أثارت التعديلات المستدخلة على قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لعام 1959 والتي قدمت إلى التصويت الأولي في مجلس النواب العراقي منتصف الأسبوع الماضي حملة واسعة من الانتقادات والاحتجاجات التي ظهرت بصيغة منشورات وتعليقات ومقالات أسهم فيها مختصون بالقانون ومثقفون وكتّاب وأكاديميون وقرّاء مهتمون ومواطنون مسؤولون .
وركزت الحملة على رفض واستهجان احتمالات السماح بزواج الإناث القاصرات ابتداءً من عمر تسع سنوات إذا ما تم تمرير التعديلات من خلال إعطاء الحق بالعودة إلى القوانين الفرعية للجماعات ذات المرجعيات الطائفية باستشارة أحد الفقهين الشيعي أو السني . وخرجت ناشطات وناشطون في تظاهرات احتجاجية في أكثر من مكان وطريقة كان من بينها تظاهرة اخترقت شارع المتنبي في بغداد الجمعة الفائتة، وتجمع للاتحاد العام لأدباء العراق، أمس السبت، للتعبير عن الرفض لتلك التعديلات التي تمسّ بنية المجتمع العراقي وتسمح بتقسيمها، وبخاصة من خلال السماح بالعودة إلى فقه الطائفة والجماعة بعيداً عن السلطة القانونية والرسمية للدولة ممثلة بالمؤسسات القضائية والمحاكم .
من جانب آخر، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي صورة واحدة لوقفة نسائية رفعت فيها عدد من النسوة وطفلة صغيرة واحدة، يبدو أنّها استضيفت بقصد واضح وتنظيم مسبق للتعبير عن موقف مختلف. رفعت هؤلاء النسوة شعارات غطين بها وجوههن ووقفن وقفة تنبئ بالحزن والكآبة، فيما حفلت الشعارات المكتوبة بمعانٍ ذات مضامين دفاعية عن الدين والطائفة والمذهب، كما لو أنّ هذه القوى الاجتماعية المؤثرة في المجتمع في خطر محدق، وهي ليست كذلك مثل "أنا شيعية، قانوني شيعي؛ أنت سنية، قانونك سني"، و"سندافع بقوة عن القانون الجعفري"، و"العراقيون أحرار في أحوالهم الشخصية"، إلخ.
ومضت المحتجات المكتئبات إلى أبعد من ذلك برفع شعارات تقرن التعديلات المشار إليها بإرادة الله والدين كما في "نعم لديني، نعم لحريتي"، "نعم لشريعة الإسلام" و"كلنا مع القانون الجعفري". ليس هذا فقط بل كان لا بد من شعارات أخرى للإشارة إلى عضوات النظير النسوي المدني المعارض ممن وصفن بـ "الشاذات" وضمناً "المسترجلات" وربما "المستهترات".
شكراً لدعاة التعديلات ومقترحيها، فقد أصابت أولى مراحل تقديم التعديلات المقترحة هدفها من خلال تعبئة النساء ضد النساء ذوات الشأن والقضية بالمحصلة النهائية. واضح أنّ المولعين بحروب الكراهية مازالوا يهتمون بالبحث عن مبررات جديدة، فكان أنْ جاء مشروع التعديلات هذا ليعطيهم الفرصة السانحة لإشعال حرب داخلية بينية، بين نساء ونساء مما يظهر بالنتيجة مقدار التخلف الذي يعانيه المجتمع كما تجسد بظهور جماعات من النساء قل عددهن أو كثر يقفن بصورة مكشوفة ومعلنة ليعبرن عن الرفض والتسفيه لكل ما ناضلت أجيال من العراقيات والعراقيين من أجله ابتداءً من ثلاثينيات القرن الماضي حتى اليوم، على طريق تحرير المرأة وإنصافها والنهوض بها.
وقفت هؤلاء النساء ليعدن إلى الأذهان فكرة أنّ "المرأة عورة" بما في ذلك صوتها وأنّها مما يخجل من مصافحته أو النظر في عينيه مباشرة كما تفعل الكائنات البشرية المشذبة اجتماعياً وثقافياً، عادة عندما تتفاعل مع بعضها البعض في سياقات روتينية وإعتيادية جداً. هكذا تسهم الداعمات للتعديلات المصوّت عليها أولياً ليثبتن أنّهن يوافقن تماماً على أنْ يكنّ إماء في حضرة السلطان، وإنّ النظام الأبوي الذكوري الذي تزعزعت هيمنته الأحادية إلى حدٍ ما بعد عقود من الكفاح والتضحيات لأجيال من العراقيات مدعومات بمواقف أخلاقية وسياسية تقدمية لأجيال من العراقيين قد تلقى جرعة حياة جديدة لم تكن لتخطر على بال.
فالتعديلات المقترحة تهدف بوضوح لا لبس فيه إلى تسييد سلطة رجال الدين والطائفة والمذهب على الحياة الاجتماعية للعوائل والأشخاص في المجتمع العراقي وتكرس الانقسام المجتمعي الذي يضع حواجز صلبة بين الجماعات الدينية والمذهبية المتعددة على هذه الأسس بإسم ممارسة الحرية واستخدام الديموقراطية. يحصل هذا دون وعي وإدراك بالمخاطر التي ستترتب على التعديلات المستدخلة على حاضر ومستقبل وحدة ومتانة بنية المجتمع العراقي وجمهور النساء فيه ممن سيتحتم عليهن العودة إلى المربع الأول للنضال والمواجهة وهو الأمر الذي سيحدث لا محالة، اذا ما تم تمرير هذه التعديلات، فعلاً.
