الضريح الحافي*

2014-02-02
الضريح الحافي*


 

 نبيذ احمر... وعرق اسود
في "السوق الداخلي". (**)  

 

الاثنين : 10 / 9 / 2007
خاطبني شكري ( من داخل تربته ):
ـ يا "جُو..مُو..عاه"، هاك عقد النور، ودع طوق النار لي.
تناولت العقد: وقلت: "يا نار كوني برداً وسلاماً على الشريد، بإذن الله".

هطلت السماء، فجأة، نثيثاً خفيفاً، أخذ يشتد برهة بعد أخرى، حتى صار الماء غمراً. وسمعت شكري ينادم نفسه: "هذه هي السعادة اذن: إنها لا تحط على الكتف وتغرد. إنها تظل على حافة الشرفة".(*)
قلت:
ـ "أنت على حق"
وكان "أدريس الخوري"، يقول:
ـ " انتما على حق . سيجد لنا الأصدقاء عذراً".

وكنا قد تأخرنا كثيرا ، انا و" بدريس" ، كما إعتدنا ان نسمي ادريس ،عن موعد جمعنا في داراحد الاصدقاء الفلسطينيين من مشارب مختلفة، منهم من صار الآن المسؤول الأول في حزب المعارضة والحكم ، بينما فضل عبداللطيف اللعبي ان ينتظر قليلا قبل ان يشد الرحال الى باريس .
قال لي : " هناك سمائي الثانية " .
وكان عبدالجبار السحيمي يجلس بجوار محمد برادة ، وهو يستمع الى احاديث الزملاء .

كان ذلك اللقاء من الفرص النادرة التي تلتقي فيها مروحة الطيف الثقافي المغربي بهذا الوسع والصداقة التي جمعت تجربة متميزة تحت لواء اتحاد كتاب المغرب .
كان ذلك يشبه الى حد بعيد وضع السوق في ذروة حركته .

وكنا عند عتبة "السوق الداخلي".
دخلنا في فم السوق الكبير بمدينة الرباط ، وتقدم بنا شكري الى أزقة ضيقة تشبه قنوات مائية . وقفنا أمام دكاكين لم أعرف أصحابها ، لكنهم كانوا ينادون على شكري بترحاب كبير . واخيرا دلفنا الى مكان لايميزه سوى أرائكه الخشبية الباهتة .

قال شكري :
ـ هذه مقهاي .
ايده بَدْريس .
ثم رحب بنا رجل خطف مسرعا ، خمنت انه النادل .
قال شكري :
ـ نبيذ .
ولّىّ الرجل الى غُريفة ما في مقهاه .

بعد ساعة ، سكرنا . كنا نشرب نبيذا وطنيا أحمر.
قال بَدريس :
ـ لا يوجد هنا عرق عراقي .
قلت :" معي بطل اسود ".
فتحت حقيبة صغيرة ترافقني ، فعاط بَدريس:
ـ جاردينيا ، جاردينيا .
وكان شكري يراقب ما نعتزم فعله ساهما .

... ( قال لي عبدالوهاب البياتي ، ذات صباح من احد ايام " المربد الاول" :
ـ " تعال معي أعرفك على قاص مغربي ، يشاركك حياتك ".

وفي المساء كنا في حانة شعبية بصرية ، بين مجموعة من السكارى الشعبيين .
كان احدهم يغني "مْحَمَّدْ .. بُويَهْ .. مْحَمَّدْ " . ترجمت الكلمات العامية العراقية الى " بدريس " ، فقال : " هل هو حقا إمرأة ؟ " .
قلت : " نعم ، مسعودة " .

وبعد ذلك بايام ، كنا في حانة جاردينيا ببغداد :
ـ " سنسهر هذه الليلة مع مجموعة من الهيبيين . وعند منتصف الليل نتعشى شوربة عدس تحت جدارية جواد سليم . وهناك سوف ستقابل زعيم محتالي وشحاذي صوب الرصافة " .
علق شكري : " هؤلاء هم شخوص قصصك ".).

