الذي يَعْرف أنه يَنسى
"كثيراً ما تتمثل سيطرتُكَ الرائعة
على التعلم، في ألا تَقَولَ شيئاً"
(هنري ميلر)
قرأتُ مرة قولاً لأرسطو طاليس، هذا نصه: "الشعر أكثر فلسفة، وأعلى قيمة من التاريخ".
وقابلني قول للشاعر الفرنسي بول فاليري، هذا نصه هو الآخر: "الشُعراءُ حُكّام غير منظورين".
وأرسلتْ إلي شابة معجبة بنزار قباني، بطاقة معايدة خطت عليها قولاً لنزار، هذا نصه: "أنا لا أحب النضوج في الشعر، أحب الجنون فيه".
أنتم، أعزائي القراء كُلكُم، أو أغلبكم، تفهمون قول ارسطو، ونصّ فاليري، وجنون نزار. لكني لا أفهم شيئاً في هذا كلّه، ولا من هذا كلّه، ولا حول هذا كلّه.
إليكم الحكاية: أنتم كلكم، أو أغلبكم، تعرفون أن أي نصّ هو حمّال أوجه. وتعلمون أن القصيدة، والأقصوصة، واللوحة التشكيلية، مثل "جبل الثلج". وهذا كلّه، وليس أغلبه أيضاً، لا أعرفه أنا.
ولكن ثمة من يزعم أنني أعرف في هذه كلها، وأدعي أنني لا أعرف فيه شيئاً، وقد انبرى ليّ أحدهم ذات يوم قائلاً: "كيف لا تعرف في هذه كلها، وأنت تجعل من بعض شخوص أعمالك القصصية.. أقنعة؟".
اضطربت قليلاً، لأنني أمام رجل يذكرني بطيب الذكر: "غريب المتروك"، الذي لا أذكر اسمه، أو أتذكر لقبه، إلا قليلاً هذه الأيام، ومع نفسي فقط، حين أدخل إلى "بيت الخلاء" في آخر هزيع من الليل، وأبدأ بالصراخ: "لماذا نَسَيْتَ أنك تتذكر يا فلان؟".
أما "فلان" هذا، فهو "علان بن فلان" وليس أنا.
سأقول لكم ما يشبه النصّ، وقد وجدته مكتوباً على أحد جدران مدينة "اليشن" التي عشت فيها قبل سبعة آلاف سنة. يقول النص: "أيها الولد، احذر "..."، ولا تحضر مجلسه، ولا تقبل هداياه، فإنّ في ذلك خراب نفسك، وفي خراب نفسك خراب العالم".
ولكنّ مثقفاً ضليعاً منكم سيقول لي: "هذا نصّ معلوم للإمام الغزالي، يرحمه الله، فكيف تقول انه عاش في مدينة "اليشن" السومرية؟
بيد أنني لا التفت إلى سؤاله، ولن التفت إلى تسآله، وابتسم في داخلي، وأقول: "إذا كان الغزالي يخاطب مريده محذراً، فمن هو المحذرُ منه؟
أنا أعرف أني أعرف أنني أنسى. نعم، أنسى ولا أتناسى أبداً، لأنكم -أعزائي القراء- أكثر مني سيطرة على أقلامكم.
أليس كذلك أيها الولدُ الجميل؟
جمعة اللامي
www.juma-allami.com
juma_allami@yahoo.com