فلان (حوصلته صغيرة) ونعني بذلك أنه لا يحسن التعامل مع آل بيته، ولسانه يتجسد في يده القاسية التي لا تعرف الرحمة، ومشاعره مجففة، وهو لا يبكي إلاّ على نفسه، حين يفقد ولده حسين وهاهي خاتون تصفه ُ نذير شؤم، ولا يفقه حديث الأفق وضيّع مفتاح سعادته في البحر (نعم يا إسماعيل، قد أضعت مفاتيح أجسادنا، أنا وهذه البذرة خديجة . عاجز عن أن تفك طلاسم أجسادنا../ 108) .. إسماعيل لا يرى من المرأة إلاّ شهوته هو . فمن أين يأتي بمفاتيح أجراس ينابيع زوجتيه ؟
(*)
في شخصية خاتون يأتلف المرئي باللامرئي والواقعي بالميتاواقعي /107
(*)
زمن الرواية : علاماتياً : تجسّدهُ الفوانيس والدواب والشرطة الهنود والأحتجاج السلمي لباعة الخضراوات .. ربما ليطمئن رقيب المطبوعات، يثّبت المؤلف من خلال السارد، هذه الوثيقة التاريخية عبر وحدة سردية صغرى (لم يكن قاصداً أن يحتج مع الباعة في نهار الحادي عشر من مارس من عام 1956../ 159 ) .
(*)
شخوص الرواية مسرودة حيواتهم، بعبثية المصادفات الفاتكة، كما حدث للشاب حسين ابن إسماعيل في لحظة احتجاج الباعة . وبمصادفة غيبية تتذاوب حياة خاتون حيث يسحبها نداءٌ خفيٌ إلى سرداب البيت ( 133)..
(*)
هل ما يجري للشخوص : هو بمؤثرية مصادفات أم هي لعنات البحرين ؟ فها هي خاتون البصرية الكربلائية تخبر خديجة، ونحن لهما من المصغين، وهي تتحدث عن زوجها إسماعيل (هذا الرجل الذي أنتزعني من ذلك الصحن المقدس، لتحل عليّ لعنات أهل البحرين، دخل بعد أيام من وصولنا، وهو يقول بفخر لأمه : كل أهل البحرين يقولون إسماعيل تزوج قمراً عراقيا لا مثيل له../ 142) هل لعنات أهل البحرين ؟ أم عين الحاسد والكايد ؟ أم هي لعنة تطارد أهل إسماعيل الأحسائي ؟ (قالوا لأهل إسماعيل هي لعنة تطاردكم يا أهل الأحساء، فما أصاب خاتون يشبه ما أصاب رقيّة عمة إسماعيل../ 128 )، وإسماعيل ليس طفرة في الهندسة الوراثية للعائلة وبشهادة إسماعيل، وهو ينقل لنا سرداً رجوعياً على لسان جدته (تشبه جدك يا إسماعيل، صلب، وقاس، ولا ترأف بنسائك . النساء قوارير يا إسماعيل، فأعتن ِ بهن، أرحم هذه العراقية المقعدة، ففي بقائها عندك أجر من الله ورضاء من أهل بيته../ 102)، وها هي خاتون تكرر الكلام نفسه مع إسماعيل ( إنك نذير شؤم يا إسماعيل، ها هي جدتك تموت مثلما مات أبوك يوم ولادتك، وها أنا ممسوسة بالجن منذ أن تزوجتني، كنت صبية مع أبي نخدم الروضة الحسينية ونتبارك بمقام الإمام، حتى جئتني مثل عصف مأكول وأخذتني نحو حياة بائسة، ها أنا مقعدة لا أستطيع الحركة / 102) .
(*)
شخوص الرواية بين هجرة وتهجير وفي كلتا الحالتين لا نجاة لهم . شخوص راسخون في لحظة ٍ تراجيدية : آل إسماعيل يغادرون الإحساء خوفا من بطش بين طرفين : يجسدان مراكز النفوذ والقوة الحاكمة . والد خاتون تخلّص من عورة جمال بنته بتزويجها من شخص لا يعرف منه إلاّ هديته ذات الشحنة المذهبية .
(*)
المكان الروائي يرسو على الماء (حارة النعيم، حيث رائحة البحر والشاطىء يمتد سور إسمنتي بنته الحكومة ليصد أمواج المد التي تصل البيوت../ 19) ومن الرواية يتضوع هواءٌ معطرٌ بملوحة البحر .
(*)
يتنوع السرد صوتيا : بالتشارك السردي لكافة شخوص (السوافح ماء النعيم)، ويستدير السرد أحيانا إلى لحظة مر بها فعل القراءة سابقا، لكن المؤلف سيقوم بتدوير سردها مجددا وحركة السرد تتقدم خطوتين، ثم تتراجع خطوات من خلال الزمن النفسي لشخصية من شخصيات الرواية، مصحوبا ذلك بتدوير السرد في ص17 تذهب خديجة إلى فرضة المنامة لتسلّم خطابا مكتوبا وكفناً يمسح على قبر الجسين(ع) . الخطاب من خديجة إلى الأمام علي (ع) والكفن يعود لضرتها خاتون ./ص13 ويتكرر تدوير الحدث نفسه، ويعود الساردالعليم ليخبرنا عنه في ص116وكذلك في ص117 .
والكفن في المرة الثانية مازال لدى خاتون، ولم تسلّمه إلى خديجة كما يلاحظ القارىء أن السرد يتراجع إلى لحظة هبوط خاتون في فرضة البحرين، وهي القادمة من كربلاء في ص123 وهكذا كلما تقدم فعل القراءة، تراجع الزمن الروائي في (السوافح) .
(*)
جهة ٍ ثانية نرى في النص الروائي (السوافح) : نصين : نص من تأليف فريد رمضان ونص منضّد في نص فريد ويتموضع بين قوسين، أو ثمة حاشية أسفل الصفحة تشير إلى أصوله والمقبوسات كالتالي :
*بعد الإهداء ثمة مقبوس من الذكر الحكيم ( سأرهِقُه صَعودا) : حين نتوغل في فضاء السوافح . سيدرك فعل القراءة لديَّ أن لهذا الهدب النصي، وظيفة تختزل مصائر الشخوص كافة . فالفرد في الآية الكريمة هو الفرد بإطلاق وهذا الارهاق يعيدني إلى آية ٍ كريمة (يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحا فملاقيه /6 الأنشقاق ).. النص المعنوّن (شكوى) يتجاور مع نصوص يتضمنها كتاب (مفاتيح الجنان) للسيد عباس القمي.. وفي ص16 من الرواية يظهر للقارىء نص تعلن حاشية الصفحة نفسها عن عائديته لأبن عربي من كتاب المعرفة.. وضمن النص الروائي هناك سرد تطلق عليه قراءتي بالسرد السياحي/ 15/ 19 هذا النوع من السرد يتموضع في النص جماليا .
(*)
الرواية تتأرج منها تراجيديا كربلاء والشخوص تتماهى فداءً بتلك اللحظة الدامية وتكتمل قداسة شخصية خاتون في غيبتها الجسدانية .
*مقالتي: منشورة في الملحق الشهري / صحيفة القبس الكويتية/ كانون الثاني 2021
*فريد رمضان / السوافح ماء النعيم / دار مسعى/ دار لوتس / ط2/ البحرين / 2019