تحدثوا كثيراً عن هذه الآلة الغريبة التي استورِدت الى البلاد من بلاد متقدمة صناعياً لقاء أثمان باهضة... كانوا يتحدثون عنها بهمسٍ وحذرٍ بعد ان ينام الأطفال.. قالوا
انها متغيرة الحجم والشكل الّا انها تؤدي وظيفتها دائماً باتقان .
لقد جلبتها الحكومة ـ كما يُقال ـ لأجل الحفاظ على أمن الشعب وسيادة الدولة !!
جلبوها الى البلاد في الليل، ووزعوها في الليل ايضاً على مدن البلاد الكبيرة، فحصلتْ كل مدينة على واحدة أو أكثر منها .
كانوا يرسلونها دائماً في شاحنة مغلقة لتصل قبل طلوع الفجر الى مبنى في أطراف المدينة يقع دائماً على النهر، حيث تباشر عملها هناك!
كل المدن الكبيرة في هذه البلاد تقع على الأنهار حيث تترامى بساتين نخيلٍ وبرتقال ورمّان وتين ومشمش وتفاح وجوز رائعةً وشاسعةً الى مسافات باهرة الأمتداد، وحيث تتوالد علاقات ضوئية ـ مائية مدهشة جراء لقاء الشمس أو القمر او النجوم بمياهٍ صافية، هادئة الجريان تارة، وسريعة تارة أخرى .
يشرف على تشغيل الآلة طاقمٌ فنيٌ خاص تلقى تدريبه في الخارج ، وبالتحديد في البلد الذي صُنعتْ فيه الآلة، ويرافق هذا الطاقم طاقمٌ آخر له خبرات نفسية واجتماعية تلقّى تدريبه داخل البلاد وخارجها تحت اشراف اساتذة مرموقين !!
يبدأ عمل الآلة بعد منتصف الليل، ومن الممكن ان تكون كاتمةً للصوت أثناء عملها، ومن الممكن ايضاً ان يصاحب عملها هديرٌ يمكن التحكم في حدته، وذلك حسب الزمان والمكان وحسب توجيهات الطاقم النفسي ـ الأجتماعي .
لا أحد يعرف أسرار هذه الآلة بالضبط سوى الكادر المشرف عليها والمسؤولون عنه في قيادة الحكومة.
كل الحكايا عن حجمها ولونها وشكلها وطبيعتها بقيت في التالي ضرباً من التكهنات. ومما زاد في الأمر لبساً معرفة الناس ان حجمها وشكلها يتغيران حسب الظروف .
في النهار يخلدُ أفرادُ الطاقم المشرف على عمل الآلة الى الراحة في المبنى نفسه، وما بعد الظهر وقبل المساء يخرجون الى مقاهي المدينة ومطاعمها، يأكلون ويشربون ويلعبون الدومينو والنرد والشطرنج، ويتجنبون الأختلاط كثيراً بالأهالي .
حاول الناس معرفة طبيعة عمل هؤلاء على وجه التحديد، فلم يتمكنوا الّا من التخمين .
فكَّرَ البعض في باديء الأمر ان هذا الفريق فريقٌ من الآثاريين الذين يبحثون وينقبون في هذه الأرض التي تُسمى ـ مهد الحضارات ـ ويحللون نتائج بحثهم وتنقيبهم!!
بعد سقوط الحكومة عثر الناس على بقايا من أجسادٍ بشرية في أماكن مختلفة من الآلة، مثلما عثروا على أكوام من الحلي والخواتم والساعات العائدة للميتين . كما وجدوا خرطوماً بلاستيكياً يمتد تحت الأرض كي يسرِّب الفضلات الى النهر على شكل لحم مفروم .
ارادتِ الحكومة الجديدة تحويل المبنى الى متحف ومتنزه، وفتحتْ في البداية الطريق الى المتنزهين والعشّاق ، فاعتقد الناس ان المكان سيعود بهيجاً وجميلاً وحبيباً كما كان .
لكن الأمر لم يستمر طويلاً حتى حلَّ الغموض والظلام مجدداً حول المبنى، اذْ اعلنتِ الحكومة مجدداً : منع التجول !!
*
كتبتُ هذه القصة القصيرة في العام 2007 والقيتُ النص الألماني منها في عدة صالونات أدبية في برلين اما النص العربي هذا فلم يُنشر من قبل.