ولعلَّ الأسوأ أنْ تأتي مثل هذه الحملات التعبوية المساندة لمشروع التعديلات المصوّت عليها أولياً أنّه يراد من خلالها إقحام المجتمع في معارك جانبية ذات طبيعة جدالية واستهلاكية لا جدوى منها بعد تحقيق قوات الجيش والشرطة الإتحادية والحشد الشعبي انتصارات عظيمة على أخطر مصادر الفتنة فيه للعودة به إلى رحاب الوطن الواحد والمجتمع المواطناتي الذي يسعى للم الشمل لا تفريقه وبعثرته من جديد.
هذه ثلاثية خطيرة ومغلقة ترتبط بعوامل الجندر والدين والطبقة الاجتماعية والتي تمتلك مجتمعة مفاتيح الأزمة المصطنعة بمثل ما تملك مفاتيح الحل إذا ما استخدمت بطريقة تزامنية ومسؤولة تقوم على وعي ومعرفة علمية وأخلاقية بتأثيراتها الواقعية. في هذه التعديلات، استخدم عامل الجندر ليحوّل الإناث وبخاصة الأكثر استضعافاً في المجتمع، صغيرات السن على وجه التعيين إلى أدوات تنسجم والتصور الذكوري بمقاييسه التقليدية التي لا تقيم وزناً للطرف الآخر وتعامله على أنّه أقل أهمية وأقل أهلية. واستخدم من الدين قوته في الحث والتشجيع على تحقيق أغراض دنيوية مجردة من المضامين الأخلاقية والإنسانية التي يسعى إليها أصلاً، لتحقيق العدالة والتكامل والإصلاح.
وهناك الجانب الذي يتعلق بالطبقة الاجتماعية، حيث إنّ من سيتأثر سلباً بهذه التعديلات هم بنات وأبناء الفقراء، حصراً. إذ يرى البعض أنّ مشروع التعديلات المستدخلة جاء ليعالج مشاكل آلاف العوائل العراقية الفقيرة التي تنوء بأعباء اقتصادية واجتماعية كبيرة بسبب وجود أعداد هائلة من البنات والأولاد ممن تصعب إعالتهم. وأنّه لهذا السبب فإنّ كثيراً من هؤلاء يجبرون أبناءهم على ترك المدرسة لتزويج البنات وتشغيل الأولاد لمواجهة متطلبات الحياة المادية المتصاعدة على الدوام. وهناك من يضيف، أنّ هذه العوائل لا تحتمل أنْ تفشل الفتاة دراسياً مما يؤدي بهم إلى تزويجها لتكون مكلّلة ليس فقط بكونها فتاة صغيرة السن ممن لا حول ولا قوة لها، وإنّما أيضاً كونها فاشلة لا تصلح لشيء.
تدور أحاديث وتبريرات من هذا النوع دون الأخذ بالاعتبار أنّ لتأمين المستلزمات الاقتصادية والاجتماعية ضرورة سابقة للمساعدة على التمكين من أجل النجاح والتقدم. لا تبتعد هذه التبريرات عن قسوة واقع الحال، فالفقر يكاد يكون العامل الأكثر أهمية على الصعيد الاجتماعي الذي يدفع عوائل كثيرة وبخاصة العوائل الفقيرة الشابة، إلى إحتمال القبول بمثل هذه التعديلات.
السؤال، إذا كان الفقر أحد أهم الدوافع والمبررات الاجتماعية وهو كذلك حقاً، ألم يكن حرياً بمن يتوسم مسؤولية سياسية أنْ يعمل على تطوير مقاربات ومشروعات قوانين تستهدف أس المشكلة، الفقر! ألا يدرك هؤلاء، أنّ العمل على تطوير قانون أكثر اكتمالاً للرعاية الاجتماعية يشمل فيه الأفراد بنات وأولاد برواتب إعانة حتى يبلغوا من العمر أشده يمكن أنْ يساعدهم في تخفيف إنْ لم نقل محو أسباب المعاناة والمساعدة على إدماجهم في المجتمع بكرامة واحترام.
لا أحد ينكر أنّ هناك الكثير من الفقر والفقراء في العراق، وإنّ الأعباء الاقتصادية والاجتماعية لأرباب العوائل كبيرة ويصعب في الغالب تحملها. واذا أضفنا إلى ذلك التضحيات الجمّة التي سلبت بالموت والاستشهاد والإعاقة الكثير من أرباب العوائل سواء في معارك القتال لتحرير المدن أو بسبب العمليات الإرهابية وارتباك الوضع الأمني، فإنّ للطبقة الاجتماعية والفقر دوراً كبيراً ومؤثراً على البنات والنساء في أكثر من فئة عمرية.
ونعود إلى السؤال، إذا كان الفقر أحد أهم الأسباب، أما كان الأجدى بمن عمل على مشروع التعديلات هذه، إمعان النظر للتفكير بستراتيجيات أخرى قادرة على معالجة الأوضاع المعيشية السيئة والتي يقف في مقدمتها العمل على تطوير نظام واسع للرعاية الاجتماعية يوفر الإغاثة لمختلف الفئات المتضررة في المجتمع، لا أنْ يكتفي بتقديم معونة مالية واطئة للغاية للأرامل والمطلقات والمهجرات والمعوقات دون الاهتمام بالعبء العائلي الذي يتحملنه ممثلاً بعدد الأولاد والبنات دون سن الرشد!.
هذه تساؤلات يقدمها الكثير من المواطنين العراقيين المسؤولين ممن يطالبون بإجابات واضحة ومحددة، لا أنْ يصار إلى الإساءة إليهم والتحريض ضدهم في قنوات ووسائل تواصل اجتماعي تعتمد سياسات التأجيج وشحذ حروب الحقد والكراهية للتفريق بين بنات وأبناء المجتمع الواحد.