نبيذ احمر... وعرق اسود
في "السوق الداخلي". (**)
الاثنين : 10 / 9 / 2007
خاطبني شكري ( من داخل تربته ):
ـ يا "جُو..مُو..عاه"، هاك عقد النور، ودع طوق النار لي.
تناولت العقد: وقلت: "يا نار كوني برداً وسلاماً على الشريد، بإذن الله".
هطلت السماء، فجأة، نثيثاً خفيفاً، أخذ يشتد برهة بعد أخرى، حتى صار الماء غمراً. وسمعت شكري ينادم نفسه: "هذه هي السعادة اذن: إنها لا تحط على الكتف وتغرد. إنها تظل على حافة الشرفة".(*)
قلت:
ـ "أنت على حق"
وكان "أدريس الخوري"، يقول:
ـ " انتما على حق . سيجد لنا الأصدقاء عذراً".
وكنا قد تأخرنا كثيرا ، انا و" بدريس" ، كما إعتدنا ان نسمي ادريس ،عن موعد جمعنا في داراحد الاصدقاء الفلسطينيين من مشارب مختلفة، منهم من صار الآن المسؤول الأول في حزب المعارضة والحكم ، بينما فضل عبداللطيف اللعبي ان ينتظر قليلا قبل ان يشد الرحال الى باريس .
قال لي : " هناك سمائي الثانية " .
وكان عبدالجبار السحيمي يجلس بجوار محمد برادة ، وهو يستمع الى احاديث الزملاء .
كان ذلك اللقاء من الفرص النادرة التي تلتقي فيها مروحة الطيف الثقافي المغربي بهذا الوسع والصداقة التي جمعت تجربة متميزة تحت لواء اتحاد كتاب المغرب .
كان ذلك يشبه الى حد بعيد وضع السوق في ذروة حركته .
وكنا عند عتبة "السوق الداخلي".
دخلنا في فم السوق الكبير بمدينة الرباط ، وتقدم بنا شكري الى أزقة ضيقة تشبه قنوات مائية . وقفنا أمام دكاكين لم أعرف أصحابها ، لكنهم كانوا ينادون على شكري بترحاب كبير . واخيرا دلفنا الى مكان لايميزه سوى أرائكه الخشبية الباهتة .
قال شكري :
ـ هذه مقهاي .
ايده بَدْريس .
ثم رحب بنا رجل خطف مسرعا ، خمنت انه النادل .
قال شكري :
ـ نبيذ .
ولّىّ الرجل الى غُريفة ما في مقهاه .
بعد ساعة ، سكرنا . كنا نشرب نبيذا وطنيا أحمر.
قال بَدريس :
ـ لا يوجد هنا عرق عراقي .
قلت :" معي بطل اسود ".
فتحت حقيبة صغيرة ترافقني ، فعاط بَدريس:
ـ جاردينيا ، جاردينيا .
وكان شكري يراقب ما نعتزم فعله ساهما .
... ( قال لي عبدالوهاب البياتي ، ذات صباح من احد ايام " المربد الاول" :
ـ " تعال معي أعرفك على قاص مغربي ، يشاركك حياتك ".
وفي المساء كنا في حانة شعبية بصرية ، بين مجموعة من السكارى الشعبيين .
كان احدهم يغني "مْحَمَّدْ .. بُويَهْ .. مْحَمَّدْ " . ترجمت الكلمات العامية العراقية الى " بدريس " ، فقال : " هل هو حقا إمرأة ؟ " .
قلت : " نعم ، مسعودة " .
وبعد ذلك بايام ، كنا في حانة جاردينيا ببغداد :
ـ " سنسهر هذه الليلة مع مجموعة من الهيبيين . وعند منتصف الليل نتعشى شوربة عدس تحت جدارية جواد سليم . وهناك سوف ستقابل زعيم محتالي وشحاذي صوب الرصافة " .
علق شكري : " هؤلاء هم شخوص قصصك ".).
