قبضت شرطة نيويورك في احدى عمارات مانهاتن على ضابط من المحاربين القدماء في الحرب العالمية الأولى وهو في الخامسة والتسعين من العمر بتهمة قتل عشيقته وهي في الثامنة والثمانين . وقالت الشرطة أن مشادة وقعت بين القاتل (( اوليفر بار )) وعشيقته (( نورما )) لأنها اتهمته بهجرها من أجل امرأة )) كذا ...
في مثل هذه السن المتقدمة الباردة , الغيرة المرعبة القاتلة وحدها تجعلنا نواجه حقيقة أشد هولا الا نكون متسلطين , ومتملكين , ومستأثرين ,و ألا نثير الشبهات ونخضع للمراقبة ونتدخل بحياة الشريك الآخر .
لقد قامت محاولات وتجارب عديدة لخنق الغيرة , ولكن , في النتيجة , لم يتمكن أحد من اخفاء هذه (( الرعشة السيئة )) في الإنسان و وأدها إلى الأبد .
فالغيرة المتأججة ,كامنة في كل فرد , وهي تسمم وجوده , وقد زال كل أمل بالقضاء عليها كمرض مزمن .
وعلى الرغم من ملايين الصيحات التي تعلو مرددة بشكل جهوري : (( لسنا غيورين )) و (( الغيرة لا تعنينا )) و(( الغيرة وهم )) فلا بد من التأكيد أنهم يكذبون ويحاولون المستحيل , وليس باستطاعة أحد منهم التخلص من هذا الوهم !
فما من أحد قادر اليوم على أن يدعي أنه لا يغار و ما من أحد ينكر أنه يسمم الآخر أو يسمم نفسه .
فمن وحي (( اوليفر )) و (( نورما )) اللذين دفعا ثمن الغيرة غاليا في هذا السن , أحل ضيفا على هذا المنبر وأرجو ألا أكون ضيفا ثقيلا , لأعرض حالتين مختلفتين من الاعترافات عن الغيرة مقطوفتين من دفتري (( شارلوت ...))و (( ياسمين ...)) .
ـ 1 ـ
(مقطوفة من دفتر "شارلوت")
أنا غيورة بشكل مخيف , وعشت مع زوجي حالة مشتركة هي نوع من الجنون . كنت أشعر بالغيرة عندما كان يذهب إلى القاء محاضراته , وعندما يخرج ليشتري علبة سكاير , وعندما يتحدث عن فتاة , وعندما يذهب لتناول العشاء عند والديه فقد كان معرضا في كل لحظة لأن يلتقي احداهن , وهذا الأمر كان يرعبني !
و لا أنكر أنه بدوره , كان عنيفا جدا في تصرفاته معي . كنت إذا سمعته يتبادل الكلام مع احداهن , وخصوصا إذا كانت شابة , اقيم الدنيا على رأسه عدة ايام , وأتصرف معه بسخف غير مقبول وأبكي . وأتلفظ بكلمات نابية وقاسية , وأعنفه واستعمل أحيانا لغة سوقية .
ومن المؤسف , أنه هو أيضا كان يعاني تجاهي من الغيرة . فلم يكن يتحمل أن أوجه الكلام لأي انسان , وإذا حصل ذلك اساء معاملتي عند عودتنا إلى البيت وأتهمني بأنني امرأة ساقطة . وقد جعلتني هذه الحالة أشعر بالانطفاء و الذبول .
كنت عندما آتي اليه في مكتبه , اقلب اوراقه و أعبث بمحتويات المكتب ... افتش دفاتره , ولا اتورع احيانا عن استعمال بعض ارقام الهاتف التي كنت اجدها في مفكرته .
فمن يدري , قد يكون رواء أسم جمال أو سهام وغيرهما من الأسماء المشتركة امرأة لا رجل . وكنت أحيانا امثل أدوارا رهيبة اذا ما اعارته احدى الصديقات اهتماما او لفته , وإذا ما رأيت شعرة على سترته أو خرج قبل الوقت بدقائق !
وكان هو يعاملني بالمثل فيعبث برسائلي و أوراقي , وكانت مفكراتي تختفي دون أن أدري سببا لهذا الاختفاء . وكان يحرص على مرافقتي إلى السوق كلما وددت ذلك , وإذا لم يستطيع اصر على أن اتصل به بالهاتف لأبلغه بمكان وجودي .
هذه الغيرة التي كانت ضربا من الجنون , لم تكن مبنية على أساس , ولم يخن احدنا الآخر ابدا .
في السنة الفائتة , غاب لمدة شهر , حيث أمضى عطلة آب بعيدا عني . في غيابي التقيت بأحد الشبان وتعرضت معه إلى مغامرة صغيرة وعندما عاد زوجي من عطلته اعترفت له بما حصل لي , فاعترف هو لي بدوره أنه تبادل الاعجاب مع احدى الفتيات و أنه استحم و أياها عند منتصف الليل , في ضوء القمر , و أنهما شوهدا معا طوال الوقت , ولكنه لم يمارس الحب معها !
وسقط الخبر علي سقوط الصاعقة , وانتهى بيني وبينه كل شيء و لم يعد باستطاعتي أن أمارس الحب معه , تحت تأثير الصدمة . يكفي أنه رآها عارية ! ونمت في داخلي , تحت تأثير الأوقات التي امضاها معها , موجة من الرفض .