... ولم نقدم على فعل شيء غير تقليدي . كنا في حالة صحو فائقة ، بعد غابة من الكؤوس .
"بدريس" يراقب ناس المقهى ، وانا اعد خليطا من اللبن الرائب، والخيار المبروش، وشيئا من زيت الزيتون ، بعدما طلبت لحما مشويا ، وقلت :
ـ " لنتناول هذه الخلطة ، وعند ذلك تستقر امعاؤنا " .
وإستغرقنا في ضحكة مثل ضجة صامتة ، حسب تعبير بيتهوفن .

تعرفت على محمد شكري ، كاتب قصص قصيرة في مجلة " الآداب" البيروتية في سنوات عقد ستينات القرن الماضي . كنت سجينا في حينه بسجن " نقرة السلمان " الشهير. كانت والدتي تجلب معها آخر عدد من هذه المجلة ، مع كل " مواجهة " شهرية للسجناء . وكان عدد من الادباء الشباب ينتظرون قدوم " ام جمعة " في ذلك الموعد الذي لم يخل من كتاب لسارتر او كامو او سانت اكزوبري او مورياك .

قال شكري :
ـ "أنا لم اسجن لقضية فكرية . كنت أكره الشرطة" .
ـ هذا فال طيب ايضا .
قال شكري:
ـ "أكره ان يقفل علي أحد الباب"، ثم إلتمّ على جسده، فشاهدت، روحاً تصير رابعنا، بينما جسده وعاء فارغ. بصبص شكري قليلاً، وقال هامساً: "عَرِفَتني؟".
كانت طفلة صغيرة تمر بالقرب من مجلسنا، تحمل عقوداً من الورد البلدي.
تخير شكري عقداً، وقال:
ـ "هذه لك، يا حكمة الشامي".. ثم طوق عنقي بطوق الجورانيوم.

كان ذلك في 13 نوفمبر 1984.
...( تذكرت عقدا من ورد الجوري ، نثرته على راس اول فتاة صادفتها في شارع محمد الخامس ، وانا اتذكر تلك المراة البدوية التي كانت لي فضاءً دائما من ورد الجوري :

" ... إختبلتُ.
نعم ، ها إني أعترف : في ذلك اليوم الممطر من " نوفمبر " إختبلتُ.
رأيتكِ في شارع " محمد الخامس " تسيرين تحت المطر ، بلا مظلة ، وبلا نقاب .

ماذا أقدم لكِ ؟
في الطريق إلى صالة الفندق تخلصت من سترتي .
وحافياً وقفت أمام بائعة الورد .
ابتعت الجوريً ، وجريت خلفك.

ألا يحق لي أن أختبل خمس دقائق فقط ؟
نعم ، اخترت الخبال دقائق معدودات .
وهكذا : اقتربت منك ، عاينت حذائيك المبللين بالمطر ،
وتقصيت حبات المطر فوق شعرك الأسود ،

سبقتك خطوتين ، ووقفت أمامك :
سيدتي .. سيدتي . وأنحبس صوتي .
سيدتي ..
وسمعتك تقولين لرفيقك : ماذا يريد هذا المجنون ؟

اللحظة ، صرت الخبال نفسه : رميت الورد ، واحدة بعد أخرى ، فوق رأسك : آه لو تعرفين ، كيف كنت حينها : زهرة " رازقي " عراقية !

ماذا يريد هذا المجنون : سمعتك مرة ثانية .
وكنت مجنوناً بالجوري في عرض نهر الشارع . ورود تعفرت بالطين ، وسحقتها الأحذية ، ولوثها بصاق السكارى.

أخذت أجمع الورد ،
وردة بعد وردة ،
من بين الأقدام ، ووسط سخرية المارة ، وضممتها إلى صدري .
كانت وروداً معفرة بالطين ، سحقتها الأحذية ، وبصق عليها السكارى.
وكنت أصرخ :
أنا .. آخر مجانينك ... " )

جمعة اللامي
( **) من نص استذكاري لصديقي الراحل
محمد شكري ، بعنوان ( صلاة في مرشان )

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved