أياً كانت الأسبقية بين الشعر والغناء؛ فما ثبت لنا على مرّ العصور الشعرية، هو تلك العلاقة الموضوعية الجدلية بين الفنّين، فحضور الثاني هو شرط لوجود الأول؛ وقد بدأ الشعر يستقل كيانه استقلالاً نسبياً، أقول هذا لأن الغنائية رافقت ألوان الشعر وأصبحت سمة تضاف الى سماته الأخرى بل إن هناك نوعا من الرثاء لا يخلو من الغزل هو رثاء الغزل! وهو أشيَعُ عند النساء في رثائهن للأزواج أو الأشقاء ومازال له حضور في الشعر الشعبي؛ بينما شاع هذا النوع من الغزل لدى شعراء الرومان -إثر تصدع الامبراطورية الرومانية وسقوطها- وهو ما يُعرف بLatin Love Elegy (P. A. Miller, Latin Erotic Elegy) .
مثلما كانت مكة قِبلة الشعراء من شتى أطراف الجزيرة العربية يؤمونها لينشدوا قصائدهم، كذلك كان شأن الغناء الذي كان استمراراً للغناء في عصر ما قبل الإسلام، باستثناء انقطاع قصير عند هجرة الرسول الى يثرب حيث شاع الغناء الديني من قبيل (م. الرمل):
أتيناكم أتيناكم *** نحيييكم نحييكم
ولولا الحبة السمراء*** لم نحلل بواديكم
،،، وطلع البدر علينا.. ثم عاد ليشكل امتداداً لِما كان عليه في العصر الجاهلي الذي كان يسود فيه غناء القيان (جمع قينة تقابل العبد في الذكور) وبالمعازف الشائعة نفسها من ضروب : البريط والمِزهر والربابة وهي من الوتريات، والمزمار والبوق من آلات النفخ، والدف والصنج والطبل من الإيقاعيات.. وكان الغناء في معظمه غناءاً دينياً للأصنام وخاصة عند الطواف حول الكعبة، والباقي للمناسبات كنبوغ شاعر في قبيلة، وفي الأعراس والحفلات الخاصة، ولعل في وصف طرفة بن العبد ( ت569م )لإحداها خير مثال ( الطويل ) :
نداماي بيضٌ كالنجوم وقينةٌ *** تروح علينا بين بُرد ومُجسدِ
إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لنا *** على رسلها مطروقة لم تُشدّد
اشتد استقطاب الحجاز -لا سيما حاضرتها مكة - منذ صدر الإسلام للمغنين والمغنيات، ومن أسباب ذلك، هو اتساع فئة أصحاب الجاه والثراء من أهلها، ولا سيما القريشيون منهم بسبب مردود الفتوحات الإسلامية وما جلبته من الموالي من غير العرب وخاصة الفرس فانتعش الشعر والغناء، بمثل ما وفد إليها المحدّثون ورواة الأحاديث من قبيل ابن عُيينة، ومالك صاحب الموّطأ والشافعي وابن حنبل وغيرهم.. فلم يعد الغناء/الشعر مقصوراً على الحِداء والركباني وإنما ظهرالنصب بأنواعه الثلاثة الهزج والسناد الخفيف والسناد الثقيل ( يُراجع إضافة الى الأصبهاني في أغانيه؛ الأندلسي ابن عبد ربه في عقده 6/28؛ والسيوطي في مزهره 2/236 ) ما يشكل أساسا في تطور الغناء العربي الإسلامي .
وإذا كان الغناء يُغنّى بأبيات من الشعر تغنيه القيان بطريقة أقرب الى الارتجال فإنه قد تطور في الحجاز وفي مكة تحديداً بسبب من قصائد خصصها الشعراء للغناء، ورائدهم ابن أبي ربيعة ولحنها ملحنون بارزون ومغنون محترفون في الحاضرتين المتنافستين مكة أولا والمدينة ثانيا قبل أن ينتقل الى حواضر أخرى كدمشق والبصرة والكوفة وبغداد والموصل وحلب ومن ثم الأندلس عبر بلدان شمال أفريقيا.. وكان أهم مغنٍّ هو طويس (ت711م) الذي ضرب به المثل الشهير " أشأم من طويس" لموافقة مولده وختانه وزواجه بأحداث وفاة مشاهير من الأعلام، بيد أن الخرافات هذه لم تقلل من شأنه ومن منافسته لمغنيي مكة ابن سريح ( ت724م ) .. ولسنا بصدد تعداد مطربي ومطربات الحجاز، إنما نريد أن نقول أن الغناء والشعر تطورا وبقيا يرفد الثاني الأول ومع تغير شكل القصيدة تغير الغناء، ويمكن القول أيضاً أن الغناء أثّرّ من جانبه في الشعر فتولد الموشح والمواليا والقدود والمالوف والعتابة والأبوذية وما الى ذلك مما يمكن المرور عليه في حينه.
وقد تأثر الغناء في التغيرات الاقتصادية والاجتماعية ثقافيا وحضاريا في العصر الأموي لتبز الحياةَ في الحجاز التي بقيت ترفد الدولة الأموية بخيرة المطربين والمطربات، وقد أدرك المغنون ذلك إذ لم يعد الغناء يلبي هذا التطور وأدركوا من احتكاكهم بالموالي من الفرس تقدم الغناء فراح المطربون يجوبون بلاد فارس ينهلون من ألحانها التي هذّبوها وطوّروها بما يتماهى مع الحياة العربية وكان من هؤلاء أبو الخطاب مسلم بن محرز (ت 140ه) الذي لقّب بصناج العرب، وسعيد بن مسجح ( ت704م ) وغيرهما ..
ويورد ابن عبد ربه الأندلسي، ما يُميط اللثام عن أهمية الشعر في تطور الغناء في هذا العصر: وهو أن مروان بن الحكم (2-65ه) الذي أصبح والياً على الحجاز، عاب على عبد الله بن جعفر بن أبي طالب اقتنائه الجواري والمغنيات فما كان من عبد الله إلا أن قال له :" وما عليّ إلا أن آخذ الجيد من أشعار العرب وألقيه الى الجواري فيترنمن به، وينشدنه بحلوقهن ونغماتهن".. وفي السياق نفسه نوجز حكاية لها عدة دلالات بما في ذلك أهمية الشعر في الغناء: ومعاوية بن أبي سفيان ( 602-680م ) الخليفة الأُموي عندما زار المدينة حاجّاً، عاب هو الآخر عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فلم يعدم هذا الأخير وسيلة ليرجع الأمور الى نصابها مع بن أبي سفيان الذي تظاهر بالتقوى، فأعد عبد الله له وليمة جلب اليها المغني ابن صياد وأوصاه قائلاً له:" إذا رأيت معاوية واضعا يده في الطعام فحرِّك أوتارك وغنِّ" فلما فعل معاوية، حرّك ابن صياد أوتاره وطفق يغني من شعر عَدي بن زيد العبادي ( ت35 ق.ه/587م ) وكان مفضّلا لدى معاوية ( من المديد ) :
يا لُبيْنى أوقدي النارا *** إنَّ من تهوْين قد حارا
رُبّ نارٍ كنتُ أرقبُها *** تقسم الهنديَّ والغارا
ولها ظبيٌ يؤججُها *** عاقداً في الخَصرِ زنّارا
فنفض معاوية يده عن الطعام وجعل يضرب الأرض بقدمه طرباً وعند ذاك قال عبد الله:" إنما هو مختار الشعر يركب على مختار الألحان فهل ترى بأساً به؟ فأجاب معاوية: " لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان" ( ابن عبد ربه الأندلسي، العِقد الفريد/الياقوتة الثانية؛ والموسوعة العربية فصل الغناء )، وحسبنا في ذلك حكمة!
ولئن شجع معظم خلفاء بني أمية الغناء وما يمت الى الغناء من طرب ومرح وما تفعله الأصوات والأشعار والمعازف وما يصحبها من سوائل سائغة؛ فإن عبد الملك بن مروان ( 26-86ه ) قد شجب الغناء ويروى أنه قال على الملأ :" قبح الله الغناء ما أوضعَه للمروءة وأجرحه للعِرض وأهدمه للشرف واذهبه للبهاء" ( الموسوعة العربية/الغناء في العصر الأموي ) وأمر بمصادرة أموال المغني سعيد بن مسجح أحد أشهر المحدثين في الغناء ( ت704م ) الذي فتن الناس في مكة بغنائه؛ ولكن مهلاً فإن الأمور بخواتيمها كما يقال، فلنرَ ماذا حصل حين حُمِل إليه هذا المغنّي فغنّى له بين يديه حِداء عربيا صافيا فلما انتهى طلب منه عبد الملك أن يغني الغناء المتقن ( النصب المطوَّر ) فطرب الخليفة وأجزل له العطاء، وأمر برد أمواله!! لم يشذ عن سماع الطرب ومجافاة أهله وشعرائه سوى الخليفة عمر بن عبد العزيز (61-101ه)..
أما التطورات التي لعبت دوراً هاما في تطور الشعر والغناء في العصر العباسي والتي أثّرت بشكل القصيدة، وأخرجت اللون المُغنّى من القصائد ضمن سلالم الموسيقة الشرقية وألوان من الشعر المغنى كالموشحات فلنا وقفة أخرى معه..
رام كم هنغ 8/12/2014