ووقعت القطيعة , فلم تقم بيننا اية علاقة لمدة سنة . كنت ارفض دائما أي اتصال . وصار هو حزينا حتى الشفقة . لم يكن باستطاعتي أن أدعه يلمسني . كان ذلك ضربا من المستحيل . وباتت كل حركات التودد التي تصدر عنه لا تحتمل , وكل ما بيننا يقززني و لم أعد احتمل أي شيء منه : لا الطريقة التي يمشي بها و لا كيف يتكلم , ولا كيف يأكل , و لا كيف يتحرك ويقود سيارته .
العلاقة بالنسبة لي انتهت . صار باستطاعته ان يفعل ما يشاء مع من يشاء . لم يعد الأمر يهمني ولم ابذل أي جهد كي ارضية وصرت اخرج وحدي وأتأنق وأتجمل بينما كنت معه مهملة وسخيفة . ولم أعد اتحفظ في ما يتعلق بحميمياتي وصرت أتصرف كما لو أنني أعيش وحدي في الشقة . وإذا كنت قد قبلت بأن استمر في مقاسمته المنزل فلأنه كان صعبا علي أن أعيش وحدي !
أما هو فلم يتركني لحظة , وكان يبحث عني في كل مكان و يحاول أن يضاجعني كل ليلة . والتزمت الصمت معه . لم أعد أوجه اليه أيه كلمة .
... وانتهى الأمر بيننا عندما وجدت شخصا آخر بدلا منه فتركته !
ـ2ـ
(مقطوفة من دفتر "ياسمين")
الغيرة عندي تصل إلى حد الجنون, وغيرتي تقوم على ظاهرتين :
الظاهرة الأولى , مراقبة الشريك الآخر بشكل مستمر ... والظاهرة الثانية , الرغبة في أن اجعله غيورا ... كان متزوجا وقد اقسم لي بأنه لايقيم اية علاقة مع زوجته . لم اصدقه وكان علي أن اتحقق من ذلك ! فكنت اعمد إلى الاتصال به بالهاتف اما بعد منتصف الليل أو في الصباح الباكر كي انغص عليه لذته إذا كان يطارحها الغرام وكان من الطبيعي الا اكشف له عن اسمي . كنت اكتفي بان اطلق اليه همهمة جنسية وهتافا مثيرا وحمحمة , مع انني كنت اعتقد جازمة أن من شأن هذه الحركات والتصرفات أن تسيء إلى علاقتنا وتبعده عني !
و مع علمي الأكيد أن زوجته وحدها هي التي تثير غيرتي كنت اتهمه بأنه يخونني مع امرأة اخرى , ولا مانع لديه من أن يفعل ذلك !
و كنت ادفع احدى صديقاتي لأن تحدثه على الهاتف و أتنصت لأعرف إذا كان سيحاول مغازلتها .
كنت اترصد خروجه عند طرف الشارع قريبا من بيته , عند الساعة السابعة صباحا و أراقبه و ألاحقه وأحصي عليه تصرفاته .
و كنت احيانا اتخفى , اغير شعري , اضع شعراً مستعاراً، وأخفي عيني تحت نظارات سوداء كبيرة وارتدي ثيابا لايعرفها ومن شأنها أن تخفي قامتي الحقيقية , ولو كنت في وضع مادي مريح لكلفت شرطيا خاصا يتعقبه .
وكنت اعمد احيانا إلى سحب رسائله من علبة البريد , وعندما لاأجد فيها ما يثير الشبهة اعيدها إلى مكانها .
كنت أراقبه ليل نهار الاحقه وأبحث عن دليل و كنت مقتنعة بأنني لابد واصلة إلى مثل هذا الدليل !
كان همي أن اجعله غيورا .
أنا لا اعتبر الغيرة دليل حب بل دليل اخلاص .
كانت لدي طريقة خاصة بي . من الصعب جدا اثارة غيرة الشريك الآخر إذا كنا مخلصين له .
أنا هنا لا ابتدع اسباب لعدم الاخلاص , ولكنني اضع نفسي في جلد امرأة غير مخلصة , وأتبني ردود الفعل عندها , أي أنني اعمد إلى اعطاء تفاصيل دقيقة عن كل ما افعل , وهذا يعطي الانطباع بأنني في صدد بناء علاقة جديدة .
ذات مساء ظهرت فرحة جدا دون ما سبب معين , ثم اخذت , في عدة عطلات اسبوعية ادعي له بأنني سأذهب لمشاهدة اهلي , بينما ابقى قابعة في بيتي لا اغادره . وكان يجد هذه العاطفة نحو اهلي في غير محلها , خصوصا وأنني لم ارهم منذ سنوات , مما اثار لديه الشك بأنني اعد له مقلبا .
وذات يوم اهدى لي أخي ساعة يد , فسألني إذا كانت هدية فنفيت وأدعيت له أنني اشتريتها . فظهر له الأمر تافها باعتبار انه يعرف أنني لاأملك فلسا . وفجأة ظن أنني اكذب عليه وأن هناك رجلا قدمها إلي وظهرت غيرته في اللحظة ذاتها , بشكل باهت , ثم ما لبث الأمر أن عاد إلى طبيعته .
كان الرجل الوحيد الذي حولني إلى امرأة غيورة لأنه الوحيد الذي احببته بشغف !