... ولم نقدم على فعل شيء غير تقليدي . كنا في حالة صحو فائقة ، بعد غابة من الكؤوس .
"بدريس" يراقب ناس المقهى ، وانا اعد خليطا من اللبن الرائب، والخيار المبروش، وشيئا من زيت الزيتون ، بعدما طلبت لحما مشويا ، وقلت :
ـ " لنتناول هذه الخلطة ، وعند ذلك تستقر امعاؤنا " .
وإستغرقنا في ضحكة مثل ضجة صامتة ، حسب تعبير بيتهوفن .
تعرفت على محمد شكري ، كاتب قصص قصيرة في مجلة " الآداب" البيروتية في سنوات عقد ستينات القرن الماضي . كنت سجينا في حينه بسجن " نقرة السلمان " الشهير. كانت والدتي تجلب معها آخر عدد من هذه المجلة ، مع كل " مواجهة " شهرية للسجناء . وكان عدد من الادباء الشباب ينتظرون قدوم " ام جمعة " في ذلك الموعد الذي لم يخل من كتاب لسارتر او كامو او سانت اكزوبري او مورياك .
قال شكري :
ـ "أنا لم اسجن لقضية فكرية . كنت أكره الشرطة" .
ـ هذا فال طيب ايضا .
قال شكري:
ـ "أكره ان يقفل علي أحد الباب"، ثم إلتمّ على جسده، فشاهدت، روحاً تصير رابعنا، بينما جسده وعاء فارغ. بصبص شكري قليلاً، وقال هامساً: "عَرِفَتني؟".
كانت طفلة صغيرة تمر بالقرب من مجلسنا، تحمل عقوداً من الورد البلدي.
تخير شكري عقداً، وقال:
ـ "هذه لك، يا حكمة الشامي".. ثم طوق عنقي بطوق الجورانيوم.
كان ذلك في 13 نوفمبر 1984.
...( تذكرت عقدا من ورد الجوري ، نثرته على راس اول فتاة صادفتها في شارع محمد الخامس ، وانا اتذكر تلك المراة البدوية التي كانت لي فضاءً دائما من ورد الجوري :
" ... إختبلتُ.
نعم ، ها إني أعترف : في ذلك اليوم الممطر من " نوفمبر " إختبلتُ.
رأيتكِ في شارع " محمد الخامس " تسيرين تحت المطر ، بلا مظلة ، وبلا نقاب .
ماذا أقدم لكِ ؟
في الطريق إلى صالة الفندق تخلصت من سترتي .
وحافياً وقفت أمام بائعة الورد .
ابتعت الجوريً ، وجريت خلفك.
ألا يحق لي أن أختبل خمس دقائق فقط ؟
نعم ، اخترت الخبال دقائق معدودات .
وهكذا : اقتربت منك ، عاينت حذائيك المبللين بالمطر ،
وتقصيت حبات المطر فوق شعرك الأسود ،
سبقتك خطوتين ، ووقفت أمامك :
سيدتي .. سيدتي . وأنحبس صوتي .
سيدتي ..
وسمعتك تقولين لرفيقك : ماذا يريد هذا المجنون ؟
اللحظة ، صرت الخبال نفسه : رميت الورد ، واحدة بعد أخرى ، فوق رأسك : آه لو تعرفين ، كيف كنت حينها : زهرة " رازقي " عراقية !
ماذا يريد هذا المجنون : سمعتك مرة ثانية .
وكنت مجنوناً بالجوري في عرض نهر الشارع . ورود تعفرت بالطين ، وسحقتها الأحذية ، ولوثها بصاق السكارى.
أخذت أجمع الورد ،
وردة بعد وردة ،
من بين الأقدام ، ووسط سخرية المارة ، وضممتها إلى صدري .
كانت وروداً معفرة بالطين ، سحقتها الأحذية ، وبصق عليها السكارى.
وكنت أصرخ :
أنا .. آخر مجانينك ... " )
جمعة اللامي
( **) من نص استذكاري لصديقي الراحل
محمد شكري ، بعنوان ( صلاة في مرشان )